انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 669/الأزهر في مفترق الطرق

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 669/الأزهر في مفترق الطرق

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 04 - 1946



منذ أعوام. . .

للأستاذ محمد محمد المدني

حيّاك الله - يا صاحب الرسالة - وبياك، ولا زلت موفقاً راشداً تنافح عن الحق، وتدعو إلى الخير، وتهدي إلى الصواب.

وجزاك الله خيراً عن (الأزهر) أنت وصاحب (العبقريات) عباس، فلقد نوهتما به في الناس، وما كان خاملا، ولكن بعض الذكر أنبه من بعض، وأقررتما حقه في حياة عزيزة كريمة، يرفع بها لواء الإسلام، ويذود عن حمى الدين، وينشر ثقافة العرب، ويحفظ التراث الغالي الذي لم يبق على ظهر الأرض من يستطيع أن يحفظه سواه!

ولا زالت (الرسالة) الغراء مشرق نور، ومصدر علم وأدب ومنتدى رأي وحكمة، ومحجة صلاح وسداد. . .

أما بعد فإن الأزهر من حيث نظامة، وأقسامة، وخططه، ومناهجه، وقوانينه، ولوائحه؛ لا يكاد ينقصه شيء: جمع بين الحديث والقديم في نظام رتيب رزين لا إفراط فيه ولا تفريط، وقرر من الكتب والدراسات والأساليب ما هو أدنى إلى تحقيق غايته، وتقريب رسالته مع احتفاظه بشخصيته التاريخية، وطابعه القومي الإسلامي، وقسمّ مراحل التعليم فيه أقساماً لا يستغني لاحقها عن سابقها، وأعد للدراسات العلى وللاخصاء كليات ثلاثاً، له أن يزيد عليها كلما قضت لذلك حاجة العلم توسعاً وإخصاء، وفيه إلى ذلك (جماعة) ذات شأن وخطر، كفل لها القانون حصانه، وجعل لها مقاماً محموداً، ومنحها سلطاناً أي سلطان في شئون العلم والدين، وله مع هذا مجلة تحمل اسمه الرنان وذهبه الرنان أيضاً!، وللمجلة (مدير) عظيم!. . . و (مدد) من الكتاب كذلك عظيم. . .

هكذا الأزهر في نظامه وأقسامه، وخططه ومناهجه، وقوانينه ولوائحه، وهو من هذه الناحية بخير والحمد لله، وإن كان في بعض التفصيل محتاجاً إلى تهذيب أو تقويم.

وكان فضيلة الأستاذ الأكبر المغفور له فضيلة الشيخ المراغي يعتقد - ويعتقد معه رجال دعوة الإصلاح - أن هذا النظام في جملته هو خير النظم، وإن الأزهر لا يحتاج إلى تعديله، وإنما يحتاج إلى (تنفيذه)، وليس الغرض تنفيذه شكلا ومظهراً، ولكن جوهراً وروحاً، وبأيد قويه حازمه، وأعين بصيره، وقلوب مؤمنة، وعقول على التدبير له والتفكير في شأنه مقصورة، فإن المظهر الذي لا روح له، ولا حقيقة تؤيده، يضر ولا ينفع، ويؤخر ولا يقدم، وإن التطبيق الصالح لنظام فيه بعض المزايا خير من التطبيق السيئ لنظام من أرقى النظم.

كانت المعركة بين رجال الإصلاح وبين فضيلة الأستاذ الأكبر المراغي رحمه الله لا تعدو هذه الدائرة، وكان لفضيلته ناحيتان: ناحية يرى بها رأى المصلحين، ولا يجادلهم عليه، ولا ينازعهم فيه، بل كان يقرر في عبارات صريحة جريئة أن نظام الأزهر لم ينفذ، وأنه هو منذ تولي أمره لم يخط خطوة جادة في سبيل تنفيذه على النحو الذي يطمئن إليه قلبه ويستريح إليه ضميره؛ وناحية كأنها تحول بينه وبين مايريد، وتغلبه على أمره، ذلك بأنه كان رجلا خطيراً، نزّاعاً إلى غايات، نظّاراً إلى جوانب، يغار على نفسه، ويعتز بشخصه، ويحسب للسياسة حسابها، فيلمحها ويتطلع إليها، ويراقب تياراتها، ويفيد منها، ويحارب بها، ويجري في كثير من أعماله وأحواله على أساليبها، فلم يكن من السهل عليه مع هذا أن ينفذ ما شرع، وأن يحقق ما رأى، فكان قصاراه أن يصابر الداعين، ويلاين المهاجمين، وينتحل المعاذير في لباقة وحسن تخريج، ويحيل على الزمن، ويرى أنه يتربص للظروف والمناسبات، ولكن رجال الدعوة أعيوا به وأعيابهم، فانقلبوا عليه وانقلب عليهم. . . فكانت ثورة الأزهر!

