انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 67/شوقي. . .! بمناسبة ذكراه الثانية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 67/شوقي. . .! بمناسبة ذكراه الثانية

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 10 - 1934


للأستاذ عبد العزيز البشرى

لقد خرج في هذه الدنيا شعراء ما أحسب أحداً منهم كان يستطيع إلا يكون شاعراً لقد تتصل الشاعرية بالطبع والجبلّة. وليس بملك المرء أن يخرج عن جبلته وطبعه. ولست أجد مثلاً اضربه لهذا الطراز من الشعراء أبلغ من أبي نؤاس في الغابرين واحمد شوقي في المحدثين واغلب اعتقادي أن الشاعر من هؤلاء حين ينزل عليه الشعر لا يقدر عليه على صرفه عنه أو حبس لسانه أو قلمه عن الجريان به إلا برياضة ومطاولة وجهد.

هؤلاء يطلبهم الشعر اكثر مما يرتصدون له، ويتجردون في إصابته.

وبحسبك أن تطالع دواوين شوقي - والحديث فيه اليوم - لتعلم انه لو كان رزق اعظم حظ من العزم والقوة والجبروت ما كان ليقوي على كتم شاعريته الفائضة الجياشة وهيهات للسد بالغا ما بلغ من المتانة والمناعة أن يكف النيل عن جريانه، وأن يكبح إذا طغى من طغيانه!. تقرا شعر شوقي فتتعاظمك هذه الكثرة الكثيرة من فاخر الشعر وبارع الصنعة ورائع البيان. أية قوة بدنية هذه التي احتملت كل هذا المجهود الفكري؟ وكيف تهيأ لهذا الرجل أن يعيش ما عاش!. . .

والواقع الذي لا يتداخله الشك إن شوقي لم يكن على حظ كبير من صحة البدن، بل لقد تستطيع أن تقول إنه كان رجلا مضعوفاً مختل الأعصاب من أول نشأته. فإذا طلبت السر في شأنه، فالسر كله في أنه لم يكن يجهد في قرض الشعر لأنه لا يكلفه ولا يتعمل كما قلت لك في طلبه ولا يرهف في ذاك حساً ولا يحد عصباً، إنما هو الينبوع ينبثق فيجرى الماء دفقاً ما يحتاج إلى متح ماتح.

نعم، لقد كانت تكاليف الحياة تقتضي شوقي كما تقتضي غيره أن يستفتح الشعر ويبعثه في مديح، أو رثاء تهنئه، أو في غير ذلك من الأسباب الخاصة أو العامة التي لا يرى بداً من القول فيها. على أنه لا يكاد يقبل على صناعة الشعر فيما طلبه، حتى تتحرك شاعريته، فتجرّه عما هو بسبيله جراً، وتملى عليه هي ما تشاء اكثر مما يملى عليها هو ما يريد ولست اطلب في هذا دليلا ابلغ من أن شوقي لم يمدح أحداً قدر ما مدح سمو الخديوي السابق. على أنه حين جرد تلك القصائد من ذلك المديح ليدخلها في ديوانه، ظلت قوية رائعة بما فيها من رقيق غزل، أو من بارع وصف، ومن بالغ حكمة وجليل مثل، كأن لم تفقد شيئا، ولم يعوزها شيء!. .

إذن كان شوقي شاعراً مطبوعاً أتم طبع، سرياً أجزل السراء، موفقاً إلى أبعد غايات التوفيق. تصرف في فنون الشعر كلها فما ضعف قط في واحد منها، بل قل أن يتعلق بغباره في أي باب من أبواب القصيدة شاعر، اللهم خلا الهجاء، فلم يؤثر عنه فيه بيت واحد. ولعل ذلك يعود، كما قلت في (مرآته)، إلى لطف نفسه، وأنفته من أن يشهر الناس ويطلب معايبهم، أو لعله يعود إلى الخوف والورع من أن يزيد في ثورة خصومه به، لعله فطن إلى أن الزمان سيعفى على هذا الضرب الحقير من الشعر. وأما احسبه لو عالجه إلا موفياً فيه على الغاية والإحسان على أن الله تعالى كان الطف به من أن يدليه في هذا الهوان.

