انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 673/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 673/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 05 - 1946



يوميات جينيفييف

للكاتب الفرنسي مارسيل بريفو

عضو المجمع اللغوي الفرنسي

بقلم الدكتور محمد غلاب

4 - حسن الختام:

يونيو في مدينة تالوار.

إن كل ما يحوطني الآن مفعم بالهدوء والسلام والعظمة والجلال والابتسام، وحول منزلنا الصغير النائم تحت أشعة الشمس تبدو الجبال زرقاء وبيضاء. وقبالة هذا المنزل توجد البحيرة العظيمة بلونها الفضي، وباريس الآن بعيدة.

نعم باريس بعيدة وكذلك الماضي بعيد، وتلك الساعات القاسية التي احتملتها والتي كنت أتصور أنها ستقضي على حياتي، كل ذلك قد انتهى كما انتهى الماضي البعيد، والحياة الآن ستستأنف متحدة مضيئة. ولقد كان هذا التغيير فجائياً بدرجة لا أكاد أصدقها.

يا عجبا! إن آخر سطر في مذكراتي الماضية كان غاية في اليأس والقنوط، وهو: (لأن أقدم حياتي خير من أن أقدم أمانة زوجي أو صحة ولدي).

ولقد كنت أكتب هذه المذكرة في حجرة الطفل المريض وبجانب سريره، وكانت الحاضنة تقرأ في تلك اللحظة نبأ قدوم الطبيب في الساعة الخامسة، وكنت أنتظر حضوره في جزع شديد، ولو أني كنت عارفة قراره مقدماً، وهو قوله: لا جديد، فلننتظر. وفي الواقع لم يكن هنالك جديد، إذ أن جسم الطفل كان غارقاً في العرق، وهو يئن في سريره في وسط نوم مضطرب. وعند الساعة الرابعة من مساء ذلك اليوم دخل خادم زوجي ولقد كنت أكره لونه الذي هو مزيج من: صفرة وزرقة ورمادية، وعينيه اللتين لا يمكن كشف ما وراءهما، وفمه ذا الشفتين اللتين لا تكادان تريان من كثرة انقباضهما، فسألته قائلة:

- ماذا تريد يا جوزيف؟

- إن سيدي الكونت يسأل سيدتي أصحة سيدي الفيكونت أحسن الآن؟ - إن سيدك إذا لم يخرج.

- لا يا سيدتي، إن سيدي ظل من بعد الغداء إلى الآن في مكتبه، وهو يرجو من سيدتي أن تنبه حينما يحضر الطبيب.

- حسن يا جوزيف، ستنزل الحاضنة لتنبئ سيدك عندما يحضر الطبيب.

لم يكن زوجي إذا قد خرج، لأنه كان قلقاً على صحة الطفل وكان يريد أن يحضر زيارة الطبيب، فهل كان أحد يصدق ذلك؟ لقد زاد هذا الاهتمام الفجائي بصحة الطفل من غضبي حتى أحسست في تلك الساعة أن الحقد يتضاعف في نفسي إلى درجة أني لم أعد أحتمل حنانه عليه وقلت في نفسي: ليتركني وحدي مع هذا الصغير العزيز المريض، وليذهب إلى تلك المخلوقة. ولا ريب أن كبرياء الألم هي التي خلقت عندي هذه العاطفة، لأنه كان ألماً مبرحاً.

وبعد الساعة الخامسة بقليل حضر الطبيب، ولما نبأت الحاضنة الكونت صعد فوراً، وكان في هذه اللحظة يختلف كثيراً عن طبيعته المفعمة بقوة الإرادة والشجاعة إلى حد أنني أحسست بالشفقة عليه، لأنه كان متألماً من ذلك العراك الذي كان يحتل نفسه في تلك الساعة بين هذا الخلق الكريم الحقيقي الذي حببه إلى الناس جميعاً، وبين ذاك الهوى الوضيع الذي كانت نفسه تلح عليه في إطاعته.

(لا جديد فلننتظر). هذه الكلمة التي تنبأت بها قالها الطبيب بحروفها وهو يضع على الوسادة رأس الطفل بعد أن فحص جسمه.

أعاد الطبيب كلمة (فلننتظر) وأضاف إليها قوله: يجب أن تستعدوا لكل شئ، فالأزمة بدأت تتطور، وسيظهر في هذا المساء حدث جديد، ولو أن في الأمر شيئاً سيظهر لما استمرت الحمى على هذا النحو، فهل عندكم طبيب ماهر في هذا الحي ليلاحظ الطفل في حالة حدوث ما لا ينتظر؟

- نعم. يوجد طبيب ماهر في ميدان (بوفو) وهو: الدكتور (جيل).

