مجلة الرسالة/العدد 673/الشرق كما يراه الغرب:
مجلة الرسالة/العدد 673/الشرق كما يراه الغرب:
الصين الجديدة
للأستاذ أحمد أبو زيد
إن أول ما يتبادر إلى ذهن الإنسان حين يذكر اسم الصين هو ذلك الجمود الذي ران عليها طويلاً دون بقية أمم العالم، حتى صارت بذلك رمزاً على التأخر والتخلف والمحافظة على القديم وعلى كل ما هو ثابت راسخ لا يكاد يتحرك ولا يتغير ولا يتطور. ولقد كان للصين في يوم ما حضارة تعتبر من أقدم وأرقى الحضارات التي عرفها الإنسان، ولكن الصين اليوم تأتي في ذيل الأمم المتحضرة المتمدينة.
ومع أن الناس جميعاً يعرفون عن الصين ذلك، إلا أنهم لا يكادون يعرفون عنها شيئاً صحيحاً عدا ذلك؛ وقد ساعد على هذا الجهل بالصين وبحياتها وبعادات أهلها بعدها النائي وشبه العزلة التي تعيش فيها، وبعد الشيء قد يكون سبباً كافياً للجهل به. ولكن الصين مع ذلك كتب عنها الشيء الكثير، ولكن كثيراً مما كتب بعيد كل البعد عن الحقيقة. . .
إن معظم الذين يكتبون عن الشرق من الأوربيين قليلاً ما يتوخون الحقيقة والواقع، وكثيراً ما يصدرون فيما يكتبون عن بعض أهواء وشهوات في نفوسهم يريدون إرضاءها ويظهرون الشرق على غير ما هو عليه، بل وحتى إذا كانوا منزهين عن تلك الأهواء والشهوات فقليلاً ما تكون كتاباتهم صادرة عن الفهم العميق الصحيح لما يرون أمامهم؛ لذلك قلما نجد كتاباً يتناول مسائل الشرق وحياته بدقة وصدق وفهم على الرغم من كثرة ما كتب عن الشرق وحياته.
ومن تلك الكتب الدقيقة القليلة كتاب عن الصين ظهر تحت عنوان: (الصينيون وكتبته سيدة تدعى وينفريد جالبريث أمضت فترة طويلة من حياتها بالصين؛ فقد نزحت إلى هناك من إنجلترا بعيد الحرب الكبرى الماضية واشتغلت بالتعليم في مدارس الصين، ولا تزال تعيش هناك حتى الآن، أو على الأقل حين أصدرت كتابها في عام 1942. ولا شك أن طول الفترة التي أمضتها في الصين، وطبيعة العمل الذي زاولته هناك، قد أتاحا لها فرصاً طيبة للوقوف على خصائص الحياة الصينية وأسرارها قلما تتاح للكثيرين. وعلى ذلك نستطيع أن نقول مطمئنين آمنين إن ذلك الكتاب صدر عن فهم عميق للصين وطبيعت وشؤونها المختلفة، كما نستطيع - من قراءته - أن نلمس بوضوح النزاهة والدقة والتجرد عن الغرض التي لازمت المؤلفة في كتابته. . . والكتاب على لطافة حجمه يتناول كثيراً من المسائل، فيعرض لتاريخ الحضارة الصينية كما يتناول آداب الصين وفنونها وقيم الحياة اليومية فيها ونظم الحكم بها وغير ذلك من المسائل. ولم تنس المؤلفة زيادة على ذلك أن تبين لنا ما يختلج في صدور أهل الصين من آمال وأمان في المستقبل وما يرجون لبلادهم من حياة جديدة زاهرة تغاير ماضيهم وحاضرهم، وإن لم تقطع الصلة بهما تماماً.
ولا تشك المؤلفة في أن الصين الجامدة الخامدة آخذت تفيق من سباتها العميق الطويل من أوائل هذا القرن، وأن قيام الحرب الصينية اليابانية قد ساعد على هذه اليقظة، بل ولعلها تكون المسئولة الأولى عنها، فأخذت تنفض عن نفسها ذلك الخمول الذي ضرب عليها، أو الذي ضربته بنفسها على نفسها، وتتجه نحو حياة أخرى، وتنتحل أساليب جديدة سواء في الصناعة أو الفكر أو السياسة تختلف أشد الاختلاف عن تلك الأساليب العتيقة البالية. ولكن ينبغي مع ذلك ألا نغفل عن حقيقة واضحة جلية، وهي أن ذلك التطور لا يتم في الصين إلا ببطء شديد وبصعوبة شديدة بحيث لا يكاد الإنسان يدرك لأول وهلة أن هناك حياة جديدة أخذت تدب في أوصالها الميتة؛ ذلك لأن حياة الصين لا تقوم في الواقع على مجرد بعض قوانين وضعية أو قواعد يرسمها من بيدهم مقاليد الحكم ويأخذون الناس بتنفيذها، إنما تقوم حياة الصين على قيم أساسية عامة متغلغلة في أعماق النفوس تستمد منها قوتها وسطوتها، بحيث لو انعدمت كل سلطة في الصين ولم تصبح ثمة أي هيئة حاكمة فيها لظلت الصين مع ذلك قائمة على ما هي عليه، ولاستمرت تلك القيم الأساسية تعمل عملها في حياة الناس والبلد وتحفظ عليهم طابعهم التقليدي القديم الذي يتعارض مع كل ما هو جديد.