وإذا كان عجباً من كثير من الشعراء أن يكون حظهم من البراعة في فنون الشعر بدرجة سواء - فإن هذا من شوقي وأمثال شوقي غير عجيب. فالرجل، كما زعمت لك، لا يملك من شاعريته. اكثر مما تملكه شاعريته وما أن اجتمع لقول الشعر، ومضى يجيل الفكر ويطير الخيال، إلا ملكته تلك الشاعرية عن نفسه، وراحت تجوده بالهاتن الحنان من وحي القريض. فإن أصابت ما احتفل له، وإلا ففي فنون المعاني الآفاق العرائض. أرجوك أن تراجع شعر شوقي في كل ما يتورط فيه الشاعر، ولا ينبعث له من نفسه لو كان أمره كله إليه، لتزداد إيماناً بما أقول.

وأرجوك إلا تحسبي غالياً ولا متزايداً إذا زعمت لك إن شعر شوقي كان في بعض الأحيان، بل في كثير من الأحيان، يتخطى إدراكه العادي. أعني إنه لقد كان يصيب ألواناً من المعاني لو انك راجعته فيها غداة نظمها لاحتاج في فهمها إلى فكر وتدبير!.

ولقد وقع لي اكثر من مرة إن راجعته في بعض شعره أرى أنه قد مس فيه معنى رفيعاً جداً، ولكن اللفظ اقصر من أن يطوله بواضح البيان، وإني لأضمر ما المح، وأحياناً ما كان يلمح غيري، فإذا هو بادئ الرأي كقارئة متحير متردد، وإذا هو في فهم مرامي الكلام في حاجة إلى حبس والى استخبار! وأريد أقول لك أن هذا الرجل لقد كان يفاض عليه ساعة وحي الشعر ما لم يكن لفكره في الحساب. ولقد ذكرت هذا من بضعة أيام لنفر من الأدباء ممن كانت لهم صلة بشوقي، فأكد لي بعضهم أنه وقع له مثله هذا أمير الشعراء.

صنعة شوقي

وإذا كان هذا الشاعر صنعة، أو كان له في شعره ما بعد من عمله، فهو للمعنى أولاً، فإن واتى اللفظ ولأن ونصع واشرق، وإلا فلأم هذا اللفظ الهبل!.

لم يكن شوقي إذن يكلف بالديباجة، ولا يجهد في تسوية اللفظ وصقله، ولكنه مع هذا لقد يجيء بالعجب العاجب! بل لقد استحدث شوقي في العربية صيغاً أوفت على الغاية من حلاوة اللفظ، ومتانة النسج، وقوة الإشراق. وأحسب إن قوة المعاني هي التي أرادته على هذا ودفعته إليه دفعاً.

ولقد مما يعدّ على شوقي أنه يكثر من الغريب قي شعره، حتى لقد كان يُضطر هو إلى تذييل ما يفشى من قصائده في الصحف بالشرح والتفسير. ولا أحسب هذا سائغاً في العصر الذي نعيش فيه، بل أني لأزعم أن محصول شوقي من متن اللغة لم يكن يواتي هذا القدر الذي يشعره استكثاره من الغريب في قصيدة، فلقد كنت تسأله معنى الكلمة المفردة تكون قد خلت في بعض شعره، فإذا هو لا يدريه في بعض الأحايين. وإنني لأرجح أن الرجل يكن يعمد بهذا للتكثير بسعة العلم، ووفرة المحصول من اللغة، ولكن لأنه كان يصيب من دقائق المعاني ما لا يتيسر له أداؤه باللفظ الشائع، كما كان يطيل أحياناً كثيرة في القصائد إطالة يحتاج معها إلى الكد في التماس القوافي، فكان يضطر في هذا وفي هذا إلى التماس الألفاظ من القواميس ينزعها انتزاعاً.

التجديد والمجددون

وهنا احب أن أقول شيئاً يسيراً في التجديد والمجددين، وإنني اوجه هذا الكلام، بنوع خاص، إلى الناشئين من المتأدبين.

