مجلة الرسالة/العدد 672/التاريخ في سير أعلامه:
مجلة الرسالة/العدد 672/التاريخ في سير أعلامه:
ملتن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. . .)
للأستاذ محمود الخفيف
- 13 -
بين الطغيان والحرية:
لم يقف ملتن بمعزل عن حوادث العصر الذي عاش فيه، السياسية ومنها الدينية، فدخل في غمارها ورمى بنفسه في بركانها وأصابه ما أصابه من نارها، وكاد يحيط بعنقه حبل المشنقة. وما كان لنفس مثل نفسه تعشق الحرية وقد فطرت عليها أن تهاب الضرر أو الموت فتنكل عن الوقوف في وجه الطغيان، وهذا ركن من أهم أركان شخصيته كرجل وكشاعر. لهذا كان لا بد من فصل يجلو حوادث ذلك العصر لننظر بعده على أي صورة كانت صلته بتلك الحوادث وإلى أي مدى أثرت فيه وأثر فيها.
إنتهى بموت إليزابيث عام 1603 حكم أسرة تيودور، وبدأ حكم أسرة سيتوارت في شخص جيمس الأول، وقد ولد ملتن بعد خمس سنوات من اعتلاء هذا الملك عرش انجلترة، وظل جيمس يحكم حتى وفاته سنة 1935 وهي السنة التي التحق فيها ملتن بالجامعة، وخلف جيمس على العرش ابنه شارل الأول، وظل شارل يقود سفينة الملك وسط الأنواء الشديد التي انتهت بريح عاتية هي الثورة أو الحرب الأهلية، واختتمت هذه الثورة بإعدام شارل بتهمة الخيانة سنة 1649، أي بعد عشر سنوات من عودة ملتن من إيطاليا. وحكم البلاد بعد شارل القائد الحربي للثورة أوليفر كرمويل أحد كبراء البيوريتانز وسمى حامي الجمهورية، وظل يحكمها حتى وفاته سنة 1658. وخلفه ابنه فحكم البلاد سنة واحدة، ثم عزل لضعفه وأعيدت الملكية في شخص شارل الثاني سنة 1660.
وكانت تلك السنوات السبع والخمسون مليئة بالأحداث، وهي من أهم السنو إنجلترة فحسب؛ بل في تاريخ الحكم النيابي والحرية في العالم كله، إذ كانت صراعا متصلا بين الطغيان تمثله الملكية وبين الحرية يمثلها البرلمان؛ وكان هذا الصراع حول مسألتين: المسألة السياسية والمسألة الدينية.
ظهرت المسألة السياسية في صورة نظرية أول الأمر، وذلك حينما أعلن جيمس الأول تمسكه بالحق الإلهي للملوك، أو نظرية التفويض من قبل الله. وقد أنكر البرلمان عليه هذا الزعم كما أنكره طالبو الحرية من غير رجل البرلمان. ثم اتخذت المسألة وضعا عمليا حين وقع الخلاف بين الملك والبرلمان على أمور معينة، إذ حاول كل أن يبرر مسلكه حسبما يذهب إليه من رأي في التمسك بنظرية التفويض الإلهي أو في إنكارها والتمسك بالحقوق التي اكتسبها الشعب منذ منتصف القرن الثالث عشر.
كان يقصد بالحق الإلهي للملوك في القرن السادس عشر معنى خاصا، وذلك أن الدولة سواء أكان يرأسها ملك أم أمير لها حق البقاء، وافقت الكنيسة على ذلك أو لم توافق، وكان ذلك المعنى مما قصدت به البروتستنتية إلى الفصل بين سلطان الكنيسة وسلطان الدولة رغبة في إضعاف الكنيسة.
ولكن الملوك فسروا هذه العبارة تفسيرا جديدا في القرن السابع عشر، فقالوا إن هناك حقا خاصا بأشخاص الملوك، فهم خلفاء آدم في الأرض، وقد أعلن الله في كتابه إقراره سلطة الملوك المطلقة فلا يجوز أن تلاقى تلك السلطة أية مقاومة أو تدخل في شؤونها.