- إنه لشاب ذكي، وإني أعرفه وسأكتب إليه كلمة، لأوصيه بكم، فإذا ما حدث أي شئ جديد فأدعوه على عجل في أية ساعة كانت.

- انصرف الطبيب وبقيت مع راءول وحدنا في الحجرة، فتصنعت أني لا أنتبه إلى وجوده، إذ كنت أسير في الغرفة جيئة وذهاباً دون أن ألتفت إليه أو أحادثه، وأخيراً قال بلهجة غير طبيعية:

- (إنني سأتعشى الليلة في المنزل يا جينيفييف)

وحينما كان ينطق بهذه الكلمة كنت أقرأ في نفسه كأنما أقرأ في كتاب مفتوح أمامي هذه الأفكار الآتية: (إنه لرديء من جانبي أن أترك جينيفييف المسكينة وحدها في مثل هذا القلق فلنتوسط في الأمر، ولنمنحها مرافقتنا إياها في العشاء، تلك المرافقة التي ستجن بها سروراً، وبهذا أكون قد أديت واجبي ثم أذهب بعد ذلك إلى شارع (فيزيليه).

وفي الواقع أنه لو كان قد عرض علي هذا العرض قبل ذلك اليوم بليلة واحدة لقفزت فرحاً وطرت سروراً، ولكن اليقين الذي احتل عقلي اليوم من جهة، والقلق المضني على صحة الطفل من جهة أخرى قد غيراني تماماً فأجبته في فتور قائلة:

- تعش هنا إذا أردت يا صديقي، أما أنا فلن أنزل إلى حجرة المائدة لا سيما وأنني لا أرغب في الأكل.

وعلى أثر سماعه هذا الجواب حل اليقين من نفسه محل الشك وآمن بأني لا بد أن أكون قد عرفت شيئاً، فامتقع وجهه ورأيت في عينيه أنه يتردد في أن يعترف لي بكل شئ وأن يطلب مني الصفح والتصافي، ولكن تأثير الرغبة السيئة لم يلبث أن غلبه على أمره فاكتفى بأن يقول لي في لهجة فاترة: (حسن! اعملي ما تريدين) وقد كنت إذ ذاك منحنية على الطفل، فلم يتجرأ على الاقتراب منه، ثم تردد قليلاً، وأخيراً خرج. وعلى أثر ذلك طفقت الساعات الطويلة تسير في بطؤ، وأنا جالسة إلى جانب سرير المريض الذي يئن في نومه، وفي كل دقيقة أنحني عليه وأنظر إلى جسمه الذي أخذ يزداد حرارة وحمرة، ولكن لم يظهر على جلده شئ من الحبوب. وفجأة هدأت الحمى وأخذ المريض في التحسن واستيقظ وطلب لعبه، فأفهمته ألا يكشف ذراعيه وصدره فأذعن ونام في هدوء مطمئن، فلما رأيت ذلك سررت واستسلمت إلى النعاس، فأخذتني سنة من النوم لم تطل، إذ لم ألبث أن استيقظت على أثر حركة خفيفة أحسست بها، فلما تبينتها وجدت زوجي منحنياً على سرير الطفل يحدق إليه بعناية وكان مرتدياً ملابس الخروج، غير أنه قد ارتدى فوق هذه الملابس (جاكتة) منزلية، وكانت الساعة إذ ذاك التاسعة والثلث فقلت في نفسي: إنه سيخرج، وبعد نصف ساعة سيكون بين ذراعي تلك المرأة. وفي الحال خطرت لي فكرة انتظاره في ذلك المنزل كما كنت قد قررت آنفاً، ولكن هذه الفكرة لم تبق في رأسي إلا لحظة قصيرة، إذ وجدتني أقول في نفسي: (كلا، كلا، إن مكاني ليس هناك، بل هو هنا).

وفي الحال قدمت لي بإخلاص إلى إلهي ضحية كبريائي وعاطفتي كزوجة محبة لينجى لي هذا الطفل.

وفجأة هتف راؤول قائلاً:

- (جينيفييف جينيفييف!)

فنهضت واقفة لأني أيقنت أن هذا الإيقاظ له علاقة بصحة الطفل، وفي ثانية واحدة انمحى من نفسي كل الحقد الذي كنت أحمله له ثم قلت:

- ماذا؟ ما الذي حدث؟

- انظري

قال هذا وأشار إلى نقط كحبات العدس قد أخذت تنتشر في وجه الطفل وذراعيه، ولونها أحمر باهت، فصحت في جنون قائلة:

يا إلهي يا إلهي ما هذا؟ إني أرجو على الأقل ألا يكون الجدري قل لي يا راؤول. وفي هذه اللحظة تناولت يده وضغطت عليها ناسية كل شئ.

