انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 671/غرضان أساسيان

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 671/غرضان أساسيان

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 05 - 1946



للأستاذ محمد محمد المدني

غرضان أساسيان يجب أن يرمي إليهما كل من تهمه حالة الأمة الثقافية، ويغار على مستقبل الدين والشريعة واللغة العربية؛ ولا أعتقد - مهما تعددت الآراء، وتقارعت الحجج أن أحداً ينازع فيهما على الحقيقة، أو يغض النظر عما تجنيه الأمة من إصابتهما.

هذان الغرضان هما:

1 - توحيد الثقافة العامة بين أبناء البلاد.

2 - الاحتفاظ بما تفردت به مصر - بفضل الأزهر - من تخريج طائفة من العلماء بعضها يبرز في الدين، وبعضها يبرز في الشريعة، وبعضها يبرز في اللغة العربية.

والأول من هذين الغرضين أمر طبيعي بالنسبة للأمم، ذلك بأن الأمة السعيدة الهانئة المثمرة القديرة على أن تؤدي رسالتها في الحياة، هي الأمة المتقاربة ثقافة، المنسجمة عقولاً، المتفاهمة أفراداً، المتوحدة النظرة إلى نواحي الحياة. ولا تجد أمة تفرقت بها الأسباب في الدين أو اللغة أو الأفكار أو الآمال أو الآلام أو الغايات إلا كانت أمة مقضياً عليها بالقصور والضعف والخمول والتقطع والانحطاط والذل.

والثاني من هذين الغرضين أمر عظيم قد ندبت له العناية الإلهية مصر من بين سائر الأمم، وجعلته من أسباب زعامتها على العالم العربي، وكان لها ذكرا في الأولين، وسيبقى لها - إن شاء الله - لسان صدقاً في الآخرين.

على هذا الأساس يجب أن يدور الكلام، وبهذا الميزان يجب أن توزن الآراء، فالنظام الذي يستطيع معه الأزهر أن يحقق هذين الغرضين، هو النظام الحسن المقبول، وأي نظام يظلم أحدهما أوكليهما يجدر بنا أن ننظر إليه في احتياط وحذر.

والأستاذان الكبيران: الزيات والعقاد، يقرران هذا، فهما حين يدعوان إلى توحيد الثقافة العامة لا يغضان النظر عن رسالة الأزهر، ولا عن حاجة الأمة الإسلامية لهذه الرسالة.

فالأستاذ الزيات يقول: (إن العالم لا يسعد إلا بالدين، وإن الدين لا يجدد إلا بالأزهر، وإن الأزهر متى استكمل أداة التعليم، وساير حاجة العصر، نهض بالشرق نهضة أصيلة حرة، تنشأ من قواه وتقوم على مزاياه وتتغلغل في أصوله. ذلك لأن ثقافته المشتقة من مصد الوحي وقانون الطبيعة متى اتصلت بتيار الفكر الحديث تفاعلت هي وهو، فيكون من هذا التفاعل ما يريد الله به تجديد دينه وكفاية شرعه وإدامة ذكره).

والأستاذ العقاد يقول: (الجامعة الأزهرية معهد يراد به البقاء، ما في ذلك ريب عند أحد من المصريين، لأنها مرجع العلوم الدينية والثقافة العربية، وهي عدا هذا أقدم جامعة في العالم بسره، فالأمة التي تملكها قمينة أن تحافظ عليها، وتستديم بقاءها وازدهارها).

ويقول حين يعرض للمدارس الفكرية الإسلامية ومحصولها العظيم: (إن هذا المحصول لا يعقل أن يستوفيه طلاب جامعة من جامعات الدنيا غير الجامعة الأزهرية. . . وإنه أمانة لابد لها من حفيظ بين أمم الحضارة الإنسانية؛ فمن عساه أن يكون أولى بحفظ هذه الأمانة من معاهد الأزهر وعلمائه؟ ومن أين لهذه المذاهب وهذه الدراسات من يفهمها ويصبر على تمحيصها واستخلاص زبدتها في غير مصر والبلاد العربية. . . وليس في غير المعاهد الأزهرية مكان لاستيفاء هذه الواجبات والأعمال).