وكان جيمس الأول يحكم اسكتلندة باسم جيمس السادس وآل إليه عرش إنجلترة بالوراثة فاتحد في شخصه حكم المملكتين، وقد قتل الملك لصا وهو في طريقه إلى إنجلترة بغير أن يحاكمه فخرج بفعلته هذه على حق أكتسبه الفرد في إنجلترة منذ لائحة العهد الأعظم التي ظفر بها الإنجليز سنة 1215، والتي جاء فيها صراحة أنه لا يجوز حبس أي إنسان أو نفيه أو مصادرة أملاكه أو إعدامه إلا بعد محاكمة تكفل له فيها وسائل الدفاع عن نفسه.
وتمسك جيمس منذ هبط إنجلترة بالحق الإلهي للملوك، وتحدى البرلمان هذا الحق، وكان من محاسن الأقدار أن لم يقف النزاع عند وضعه النظري بل تعدى ذلك إلى مواقف راح البرلمان فيها يبرر مسلكه أو يؤيد حقه على ضوء السوابق والحقوق المكتسبة، وملابسات الحال، ومقتضيات الظروف من النصفة والعدالة.
وكان البرلمان في عهد أسرة تيودور قد خضع للحكم المطلق فعلا، ومرد ذلك إلى أن ملوك تلك الأسرة لم يتمسكوا في حكمهم بالنظريات؛ بل كانوا يعملون على كسب مودة أعضاء البرلمان وضمان تأييدهم إياهم ليكون الأمر في ظاهره للبرلمان وفي حقيقته لهم. هذا إلى أنهم كانوا أحيانا يتزحزحون عن مواقفهم خطوات إذا لاحت نذر الشر، أو يحاولون بالكلمة الطيبة أن يكسبوا قلوب النواب، نجد خير مثال لذلك في موقف نبيل وقفته إليزابث في أواخر حكمها سنة 1601 حين لمحت اتجاه الرأي العام في معارضة البرلمان لقانون من القوانين، فقالت للنواب: (ولو أن الله رفعني مكانا عليا فإن ما أعده في الواقع مجد تاجي هو أني أحكمكم مستندة إلى محبتكم، وهذا ما يجعلني أشعر بالسعادة لأني ملكة شعب شكور، أكثر مما أشعر بها لأن الله جعلني ملكة فحسب).
وكانت البلاد في عهد تلك الأسرة تخشى الحرب الأهلية بين فرعي بيت الملك كما كانت تخشى الغزو من الخارج، وعلى الأخص من جانب أسبانيا الكاثوليكية. هذا إلى أنه كان للناس منصرف عن السياسة وأمورها إلى النهضة العلمية الأدبية وحركة الكشف الجغرافي والاستعمار وراء البحار، فخمدت جذوة السياسة حتى كادت تتحول إلى رماد.
وكانت تقتضي المحكمة وبعد النظر مسالمة رجال البرلمان بعد زوال الخطر الداخلي وابتعاد شبح الغزو الخارجي إثر تحطيم الأرمادا أسطول أسبانيا العظيم، ولكن جيمس الأول أخذ في ظروف كهذه يعلن تمسكه بنظريته، فنفخ بذلك في الرماد حتى توهج، ثم إذا به يشتعل في عهد خلفه اشتعالا
وكان جيمس غداة ولايته عرش انجلترة في السابعة والثلاثين من عمره، وكان ملكا مثقفاً على شيء غير قليل من اللباقة، وفي نفسه قدر من روح الفكاهة، ولكن لم يكن يحسن وزن الأمور لتمسكه بالجانب النظري منها، كما أنه لم يحسن كيف يحيط شخصه بما يجب للملوك من وقار وهيبة، بل لقد اجتمعت فيه كل الصفات التي يجب ألا تنسب واحدة منها إلى ملك، وقد قال عنه هنري الرابع ملك فرنسا: (إنه أعلم مغفل في العالم المسيحي!)