ولا ريب في إن الأمة التي تريد أن ترقى وأن تصل إلى غاية بعيدة من الكمال والرفعة لن يتسنى لها ذلك ما لم تسر أولاً تحت قيادة موحدة تخضع كلها لها، وما لم تختف منها العوامل الانفصالية والنزعات الشخصية التي من شأنها تمزيق الدولة أقساماً وشيعاً. وقد كانت الصين في معظم تاريخها دولة واسعة ممزقة منقسمة إلى مقاطعات وحكومات متفرقة تستقل كل منها عن الأخرى تماماً، ولم يكن الرجل الصيني العادي يعرف من وطنه إلا حدود قريته أو مدينته أو على الأكثر المقاطعة التي ولد ونشأ وتربى فيها، ولم يكن يعرف أنه فرد في وطن أوسع وأعظم من ذلك كله، وأن وراء تلك الحدود الضيقة التي نشأ فيها ملايين أخرى من الناس ينتمون جميعاً إلى نفس الوطن الذي ينتمي إليه؛ ولذا كان الرجل من الشمال إذا اجتمع برجل من الجنوب لا يعرف إلا أنه من الشمال وأن صاحبه من الجنوب دون أن يحس الصلة الوثقى التي تربط بينهما. وقد ساعد على ذلك أن الصيني مغلق على نفسه، ولا يحب الهجرة ولا السفر ولا الانتقال كمعظم الشرقيين، فهو يفضل الاستكانة والالتصاق بالبقعة التي وجد نفسه فيها. وقد نشأ عن ذلك تعدد كبير في اللهجات المحلية واختلاف عظيم بينها بحيث أن الرجل من إحدى المقاطعات لا يكاد يفهم اللهجة التي يتكلم بها غيره من مقاطعة أخرى. وكان ذلك كله عاملاً على ظهور الحركات الانفصالية وخاصة في أطراف الصين البعيدة. ومن هنا كان كثير من الكتاب يظنون أن الصين لا يمكن أن تعيش كدولة موحدة ما لم تخضع للحكم الأجنبي. وقد يكون لهؤلاء الكتاب العذر كل العذر فيما يذهبون إليه، إلا أن السيدة جالبريت ترى أن ذلك كله أخذ يزول شيئاً فشيئاً، وأخذ الشعور القومي يزداد بين الناس وخاصة بعد الغزو الياباني؛ فقد شعر الصينيون جميعاً أن أرضا عزيزة عليهم أخذ العدو يغتصبها منهم، فقاموا جميعاً يشتركون في الدفاع عنها ضد الغاصبين. وهكذا اختفت كل النزعات الانفصالية أمام الخطر المشترك، وأخذ الصينيون يحسون أنهم أبناء وطن واحد وأرض واحدة. وقد ساعد على ذلك حركات الهجرة من المناطق المحتلة أو المعرضة للغزو إلى الداخل، فقد عمل ذلك على تقريب اللهجات المتباينة، وأصبحنا نجد على ما تقوله المؤلفة: (في غرب الصين ما لا يقل عن أربعة عشر صنفاً من الناس نزحوا من مناطق ومقاطعات مختلفة يعيشون جميعاً عيشة واحدة، ويأكلون طعاماً واحداً، وينشدون أغاني وأهازيج واحدة انتشرت في أرجاء الصين جميعاً، وذلك ما لم يكن له وجود من قبل). ومع أن الوحدة في العادات لم تتبلور تماماً حتى الآن، ومع أن الاختلاف بين تقاليد كل فريق لا يزال اختلافاً قوياً صارخاً، إلا أن جالبريت ترى أن كل ذلك يسير في طريق الاندماج شيئاً فشيئاً ولكن بقوة، بحيث لا يتأخر اليوم الذي تصطبغ فيه الصين من أقصاها إلى أقصاها بصبغة واحدة من العادات والتقاليد.