ففيم إذن الخلاف، وقد اتفقنا على القاعدة والأساس؟

1 - لقد أظهرت التجارب أن الدين والشريعة الإسلامية واللغة العربية لا يمكن دراستها دراسة عالية لها حظ من التبريز والتفوق، ما لم يسبق ذلك إعداد خاص وتكوين معين يستطيع معهما الطالب أن يخوض هذا المجال. ومن تلك التجارب التي أصبحت معروفة مشهورة مسلماً بها أن طلاب دار العلوم وطلاب قسم اللغة العربية بكلية الآداب إنما يفلح منهم ويتقدم في طريقه بخطى ثابتة، أولئك الذين درسوا دراسة أزهرية حتى نالوا الشهادة الثانوية، أما الذين درسوا على نظام التجهيزية أو الذين حصلوا على الشهادة الثانوية الحكومية فانهم يلاقون الأمرين في دراستهم للغة العربية، ويحملون منها وتحمل منهم عبأ ثقيلاً يود كلاهما لو استطاع أن يتخفف منه. وقل مثل ذلك في طلاب كلية الحقوق فإنهم لا يزالون يعتبرون دروس الشريعة الإسلامية أشق الدروس لا فرق في ذلك بين من لم يحصلوا على الليسانس ومن حصلوا عليها والتحقوا بقسم الدكتوراه، وما ذلك إلا لأنهم لم يتمرسوا بما يتمرس به الطلاب الأزهريون في دراستهم الابتدائية والثانوية ولم يعودوا البحث والفهم الاستقلالي وتلقي كتب الشريعة كما عود الأزهريون.

على أن الطالب الأزهري نفسه إذا لم يكن قد أتقن دراسته الابتدائية والثانوية، وكون بها عقله تكوين فهم واستقلال، فإنه يعاني في الكليات ويعني، وقد لا يتمكن من الاستمرار في هذه الدراسات العلى.

2 - والمدارس الثانوية التابعة لوزارة المعارف مكتظة بالبرامج في كل ناحية إلا في النواحي التي تعد للدراسة الأزهرية العليا. والتعليم الثانوي مع ذلك موضع شكوى عامة لضعفه، فإن جميع كليات الجامعة تشكو من هذا الضعف (الذي تبدو آثاره في المعلومات العامة واللغات العربية والأجنبية) وتشكو من (أن الطلبة لا تتحقق فيهم الصفات المطلوبة للدراسة العالية من حيث روح التعقل وقوة الملاحظة والاعتماد على النفس وحب البحث، حتى إنهم يضطرون أساتذتهم إلى إملاء الدروس عليهم إملاء مما يعوق سير الدراسة العالية في صورتها الكاملة)

بذلك تشهد تقارير وزارة المعارف نفسها، ومنها نقلت ما نقلت من النصوص؛ فإذا أردنا أن نقوي هذا الطالب في دراسته الثانوية ليكون قادراً على الدراسة في الكليات الأزهرية فماذا نصنع معه؟ والمفروض أن هذا الطالب لم يدرس على الطريقة الأزهرية فيما تلقى من التعليم الابتدائي، وأنه لم ير بعد علوم الأزهر ولم يألف أساليبه في البحث والدرس؛ أنضيف إليه أعباء أخرى فوق أعبائه التي ينوء بها كاهله؟ أنكلفه بدراسة النحو والصرف والبلاغة والفقه والتوحيد والمنطق والعروض وما إليها من العلوم التي لابد من حصول الطالب الأزهري على قسط وافر منها يحيط به إحاطة فهم وتدبر، ويهضمه عن تعقل وتصرف؟ وهل يؤدي ذلك إلا إلى ضياعه من الناحيتين، واشتداد ضعفه؟

وهبنا ألزمناه درس هذه العلوم الأزهرية إلى جانب منهاجه الحكومي، أفندرسها له بمقدار ما كان في التعليم الابتدائي الأزهري فننزل بالمستوى الثانوي إلى المستوى الابتدائي؟ أم بمقدار المنهاج الثانوي فكيف يطيقه؟

3 - ومن حق القراء علينا أن نذكر لهم منهاج المعاهد الأزهرية الابتدائية ليعلموا: أتغنى عنها المدارس الابتدائية الحكومية فنلغيها من الأزهر؟ أم هي معاهد واجبة البقاء لأنها تحقق الغرضين: توحيد الثقافة العامة، والتمهيد للدراسة الأزهرية الثانوية والعالية.