إذا كان من آيات الحياة في الكائنات تطورها، ونموها، وتجددها. فالأدب، ولاشك، من هذه الكائنات التي لا تكتب لها الحياة إلا على التطور والنمو والتجديد، وإلا كان ميتاً أو أشل على ايسر الحالين.

ولكنني احب أن الفت في هذا المقام، إلى مسالة قد تدق أفهام الكثير أو القليل. وتلك إن هناك فرقا بين التربية والتحديد، وبين المسخ والتغير. ولست أجد مثلاً أسوقه في هذا الباب خيراً من حياة الطفل وحياة النبات. كلاهما ينمو ويربو، وكلاهما يطول ويزكو، حتى يبلغ الحد المقسوم لكماله؛ وقد تتغير بعض معارفه، وقد تخول بعض أعراضه، ولكنه، في الغاية، هو لا شيء آخر، فحسن الوليد، هو حسن الطفل، هو حسن الفتى، وهو حسن الشاب، هو الكهل، وهو حسن الشيخ، وتلك الفسيلة الصغيرة هي هذه النخلة الباسقة، كل نما وربا بما دخل عليه من الغذاء، وما اختلف عليه من الشمس والهواء لقد أصاب كل منهما ما أصاب من أسباب التربية والإزكاء، فاحتجز منهما ما واءمه وما تعلقت به حاجته، ونفى عنه ما لا خير له فيه وما لا حاجة به إليه. ثم أساغ ما أمسك وهظمه، فاستحال دما يجري في عرقه، ويزيد في خلقه.

ولا شك في أن لأدبنا العربي عناصر، وله مقومات، وله شخصية بارزة معينة، فمن شاء فيه تجديدا - ومن الواجب الحتم على القادرين أن يجدوا - فليتقدم، ولكن من هذه السبيل.

ولا شك في أن لأدبنا العربي عناصر، وله مقومات، وله شخصية بارزة معينة، فمن شاء فيه تجديداً - ومن الواجب الحتم على القادرين أن يجددوا - فليتقدم، ولكن من هذه السبيل.

ولا تنسوا إن من أهم هذه المقومات، إن لم يكن أهمها جميعا، هو صحة العربية وتحري فصحها. فمن تهاون هذا وتجاوزه، فليس ما يصنع من الأدب في شيء أبداً. ومما يتصل بهذا المعنى ما لعلي لا أخطي إذا دعوته تقاليد العربية، فالعربية كسائر اللغات القوية تقاليد المأثورة على الزمان.

وهنالك مقومات آخران لهما خطرهما العظيم، إلا وهما التخييل والذوق العام. ولا أحسبك تنكر أن للامة ذوقها الخاص بها في كثير من أسباب الحياة، ولقد تشارك غيرها من الأمم في بعض هذا، ولقد تفارقها في بعض فراقا شديداً أو يسيراً.

أما التخييل فقد قلت لك في مقال مضى إن خيال المرء مهما حلق وعلا، ومهما أسرف وغلا، فهو لا يمكن إن يخرج عن كونه مجرد تلفيق من الحقائق المحسة الواقعة. وأنت بعد خبير بأن اصدق خيال وأروعه، وإن أحكم تشبيه واطبعه هو اشتقه الشاعر مما يحيط به وبقائه، ويقع لأسماعها ولأبصارهما جميعاً. وألا نبا عن السمع، ونشز على الطبع، ولو كان بالغاً غاية الغاية في بيئة أخرى.

نعم، لقد يشهد الشاعر من مجال الطبيعة ما لم يشهد عامة قومه ولقد يظهر على كثير مما اتضحت به بلاغات آثمة البيان في الأمم الأخرى ولقد يتذوق هذا في لُغاهم، ويتأثر به إلى حد بعيد، ولقد يرى أن ينقل ما يطول من ذلك إلى معشره بإخراجه في لغتهم لينعّمهم ويلذذّهم ويرهف حسهم، ويفتق في أذهانهم، ويفسح في أدبهم بإدخال جديد عليه، وإضافة بديع من الآداب الأخرى إليه، فإن له من ذلك ما يجب، على أن يصوغه في صحيح لغته، ويطبعه على غرار أدبه، ويحتال على تسوية خلقه، حتى يصبح تام المشابه بما ألف قومه، حتى لا يحسوا فيه غربة، ولا يشعروا منه بوحشة، فإذا وفق الأديب إلى هذا وأجاده وأحكمه فهو المجدد التام.