- امكثي هنا يا جينيفييف فسأذهب لإحضار الطبيب ثم خرج. وفي الوقت الذي فصل بين خروجه وعودته كنت أنا والحاضنة تائهين نذهب ونجئ في الحجرة تارة، وننحني من النافذة لنسمع ضجيج المركبة تارة أخرى. ولقد كنت أدعو ربي وأتوسل إليه وأجدد النذر القديم وهو أن أحتمل في سرور خيانة زوجي كزوجة خاضعة تحرس في أمانة منزل الخائن.

وفي النهاية عاد الكونت يصحبه الطبيب فأخذ يفحص الطفل وكنا في هذه اللحظة: أنا وراؤول ننتظر حكمه مرتعدين كطفلين يسيران في الظلام، وكان كل منا يعتمد على ذراع الآخر رهبة وخوراً. ومضت على هذا خمس دقائق كاملة قبل أن يفوه الطبيب بكلمة، وأخيراً قال:

- أنا أظن أنه ليس في الأمر خطر، أظن ولست متأكداً، لأن المرض لم يتحدد بعد.

- فقلت في تمتمة مضطربة:

- ولكن على كل حال هل هو الجدري.

- لا، يقينا إن هذا ليس هو الجدري.

كان الطبيب يقول هذه الكلمة ببساطة وهو لا يدري أنه قد رد بها إلي التنفس والحياة. وعلى أثر ذلك سقطت بين ذراعي راءول فاقدة القوى وإن كنت قد أحسست أن ثقة خفية بزوال الخطر قد احتلت نفسي دفعة واحدة وشعرت بالرضى والسعادة، فطفرت من عيني دموع غزيرة لا أدري أهي دموع رد الفعل أم دموع السرور، ثم انتابتني على أثر ذلك أزمة عصبية لم أفق منها إلا حين لاح نور الصباح. وحينئذ وجدت راءول جالساً عند وسادتي فلم أشأ أن أضيع الوقت في سؤاله عن سبب جلوسه بجانبي، وإنما هتفت به قائلة: ورينيه كيف هو؟.

- إنه الآن أحسن حالاً، وإن مرضه لخفيف وبسيط، وإن الحبوب الآن بادية على وجهه بهيئة تجعله دميماً في هذه اللحظة فقط، ولكن الخطر قد زال، والحاضنة والخادمة - ساهرتان عليه. وأنت كيف صحتك؟

- أنا صحتي جيدة جداً.

وإذ ذاك أردت أن أنهض فخانتني قوتي وسقطت على الوسادة فقال راءول وهو يقبض على يدي.

- مسكينة يا صديقتي.

وبعد ذلك ساد بيننا صمت كنت أثناءه أقول في نفسي: من حيث أن راءول هنا فهو إما أن يكون قد عاد من شارع فيزيليه وإما أنه لم يذهب ثم سألته قائلة:

- في أية ساعة عدت يا راءول؟

- إني عدت مع الطبيب، وإني بجانبك منذ أن نمت إلى الآن.

قال هذا وقرب وجهه من وجهي فتمتمت قائلة:

ثم ماذا إذاً؟

وإ ذاك فهم كل شئ، فأجابني بصوت خافت: إذاً. . . أن أحبك وحدك وينبغي أن تصفحي عني، وهذا هو كل شئ وعلى أثر ذلك تبادلنا قبله لم نذق مثلها منذ عهد خطبتنا!

مضت على هذا الموقف ثلاثة أسابيع جعلت صحة الطفل أبانها تتحسن باطراد حتى استطعنا أن نسافر به إلى (تالوار). وها نحن أولاء بمنزلنا سعداء شأننا في صيف كل عام. ولقد أطلعني راءول على برقية وردت إليه من هذه المرأة في صباح تلك الليلة المزعجة، وقد جاء فيها ما يلي: (لقد انتظرت أمس ساعتين كاملتين في هاتيك الغرفة الدميمة، وإنني لا أحب الأشخاص السيئ التربية فعم مساء يا سيدي).

ويبدو أن هذا ال (عم مساء) كان معناه الوداع الأخير. أما الآنسة جيفيرني فهي ستتزوج.

إن الطفل قد برئ تماماً، وإنه لجميل كما كان ولم يبق في وجهه أي أثر للحبوب، وإن الدكتور روبان قد قال لي: إنه سيكون شاباً فاتناً له من أسيرات حبه مثل ما لأبيه.

فأجبته قائلة:

- مثل أبيه! إني أسأل الله أن تكون أسيراته في الغرام أقل عدداً من أسيرات أبيه.

محمد غلاب