قد يظن بعض الناس أن الطالب الأزهري الابتدائي إنما يدرس بعض الأحكام الفقهية، وبعض العقائد الدينية، وبعض كتب اللغة العربية، وأنه إنما يتلقى إلى جانب ذلك تجويد القرآن وطرفا من سيرة الرسول والصحابة، أما ما وراء ذلك من مواد الثقافة العامة فهو منها محروم، ولذلك نسمع النداء بوجوب توحيد الثقافة العامة كأن الأزهر يعيش في صومعة، ولا يشارك في دنيا الناس! كلا أيها القراء: إن الأزهر في معاهده الابتدائية يدرس على منهاج جامع شامل لا يذكر بجانبه منهاج المدارس الابتدائية؛ وبين يدي الآن هذا المنهاج الأزهري، ولو استطعت لنقلت لكم صورة منه، ولكني أقربه إليكم تقريبا:

مواد الدراسة بالقسم الابتدائي على وجه الإجمال هي: الفقه بمذاهبه الأربعة. التوحيد، السيرة النبوية وسيرة كبار الصحابة، تجويد القرآن الكريم، الإنشاء، النحو. الصرف. الإملاء. المطالعة والمحفوظات. التاريخ. الجغرافيا. الحساب. الهندسة. الجبر. تدبير الصحة. الرسم. الخط.

ففي الفقه يقرأ كتابان أحدهما صغير في السنة الأولى، والآخر أكبر منه في السنوات التي تليها، وفي النحو تقرأ كتب أربعة: الأجرومية وشرحها، والأزهرية، وشرح القطر، وشذور الذهب؛ وفي الصرف يقرأ كتاب متوسط في سنتين، والتوحيد يقرأ في ثلاث سنوات، وفي التاريخ تدرس كل الموضوعات التي يدرسها تلاميذ المدارس الابتدائية من تاريخ مصر القديم والحديث بتوسع؛ وتزيد المعاهد سيرة النبي وكبار الصحابة، والحساب في المعاهد أوسع جداً من الحساب في المدارس، وقل ذلك عن الهندسة والجغرافية وتدبير الصحة. . . الخ.

فماذا بقي على الطالب الأزهري في المعاهد الابتدائية من مواد الثقافة العامة حتى ينادي المنادون بضرورة استكماله؟ لم يبق إلا اللغة الأجنبية، ولسنا نجد مانعا من إدخالها في المعاهد الدينية، بل نحن نرى ذلك واجباً فليخفف عن الطالب الأزهري كتابان من كتب النحو الأربعة مثلاً، ليعطى بدلهما لغة أجنبية في سنتيه الثالثة والرابعة كما يعطى تلاميذ المدارس، وحينئذ تكون معاهد الأزهر الابتدائية قد أعطت الأمة طلاباً يشاركون في ثقافتها العامة ويمتازون بعلوم الشريعة والدين واللغة على طريقتهم الخاصة التي لا غنى لهم في أقسامهم الثانوية ولا في دراستهم العالية عنها.

فإذا قيل: إن هذا المنهاج المزدوج ثقيل على الطالب فإننا نقول: إن طالب الأزهر ليس كتلميذ المدرسة الابتدائية؛ فالأول يلتحق بمعهده بين الثانية عشرة والسادسة عشرة بينما يلتحق الثاني بين الثامنة والعاشرة، فهذا الفرق في السن يجعل الطالب ناضجا قادراً على تحصيل ما يكلف تحصيله من هذه العلوم في سهولة ويسر، ولذلك مزية أخرى هي أن طالب الأزهر يستطيع في الفترة الأولى من حياته وقبل انتسابه إلى معهده أن يتفرغ لحفظ القرآن الكريم الذي هو شرط أساسي لقبوله، والذي هو أمر ضروري لطالب الدين والشريعة واللغة: يقوم لسانه، ويصحح لهجته؛ ويضبط لغته، ويكون مرجعه الملازم له في العقائد والآداب والأحكام، بل يكون له طول حياته كنزاً ل ايفنى، ومعيناً لا ينضب.

وقد دلت التجارب على أن من لم يحفظ القرآن الكريم في أول حياته وعهد صباه المبكر، فلن يستطيع حفظه بعد ذلك. وليس من الممكن أن يستكمل التلميذ في المدرسة الابتدائية علومه ولغته الأجنبية ثم يكلف في أثناء دراسته الثانوية أن يحفظ القرآن.

