مجلة الرسالة/العدد 67/لبيك! لبيك!. . .
مجلة الرسالة/العدد 67/لبيك! لبيك!. . .
للأستاذ كرم ملحم كرم
رأى أديب دمشقي فاضل أن يسألني ماذا اعني بقولي: (إن للتوراة والإنجيل والقرآن من الرواية اكبر نصيب)، وعلى أن أوضح للأديب الكريم ماذا أعني وإن يكن فيما أوردت في مقال (ما هو أدب اليوم؟. . .) بيان مسهب جليّ.
فقد تحدثت في أدب اليوم عن الرواية، وقلت أنها ركن الأدب في كل عصر وكل آن القصد منها فلا يعدو تغذية النفس بالمواعظ، والحث على الفضيلة، ومحاربة الفساد، وقد تخرج روايات كثيرة عن هذا الهدف، فينصرف قائلها أو واضعها إلى امتلاك سامعيه أو قرائه بحوادث رائعة مدهشة ترمى إلى التفكهة وقضاء الوقت،
والوقوف على غرائب لا وجود لها في أحيان كثيرة في غير مخيلات ناسجيها.
والرواية نوعان: منها التاريخية ومنها الخيالية. بل هي محبط واسع تشمل الحقائق والأكاذيب، تشمل الملموس المحسوس والخيالي المجهول. فمن حق الراوي أن يتفنن في سرد حكايته على ما شاء. له أن يستعين بالتاريخ وأن يسخر بالتاريخ. له أن يقدس الحقيقة وأن يعرض عنها.
فهو حرّ مطلق في أن يقول ما شاء. وما يقول رواية تختلف قيمتها باختلاف قدر قائلها وقوة تركيبها ومن تتناول من الأفراد. والكتب المقدسة تحمل روايات عديدة. ففي كل فصل من فصولها رواية، ولنبدأ بالتوراة. ففي سفر التكوين رواية، وفي تمرد الملائكة وسقوطهم إلى الجحيم رواية، وفي عصيان آدم وحواء مشيئة الله وأكلهما الثمرة المحرمة رواية، وفي حكاية إبراهيم وهاجر رواية، وفي موقف عيسو من أبيه اسحق رواية، وفي حب يعقوب لابنة خله رواية، وفي حكاية يوسف وأخوته رواية، وكم من حكاية وحكاية في التوراة. فالكتاب يجمع بين دفتيه حكايات العهد القديم في معظمها.
ولننتقل إلى الإنجيل. فالمسيح نفسه صارح سامعيه بأنه يخاطبهم بالأمثال لكي يفهموا. فحدثهم عن الابن الشاطر، وعن تجار الوزانات الخمس، وعن العاملين في الَكرْم الذين أقبلوا في أوقات متعددة ونقدم رب الكرم أجراً واحداً، وعن العذارى اللواتي يحملن زيتاً في مصابيحهن وهناك حكايات لا نحصى ضربها المسيح مثلاً لتلاميذه وسامعيه.
والقرآن ما خلا من هذه الحكايات. خصوصاً الحكايات الواردة في التوراة.
من حكاية سفر التكوين، إلى حكاية سقوط الملائكة، إلى حكاية زكريا، إلى حكاية مريم بنت عمران وربك نفسه قال في سورة يوسف: (آنا أَنزَلناه قراناً عربياً لعلكم تَعقلُون. نَحْنُ نقص َعليكَ أَحسْن الَقصَص ِبما أَوحْينا ِإليْكَ هذا القُرآنَ وإن كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الغافِلينْ إذ قال يُوسُف لأبيهِ يا أَبت إني رأيتُ أَحدَ عَشَر كوْكباً والشَّمسَ والقمرَ رأيتهُم لي ساجدينْ) فان قول ربك: (نحن نقص عليك أحسن القصص) دليل ناطق على أن القرآن لا يخلو من الرواية.
ولماذا يخلو من الرواية؟. أتكون الرواية نقيصة؟. أليس من شانها تهذيب النفس ورد الخاطئين إلى الله اتعاظا بما سبق ونال الضالين من عقاب وقصاص كما أتفق لعاد وثمود؟. .
فلا غضاضة إذا على الكتب المقدسة، والقرآن منها، إذا حوت الروايات؛ وفي الروايات عظات بليغة. ولا حاجة لقول الأديب الدمشقي عن التوراة والإنجيل: (صاحب البيت أدرى بما فيه!. . .)، فلا مجال في بحثنا للطوائف والنيل من الأديان.
فالحديث حديث أدب، والطائفية في واد ونحن في واد، وكل قصدنا مما قلنا أن الرواية تتغلغل في أي مكان، في الكتب المقدسة وفي سواها. كل قصدنا أن نقول إن الرواية انبثقت بانبثاق الكون، وأنها أدب كل يوم. كل قصدنا أن نحث أدباء العرب على الاشتغال بالفن الروائي، فان آثار هذا الفن تكاد تمحى في الأدب العربي.
أما أن نكون رمينا إلى الحط من منزلة الكتب المقدسة، فذلك مما لا نفكر فيه ولا يحق لنا أن نفكر فيه، فنحن نحترم هذه الكتب، وكيف لا نحترمها والملاين من البشر تدين بتعاليمها، وتؤمن كل الأيمان بآياتها؟. .
والكتب المقدسة تطبع العقول على الخير، وتثقف النفوس وتقودها في الطريق السوي، وإذا
كان بعضنا يرتاب في أصلها وطريقة وضعها ورموزها فليس له أن يعلن هذا الارتياب لئلا.
يؤثر في عقول العامة ويخرج بها عن إيمانها وتقواها، ويثير في قلوبها الشكوك. فلولا الدين لعم الإنسانية البلاء، وتفاقمت الشرور، وتعاظمت الويلات، وأنغمس الناس في الرذيلة، وعاشوا لأهوائهم، وباتوا كالأنعام!.
فليطمئن الأديب الدمشقي إذا بالاً، نحترمه ونرغب في أن نصونه ممن يتاجرون به لو استطعنا إلى صونه منهم سبيلاً وما حديثنا عن الرواية في كتب الدين غير حديث اقتضاء
الأدب لا الطعن على الدين. والأديب الفاضل رأى بعينه، مما أوضحنا له، أن للرواية من أي كتاب ديني أكبر نصيب. فليهدأ روعة القلق، ولتسكن حدته، ولينظر مرة أخرى في مقالنا.
(ما هو أدب اليوم؟. .) فيثبت له أننا وضعنا الكتب الدينية على مسافة بعيدة جداً من روايات (فولتير) واعترافات (جان جاك روسو) وغراميات (لأمارتين). . .
وعهدنا بالأديب الدمشقي تكفيه الإشارة!
بيروت
كرم ملحم كرم
صاحب مجلة (العاصفة)
-