وقد أخذت الصين تتجه منذ بداية هذا القرن على الخصوص نحو الحضارة الأوربية، واعتنقت الكثير من مظاهرها المادية، ولكن تلك المظاهر المادية لم تصل في الواقع إلا إلى الطبقات العليا فقط من السكان في المدن الكبرى وفي الأطراف الخارجية، ولم تفلح في التغلغل قليلاً ولا كثيراً إلى داخل الصين ذاتها، أو إلى طبقات الشعب الفقيرة من سكان الريف ومن الفلاحين والعمال، وهم يمثلون الغالبية العظمى من السكان. وقد كان لذلك - ولا ريب - أسوأ الأثر في المجتمع الصيني، إذ ساعد على توسيع الهوة التي تفصل بين مختلف الطبقات، كما ساعد بالتالي على إضعاف قوة التماسك الاجتماعي في الصين. ولكن الحرب الصينية اليابانية قللت أيضاً من ذلك الأثر حتى كادت تمحوه؛ فقد أصبح من العسير - نتيجة للحرب - على المنتجات الأوربية أن تصل إلى الصين؛ والقليل النادر الذي يصل إلى هناك يباع بأسعار خيالية لا تصدق ولا يكاد يقوى على شرائها إلا فئة قليلة جداً من الناس؛ وكانت نتيجة ذلك كله أن أخذ الناس ينصرفون عن ذلك النوع من الحياة المادية المترفة التي قبسوها عن أوربا، ويعتاضون عنها تدريجياً بالإنتاج المحلي البدائي؛ وبذلك عاد أهل الصين جميعاً إلى أساليب حياتهم القديمة، واشتد تبعاً لذلك التقارب بين مختلف الطبقات عما كان عليه. وقد يبدو ذلك الرجوع إلى القديم نكسة أصابت الصين في تطورها ورقيها، ولكن السيدة المؤلفة ترى عكس ذلك، فهي تعتقد أن الرقي الحقيقي هو في تماسك الشعب وتقارب طبقاته قبل كل شئ، ثم رقيه كله معاً مرة واحدة.
وفي الصين الآن اتجاه قوي يرمي إلى الأخذ بنظم الحكم الديمقراطي؛ ولكن هذا النظام لم يتحقق بعد، ولا ينتظر أن يتحقق كاملاً في الوقت الحاضر على الأقل، كما أن من الصعب على الإنسان أن يتكهن بطبيعته في صورته الأخيرة، وإن كانت كل الدلائل تدل على أنه لن يكون نظاماً نيابياً ديمقراطياً بالمعنى الذي يفهمه الأوربيون. ويقف دون تحقيق النظام الديمقراطي الأوربي اتساع مساحة الصين وترامى أطرافها بشكل غير معهود في بقية الديمقراطيات الأخرى. ولا شك أن من أصعب الأمور على شعب حديث عهد بالنظم النيابية أن يحقق ذلك النظم تحقيقاً كاملاً في دولة في مثل حجم الصين. وقد حاول الدكتور صن أن يؤلف مجلساً نيابياً للصين، ولكن ذلك المجلس لم يقدر له الاجتماع قط، ولكنه حين يتم تأليفه، فسوف يكون مكوناً من 1681 من النواب، منهم 395 نائباً تعينهم الدولة. ويبدو أن الانتخابات في الصين لن تكون من درجة واحدة كما هو الحال في الديمقراطيات الأوربية، بل سوف يجتمع رؤساء كل مائة أسرة معاً وينتخبون من ينوب عنهم، وبذلك سوف يكون نظام الحكم في الصين مزيجاً من الديمقراطية والبطريركية التي تسود الصين الآن. ومن الدلائل التي تبشر بقيام الحكم النيابي في الصين وجود مجلس الشعب السياسي هناك ' وهو يتألف من مائتي عضو من الرجال والنساء، وكلهم معينون. وهم يمثلون كثيراً من مدارس الفكر والمهن والأعمال المختلفة؛ وقد أبدى المجلس براعة كبيرة في مناقشة وبحث أمهات المسائل التي عرضت عليه، ولكن يقلل من أهميته أنه لا يعد مسؤولاً أمام الشعب.
وهناك عامل آخر تظن السيدة جالبريت أنه سيكون له شأن كبير في تطور الديمقراطية في الصين، وهو سعة انتشار الشيوعية هناك ووجود حزب شيوعي قوي يضم كثيراً من الأفراد من أصحاب الثقافة العليا ومن أكابر المفكرين الصينيين. وقد أمضى معظم أعضاء الحزب الشيوعي أعواماً طويلة في خدمة الجيش الأحمر الروسي، كما أنفقوا جهوداً كبيرة في تعليم الفلاحين وإصلاح حالهم؛ وقد ساعدهم ذلك على تعرف ظروف حياة الطبقات العاملة هناك، كما أصبحت لهم خبرة واسعة بوسائل الإصلاح التي يمكن أن تجدي عليهم. بيد أن الحكومة المركزية في الصين لا تعترف بالشيوعية ولا تقر طرقها، بل إنها تناصبها العداء صراحة، ولا يزال الصراع سجالاً بين الحكومتين إلى الآن.
(البقية في العدد القادم)
أحمد أبو زيد