شوقي أمام المجددين:

ولقد ضرب شوقي في الأرض كثيراً، ورأى من صور الطبيعة ومن بدائعها ما لم تتهيأ رؤيته لكثير. وقرأ في الفرنسية لأئمة البيان في الغرب ما لا يكاد يملكه الإحصاء. ولقد أساغ ما استعار، وجرى في أعراقه طلقاً، واستطاعت شاعريته الفخمة أن تجلو منه ما شاء أن يجلو عربياً خالصاً لا شك فيه. وهذه دواوينه تزخر بهذا البدع زخراً.

فاللهم إن كان التجديد ما ذكرنا فشوقي أمام المجددين في هذا العصر غير مدافع. أما إن كان التجديد هو المسخ، واستحداث صور شائهة، وستكراه ألوان من المعاني لا تمت ألينا بسبب، على صيغ لا هي بالعربية ولا هي بالأعجمية، فاللهم اشهد أن شوقي ليس مجدداً بل ليس شاعراً أبداً.

ولقد جال شوقي في كل غرض، وقصد كل قصد، وأصاب من كل معنى، وطال نفسه في اكثر قصيدة إلى ما لم يطله كثير من أنفاس الشعراء، فما ضعف ولا تخلخل ولا أسف، ولا فسلت أخليته، ولا شاهت معانيه، بل لقد يأتي أكثر ما يأتي بالجوهري الرائع من حر الكلام.

وليس شوقي يستدل على مكانة بالبيت أو البيتين في القصيدة، أو بالقصيدة والقصيدتين في الديوان، بل إذا طلبت عليه دليلاً فهذه دواوينه، شق منها ما تشاء، وقع منها على ما تريد لك المصادفة، فلن تصيب إلا ارفع الشعر وافخر الكلام.

وبعد، فلقد مات شوقي وإنحسمت جميع أسبابه من الدنيا، وفرغ من مودَّات الناس ومن عداواتهم، واصبح شعره حبساً على التاريخ، فمن كان يرى حقاً أن شوقي لم يبلغ هذه المنزلة، أو أنه لم يبلغ بعضها، أو أنه لم يكن شاعراً البتة، فهذا له رأيه، وعليه تبعته. ولا حيلة لنا ولا لغيرنا فيه. وأما من يقدر شوقي حق قدره، فينزله هذه المنزلة أو ما هو اقرب إليها، فمن واجب الذمة أن يشيد بقدره، ويدل على جلالة محله، لا قضاء لحق الأنصاف وحده، ولا أداء لشكر النعمة فحسب، فلقد كان شوقي نعمة عظمى اسبغها الله على أبناء العربية جميعاً، بل لاستدراج نشئ المتأدبين إلى استظهار شعره، وإنها لهم من أدبه، واتخاذه النموذج المحتذى إذا اجتمع أحدهم للبيان.

هذا واجب الذمة للحق وللبيان جميعاً، وخاصة بعد هذا التبلبل الذي لا احسب أن البيان العربي شهد مثله في أي عصر من عصور التاريخ. وحسبي هذا، فما احب أن اقذف بنفسي في هذه الحرب الناشبة من أنصار قديم وأصحاب جديد.

عبد العزيز البشري

من قول شوقي يصف تمثال نهضة مصر ويشير إلى المرحوم

المثال مختار:

تعالوا تروا كيف سوى الصفاة ... فتاة تلملم سربالها

دنت من أبي الهول مشى الرؤوم ... إلى مقعد هاج بلبالها

وقد جاب في سكرات الكرى ... عروض الليالي وأطوالها

وألقى على الرمل أرواقه ... وأرسى على الأرض أثقالها

يخال لأطراقه في الرمال ... سطيح العصور ورمالها

فقالت: تحرك فهم الجماد ... كأن الجماد وعى قالها

وما الفن إلا الضريح الجميل ... إذا خالط النفس أوحى لها

وما هي إلا جمال العقول ... إذا هي أولته اجمالها