ولعل الأستاذ الزيات وقراءه الكرام لم ينسوا أن الرسالة الغراء كانت حاملة لواء تلك الدعوة. ولست أنسى أنها نشرت في بعض أعدادها المذكرة المراغية المشهورة في إصلاح الأزهر، ثم علقت عليها بهذه الكلمة الجامعة اللاذعة التي ضمنها الأستاذ الزيات خلاصة الدعوة وغايتها حيث يقول: (هذه المذكرة هي مقطع الصواب في هذا الباب، وما نظن أحداً ممن تحري وجوه الصلاح لهذه الجامعة الإسلامية العظمى قد بلغ من ذلك بعض ما بلغ الإمام (المراغي) في هذه الكلمة. . . فلم يبقى عليه إلا أن ينفذ ما وضع، ويطبق ما شرع.

(إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة ... فإن فساد الرأي أن تترددا)

وقد توالت النذر، وتتابعت الصيحات، على صفحات الرسالة، وفي التقريرات المرفوعة، وفي المحاضرات العلنية الجامعة، وكان منها تلك المحاضرة التاريخية التي ألقاها رجل كبير مسئول، لرأيه وزن وتقدير في الأزهر وفي غير الأزهر، هو فضيلة الأستاذ الشيخ محمود شلتوت عضو جماعة العلماء ووكيل كلية الشريعة (يومئذ)، وقد عرض فيها لحالة الأزهر قديماً وحديثاً، وبين مدى انتفاعه بقانون الإصلاح المبنى على المذكرة المراغية ثم قال موجها كلامه إلى إخوانه وأبنائه من الأزهريين:

(أيها الإخوان. أيها الأبناء. لا أحب أن أبرح مكاني هذا حتى أصارحكم بما يجب أن نحسب حسابه، وأن نجعله نصب أعيننا من التفكير والعناية: إن الأزهر حقيقة كان مقصراً فيما مضى، ولكن الأمة لم تكن قد نهضت هذه النهضة، ولم تكن قد مارست من الشئون ما تمارس اليوم، فلم يكن الفرق بينها وبين الأزهر يومئذ ملحوظاً، أما اليوم فإن الأمة قد تنبهت وأصبحت تكلف أبنائها نشاطاً في خدمتها، ودأباً على ترقية شؤونها، وإخلاصاً وتفانياً في أداء واجباتها، وهي ترقب عن كثب ما تعمله كل طائفة لتحل هذه الطائفة محلها من الاعتبار أو الإهمال.

(ولست أشك في أن أبناء الأزهر اليوم قد وسعت الحياة مداركهم، وملأت بالآمال نفوسهم، وخلقت فيهم استعداداً حسناً للاضطلاع بأكبر المهام، ومنافسة أعظم الجامعات، وإنه لا ينقصهم سوى شيْ من العناية الجادة الحازمة يتصل بهم، فيربط بين قلوبهم، ويكشف لهم عن وجهتهم، وينظم جهودهم ويبرز أعمالهم؛ وليس من الرأي أن نترك هذه النفوس المستعدة المتطلعة إلي المجد حائرة دون أن نهديها السبيل)

تلك صفحة من تاريخ الجهاد في سبيل الأزهر، وفي الرسالة صفحات وصفحات!

و. . . أما بعد - مرة أخرى - فأن الأزهر كما تقول يا صاحب الرسالة في مفترق الطرق، وهو في مفترق الطرق منذ ذلك العهد، حين وضع نظامه الجديد ثم اكتفى في تنفيذه بالعرض دون الجوهر، وبالقشور دون اللباب، وسيظل في مفترق الطرق حتى يأذن الله له بنفحة من نفحات الجد والعزم والإقدام يقصد بها وجه الله فحسب، ولا تلويها السياسة ولا الأغراض ولا المناصب ولا الدسائس عن غايتها. يومئذ يندفع الأزهر من مفترق الطرق سيراً إلى الأمام، يسابق فيسبق وإنه لسباق!

أما إذا طالت وقفته، فأن ركب الحياة لا يستأني له، ولا يصبر عليه، ويومئذ تكون التي نسأل الله ألا تكون! وأحب أن أقول: أن عهد المغفور له الأستاذ الأكبر المراغي قد مضى بماله وما عليه، واستأنف الأزهر عهداً جديداً وشيخاً جديداً، فمن الخير أن نعتبر بما كان حتى لا نقع في مثل أخطاء الماضي. من الخير أن نقدم مصلحة الأزهر جامعتنا المحبوبة على كل مصلحة، وأن نسوسه بسياسة غايتها نجاحه هو لا النجاح على حسابه؛ غايتها توجيهه توجيهاً علمياً إسلامياً نافعاً مثمراً صادقاً لا توجيهاً سياسياً ولا حزبياً ولا طائفياً ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب!