اجتمع أول برلمان في عهد جيمس سنة 1604، فكان أول خلاف بينه وبين الملك أن تدخل الملك في الانتخاب، فقد حذر الناخبين أن ينتخبوا المتطرفين في الآراء الدينية والمحرومين من حماية القانون، ولكن إحدى الجهات انتخبت واحداً من هؤلاء فأبطل انتخابه بأمر الملك توطئة لانتخاب غيره. وثار البرلمان وتمسك بأنه صاحب الحق في النظر في هذا الأمر، وأذعن الملك مكرهاً وتأكد بهذا الإذعان حق البرلمان في القيام على أمر الانتخاب!
وأعقب ذلك حادثة أخرى، وتلك هي حبس أحد أعضاء البرلمان لعدم دفعه ما عليه من دين، وإذ ذاك أعلن النواب أنه لا يجوز القبض على عضو من الأعضاء إلا بتهمة الخيانة أو تعريض السلم العام للخطر. ولكن الملك أصر على موقفه ولم يعبأ برأي النواب!
وفي نفس السنة أظهر جيمس عطفه على الكاثوليك وأراد أن يغير بعض القوانين الضارة بهم، فعارض البرلمان، وكانت ميول أعضائه بيرويتانية، ولعله إنما أراد بالمعارضة أن يقف في وجه الملك أكثر مما أراد أن يكيد للكاثوليك. . وأسرها الملك في نفسه. . .
على أن أكبر خلاف وقع بين الملك والبرلمان كان على مسألة الضرائب، وذلك سنة 1608 حين أراد الملك أن يفرض من تلقاء نفسه ضريبة إضافية على التجارة، فعارض البرلمان معارضة شديدة، لأن هذا العمل يقوض حقاً هو أهم حقوقه من أساسه، ولكن الملك تمادى في عناده، وامتنع أحد التجار عن الدفع وقدم إلى المحاكمة، وكان الملك يومئذ يخيف القضاة بعزلهم من مناصبهم على الرغم مما نص عليه العهد الأعظم من منع تدخل الملك في سير العدالة، وحكم القضاة على التاجر؛ ولكن صوت البرلمان في الاحتجاج لم يخفت بهذا الحكم وأن لم يجده ذلك شيئاً، وما لبث أن تخلص منه الملك في غير عناء!
وفي سنة 1614 اشتدت بالملك الحاجة إلى المال بسبب إسرافه وإسراف حاشيته ومن اصطفاهم، فجعلهم من المقربين إليه أولى الخطوة عنده، فدعا الملك برلماناً جديداً ليعينه على الخروج من الأزمة، وحرص أتباعه على أن يأتي موالياً للملك، ولذلك أطلق الناس عليهم أسم المتعهدين استهزاء بهم؛ ولكن البرلمان ما كاد يجتمع حتى أظهر المعارضة للملك وللمقربين إليه، وأنكر سياسة الملك الخارجية، فقد كان يريد جيمس مسالمة أسبانيا ومصالحتها، وكانت انجلترة تكره ذلك أشد الكره!
وغاظ الملك أن يكون هذا البرلمان أشد من سالفه عناداً، فأسرع إلى حلة بعد شهرين من اجتماعه، ولما يتخذ قراراً واحداً، ولذلك أطلق عليه أسم (البرلمان العقيم)!
وحكم الملك ست سنوات من غير برلمان، يعمل بمشورة خلصائه حيناً، ويتبع هواه حيناً، يعزل من يشاء ويذل من يشاء، لا يسأل عما يفعل ولا يفكر في عاقبه أمره.