هذا، وفي المعاهد الدينية بعد ذلك معنى لا ينبغي أن ننساه: ذلك هو تربية الطالب تربية دينية يستمدها من هذه المصادر التي يعتمد عليها في دراسته من كتاب وسنة وعقائد وأخلاق وأحكام تشريعية وكتب تغلب عليها الروح الإسلامية، وتغرس في نفسه حب الدين واحترام الشريعة وتقديسها، فيشب على ذلك ويشيب عليه، وبذلك نكون قد أوجدنا طائفة من مثقفينا تتحمس للدين والخلق الإسلامي الكريم، وتغار على علومنا وآدابنا القومية في وسط هذه التيارات المضطربة الجامحة التي تهدد كياننا، وتكاد تقطع الصلة بيننا وبين ماضينا المجيد. وقد أدرك هذا المعنى غيرنا من رجال الأديان الأخرى، فهم يبكرون بإعداد رجل الدين منذ نعومة أظفاره ليضمنوا له التحمس الديني والانفعال الروحي على صورة تصاحبه طول حياته، لأنها تكون قد ارتسمت في نفسه، وصادفت منه قلبا خاليا فتمكنت كما يقولون. فأين لنا مثل ذلك إذا اعتمدنا على تلميذ المدرسة الابتدائية، وهو لا يعرف من دينه إلا معارف سطحية لا تسمن ولا تغني من جوع؟

4 - أما الدراسة الثانوية في الأزهر، فقد كانت عدلت مناهجها يوماً ما لتكون مشابهة تمام المشابهة لمناهج المدارس الثانوية بزيادة العلوم الدينية واللغوية والعقلية؛ فلما طبق هذا النظام بدأ وجه الخطأ فيه سافراً، فقد طغت علوم المدارس على العلوم الأزهرية، وعلى روح التفكير والاستقلال في البحث المقصود بثها في نفوس الطلاب، وحينئذ لم يجد الأزهر بداً من إلغاء ذلك النظام وإحلال النظام الحالي مكانه، وهو نظام لم يقطع الصلة بين الطالب الأزهر وبين مواد الدراسة الثانوية المدرسية قطعاً، ولكنه زحزح هذه المواد عن مركز الصدارة ليفسح لعلوم الدين والشريعة واللغة والعلوم العقلية مجالا لا تجده في غير هذه المعاهد، وهذا من غير شك تصرف حكيم، على أن يضاف إلى برامجه أيضا دراسة اللغة الأجنبية كما في المدارس الثانوية.

هذا هو رأيي الذي وعدت به في مقالي السابق، وأعتقد أني قربت به من شقة الخلاف، بل لعلي أزلت أسباب الخلاف، وما كان الأستاذ الزيات، وهو الذي يعيب على الأزهر الضعف، وتعطيل العقل، وإبطال الاجتهاد، ويرجو بالأزهر تجديد الدين، ونهضة الشرق عن طريق ثقافته المشتقة من مصدر الوحي وقانون الطبيعة؛ ما كان ليرضى أَن يُبتر الأزهر هذه البترة النكراء، أو أن يجادل في الحق بعد ما تبين؛ وذلك أيضا ما أعتقده في الأستاذ الكبير العقاد الذي يتحدث عن العقلية الأزهرية حديث الاعتراف والإعجاب، وما كانت العقلية الأزهرية لتفوز بهذا الاعتراف وهذا الإعجاب لو نشئت في المدارس الابتدائية.

أما بعد، فإن الأزهر - كما قلت في مقالي السابق - لا يحتاج إلى تعديل جوهري في نظامه الحاضر، وإنما يحتاج إلى (تنفيذه) معنى وروحا بأيد قوية حازمة، وأعين بصيرة، وقلوب مؤمنة، وعقول على التدبير له والتفكير في شأنه مقصورة. . . وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. . .

محمد محمد المدني

(الرسالة): يوفقنا صديقنا الأستاذ المدني على الغرضين المفهومين من اقتراح الرسالة وهما: (تجديد الأزهر وتوحيد التعليم على الوجه الذي يحفظ للأزهر طابعه وللأمة وحدتها، ولكنه يخالفنا في التطبيق. وأرى أن المناقشة في تطبيق المبدأ قبل إقراره عناء لا يجدي، وبناء لا يقوم.