لقد انقضى هذا العام الدراسي في الأزهر كما انقضت أعوام من قبله، ولم نر إلا وجوهاً جديدة، ومناصب جديدة، وعلاوات ودرجات وترقيات، أما ما وراء ذلك فإني أكون مقتصداً جداً إذا قلت أن الحال هي الحال!

وقد يقال: إن الإدارة الجديدة لم يمض عليها بعد زمن تحاسب معه على ما قدمت أو أخرت، ولكن هبوا الصبح لم يشرق فأين تباشيره؟ أين ما يدل على نوايا الخير والإصلاح والنهوض؟

كنت أتوقع أن يكون أول ما يهتم به فضيلة الأستاذ الأكبر الجديد، أن يجمع كل ما كتب في الصحف أو التقارير على عهد فضيلة الشيخ السابق، وأن يضم ذلك إلى محاضر اللجان المتعددة التي ألفت لبحث أسباب الركود وعوامل الضعف، وأن يراجع جميع المشروعات التي وضعت ثم طويت، وأن يدرس جميع المشاكل التي تسبب القلق للدراسة في كل عام من مطالب للطلاب أو الأساتذة، وأن يتصل بالمختصين في كل وزارة ليصون حقوق الأزهر التي في يديه، ويسترجع حقوق الأزهر التي انتزعت منه.

كنت أتوقع أن يسأل عن البرنامج العملي الذي وضعته لنفسها (جماعة كبار العلماء) باقتراح من بعض أعضائها، لوضع تفسير للقراَن الكريم خال من الحشو والروايات الموضوعة والإسرائيليات، ولبحث ما جد ويجد من المعاملات، ولتنظيم الوعظ والإرشاد على طريقة مجدية، ولكذا وكذا. . . مما جاء في هذا البرنامج الذي وضع ثم أقر ثم أميت. فبأي ذنب قتل؟

كنت أتوقع أن يسأل عن قسم تخصص المادة في الأزهر وما سبب توقفه؟ وهل كانت ريحه تجري رخاء كما أراد القانون؟ كنت أتوقع أن يسأل عن اللجان التي ألفت لترجمة المفيد من كتب الغرب العلمية تمهيدا لإخراجها والانتفاع بها.

كنت أتوقع أن يسأل عن حالة البعوث العلمية التي تفد إلى الأزهر من سائر البلاد الإسلامية شرقيها وغربيها ليعلم: أيقوم الأزهر بأداء أمانته في هذه الناحية؟ وما مدى قيامه بها؟

كنت أتوقع أن يقرأ مجلة الأزهر، ثم يسأل عن مشروع إصلاحها وماذا فيه؟ وفي أي درج من الأدراج هو الآن؟ لينفض عن الغبار، وينفي عنه القتار!

كنت أتوقع أن يسأل عن (مشروع بناء الجامعة الأزهرية) وبعض المعاهد الدينية تمهيداً لاستئناف العمل فيه، وقد شرف فضيلته بعد انتهاء الحرب، وفي ظلال الأمن والسلام.

كنت أتوقع ذلك كله، وكنت أتوقع أكثر منه، لأني أعرف أن الأستاذ الأكبر الجديد رجل أزهري من تلاميذ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، يغار على الأزهر، ويسره صلاحه ونجاحه، وأنه قد ضم إلى ثقافته الأزهرية ثقافة أوروبية، وتقلب في مناصب عدة، وكنا نسمع عنه من أصدقائه المتصلين به أنه غير راض عما كان قبله من المطاولات والمراوغات.

كنت أتوقع ذلك كله ليسير الأزهر في عهده الجديد سيراً حثيثاً إلى الإمام، فيتدارك ما فاته، ويحقق ما أخذ على عاتقه تحقيقه ويثبت للناس بالأعمال لا بالأقوال أنهم في حاجه إليه، وأن غيره لا يغني عنه.

ولكن شيئاً مما توقعته لم يكن، أو أنا على الأقل لم أره ولم أعلم به، وما أحسب الآمر من السر والكتمان، بحيث يكون ولا أعلم أنه كان!

ومهما يكن من شيء فلا أحب أن نيأس، وقد كنا سمعنا أن فضيلة الأستاذ الأكبر قال في أول خطبة له بعد أن تولى منصبه مخاطباً أبناء الأزهر: (أما والله لأدفعنكم بكلتا يديّ إلى الطريق!) فإن كان موعد هذا الدفع لم يحن بعد فنرجو ألا يطول بنا الانتظار!

وأما بعد مرة ثالثة، فإن لي في شأن اقتراح الأستاذ الكبير الزيات، وما أتبعه به الأستاذ الكبير العقاد، رأياً، وليس المجال اليوم بذي سعة فأدلي به، فإلى اللقاء - إن شاء الله - في حديث بعد هذا الحديث.

محمد محمد المدني

المدرس في كلية اللغة العربية