وفي سنة 1621 دعا جيمس برلماناً جديداً، وكانت الحاجة إلى المال هي التي تجعله يدعو البرلمانات ليعتمد على معونة النواب في فرض ما يطلب من الضرائب، وقد تذرع في هذه السنة برغبته في نصرة البروتستنتية وذلك بمساعدة صهره البروتستنتي فردريك حاكم البلاتينات في ألمانيا ضد النمسا وأسبانيا؛ وتحمس البروتستنت في انجلترة لمعاونة زملائهم في القارة، ولكن ما كان أشد غضبهم أن رأوا الملك يجحم بعد تحمس، دون أن يستخذى لما حل بصهره أو يأبه بتألم الشعب لما نال البروتستنت من هزيمة في القارة، وإذ ذاك عاد البرلمان إلى مناوأة الملك في المسائل الداخلية، فطالب بمحاكمة بعض وزرائه وأصفيائه على ما نسب إليهم من تهم أهمها الإثراء بغير حق عن طريق الاحتكار، وكان ثمة عرف قديم أهمل منذ سنة 1450 يتيح للنواب حق الاتهام على أن تكون المحاكمة أمام اللوردات، وأحيا النواب هذا العرف فغضب الملك غضباً شديداً ليحمى وزراءه وأصفياءه، وأعلن كلمة جريئة اهتزت لها البلاد هزة الغضب والألم وهي قوله (إن امتيازات النواب واللوردات ليست حقاً لهم كما يظنون وإنما هي منحة من الملك، وإن عمل النواب ينبغي ألا يتعدى الأمور المحلية كالمناقشة فيما يطلب من المال والإعراب عن آراء ناخبيهم، أما أمور الدولة العليا في السياسة والدين فمن اختصاص الملك وحده. . .) ورد البرلمان بصيحة بالغة الجرأة فقال (إن كافة ما لدى البرلمان من الحريات والامتيازات والأمور المتصلة بالانتخاب وبسير العدالة، إنما هي حقوق قديمة مؤكدة تثبت بمجرد الميلاد لكل فرد في انجلترة ويتوارثها الأجيال، وكل ما هنالك من مسائل خطيرة لمحة تتصل بالملك والدولة والدفاع عن المملكة وعن كنيسة انجلترة ووضع القوانين والمحافظة عليها والعمل على إزالة أسباب الشكوى في الداخل، إنما هي من صميم ما يختص به البرلمان ويدير فيه المناقشات ويتبادل أعضاؤه فيه المشورة.)
وساء وقع هذا بالضرورة في نفس الملك المتجبر فأخذته العزة بالإثم وحل البرلمان ولم يجتمع إلا سنة ومزق بيديه هذا القرار من مضبطة المجلس وألقى ببعض أعضائه في غيابه السجن، وظل يحكم مستبداً بالأمر حتى سنة 1624 حين جمع عزمه وأراد أن يعلن الحرب على أسبانيا، وشعر بحاجته إلى المال، وإذ ذاك دعا برلماناً جديداً لم يكن أقل من سابقيه معارضة للملك المستبد وظل قائماً حتى مات الملك سنة 1625.
ومن عجيب أمر جيمس أنه كان أقل الطغاة خطراً لضعف شخصيته، ولكنه كان مع ذلك أكثرهم استفزازاً للنفوس بتهوره وبكلامه. والحق أنه أساء إلى الإنجليز بما قال أكثر مما أساء إليهم بما فعل؛ كأنما كان مولعاً بأن يستعجل الثورة في البلاد، وكأنما كانت رسالته إشعال نار هذه الثورة؛ فما كان بمستطيع أن يحمل الناس على احترامه بناحية من نواحي القوة والعظمة كما عسى أن يفعل إذا أرادوا أن يغطوا طغيانهم لأنه لم يكن على شيء من هذا؛ ولا كان بقادر على أن يقف في طريق الحرية الثائرة معترضاً لها ليصدها عن وجهتها. ورأى الإنجليز أنفسهم لأول مرة في تاريخهم تلقاء ملك يشعرون باحتقاره، ويسخرون من ضعفه وإن تظاهر بالقوة فما كان ما يزعمه لنفسه من قوة إلا الحماقة في أسخف صورها. . .
أما عن المسألة الدينية في عهده فلم يك جيمس فيها أقل حمقاً ولا أخف طغياناً إن لم يكن أقبح عتاداً وأبغض استبداداً.
(يتبع)
الخفيف