مجلة الرسالة/العدد 668/على هامش النقد:
مجلة الرسالة/العدد 668/على هامش النقد:
همزات الشياطين
مجموعة أقاصيص: عبد الحميد جودة السحار
للأستاذ سيد قطب
كان هذا الكتاب - وهو حلقة من سلسلة لجنة النشر للجامعيين - مفاجأة كاملة لي. فأنا أعرف مؤلفه الشاب، فأعرف أنه أديب مجتهد؛ وقد قرأت له ما سمح وقتي المحدود بقراءته من كتبه الكثيرة التي يتجه بها غالبا إلى التاريخ الإسلامي ليعيد عرض وقائعه الجافة في صورة قصصية يحافظ فيها على دقة التاريخ مع سهولة العرض وتشويقه، وهو عمل نافع مشكور.
وقرأت له قصته الأولى عن: أحمس بطل الاستقلال، وهي لا تبشر بشيء! ثم قرأت - على وجه الخصوص - كتابه (في الوظيفة) وأعجبني فيه قدرته على التصوير السريع باللمسات الخاطفة، وقلت عنه في عدد (الرسالة) بتاريخ 22 يناير 1945:
(إن صاحب هذه الصور الانتقادية موهوب في فن التصوير السريع. ومهما أخذت عليه من عيوب في عمله الفني، فإنك لن تخطئ الملامح التي يريدها، والسحنة التي يبغيها، وهذا وحده يكفي.
(إنه ذو عين لماحة، تسجل الحركة الحسية، كما تسجل الحركة النفسية. ثم تغلف اللمحة المرسومة بروح السخرية، وتمزجها بعنصر الفكاهة، حتى ليخيل إليك أنه ينظر إلى الدنيا كما ينظر إلى ملهاة كبيرة؛ تأخذ عينه فيها لمحات التناقض، وتأخذ حسه فيها مواضع السخرية، وتأخذ نفسه فيها مواطن الدعابة. . .)
ولكن هذا كله شيء، و (همزات الشياطين) شيء آخر، ومع أنها موسومة بهذه السمة التي عبرت عنها في تلك الفقرات، إلا أن الشقة بينها وبين جميع أعمال المؤلف الشاب بعيدة، فهي وثبة واسعة المدى، لا بالقياس إلى جميع أعماله، بل بالقياس إلى أقصى ما كان يتوقعه الناقد لهذه الأعمال!
وقبل أن أبعد في طريق التعميم أخصص ماذا أعني بأنه وثبة واسعة المدى: تحتوي هذ المجموعة على اثنتي عشرة أقصوصة، وقد صدرها المؤلف ببحث مختصر مفيد عن الرواية والأقصوصة يؤلف مع الفصل الذي احتوى عليه كتاب (فنون الأدب) عن القصة والمسرحية تأليف (هـ. ب تشارلتن) وتعريب الأستاذ زكي نجيب محمود. والفصل الذي كتبه الأستاذ محمود تيمور عن (فن القصص). . . كل ما تحويه المكتبة العربية تقريبا عن هذا الباب الضخم من أبواب الأدب: باب القصة!
من هذه المجموعة أقصوصة طويلة بعنوان (وسوسة الشيطان) تستغرق أكثر من ثلاثين صفحة، وهي الأقصوصة الرئيسية في المجموعة. . . وهذه هي الأقصوصة الفذة البارعة في المجموعة، وفي أعمال المؤلف كلها منذ أن أخذ يكتب وينشر. أما بقية المجموعة فشيء عادي فيه الخطأ وفيه الصواب، وبعضها تبدو فيه العجلة التي لا تغتفر لمن يملك أن يخرج مثل هذه الأقصوصة الرئيسية!
وهذه الأقصوصة التي هي فاجأتني مفاجأة تامة، جعلتني أعاود النظر في كل ما قرأته للمؤلف، لعلني أكون قد أخطأت في تقديري أول الأمر، أو لعل بعض كتبه التي لم أكن قرأتها توحي بهذه الوثبة الواسعة!
ثم عدت بعد هذا كله مقتنعا بأنها وثبة واسعة، ومفاجأة كاملة! وقادتني هذه المفاجأة إلى أن أراجع كل ما تحويه مكتبتي من الأقاصيص المؤلفة باللغة العربية - وهي تكاد تشمل كل ما تحويه المكتبة العربية في هذا الباب فوجدت هذه الأقصوصة تقف وحدها متفردة بين هذا الحشد من الأقاصيص.
وأردت أن أتابع الموازنة، فعدت إلى ما تحويه مكتبتي من الأقاصيص المترجمة - وهي تكاد تشمل كذلك كل ما نقل إلى اللغة العربية - فوجدت هذه الأقصوصة تقف رافعة الرأس مع أعظم ما أعجبت به في هذه المجموعة. . . ترتفع على معظمه، وتساوي أقله، وتنحني أمام عدد صغير جداً لا يبلغ عشرة أقاصيص من حوالي المائتين!
تصور هذه الأقصوصة تجربة نفسية كاملة للخطيئة. وهي تمثل - مع استقلالها وأصالتها - صراع كل (بافنوس) أمام (تاييس) وكل (عبد الرحمن القس) أمام (سلامة)، بل صراع كل (آدم) أمام فتنة الفاكهة المحرمة. وهي تصور هذا الصراع باللمسة الهينة، والإيماءة القصيرة، واللفظة الموحية، والحركة المعبرة، وتلم في الطريق بكل خلجة وكل خاطرة وكل تأثر وكل انفعال، وتجمع بين السرعة المتحركة في السياق، والدقة الكاملة في رسم الخلجات الخفية، والوسوسات الخافتة، وتصور (فلما) كاملا للصراع النفسي في موقف خاص!
وذلك كله دون حذلقة، ودون إبراز للتحليل النفسي الذي يأخذ هيئة التفسير العلمي فيفسد الفن القصصي، إلا في موضعين عابرين ألم بهما إلماما سريعا لحسن الحظ، فلم يفسدا السياق، وإن غضا من قيمته الفنية قليلاً.
والصعوبة التي تواجه ناقد القصة أنه لا يملك عرض الجمال الفني فيها كما يريد، فالتلخيص عبث وقتل لهذا الجمال، فهو - على أحسن الأوضاع - يلخص الفكرة، وماذا تجدي الفكرة إذا لم يستطع تصوير طريقة العلاج؟ وكل وصف لطريقة العلاج يعد تشويها بالقياس إلى حقيقة العمل الفني في السياق!
ولكنني بعد هذا كله ملزم أن أعرض على القارئ هذا التشويه:
صلاح شاب في الثلاثين، متدين، واثق بنفسه وبإيمانه، فقد وصل إلى هذه السن ولم يرتكب معصية قط - على الأقل حسبما يعتقد - فهو صاحب حق في الجنة لا منازعة فيه، ولأنه لم يعان من قبل أية تجربة نفسية، فهو يقسو على الخطيئة والخطاة، ولا تنفسح نفسه لأي عطف عليها أو عليهم، ولا يحاول أن يستمع لأية معذرة من الظروف والملابسات والاضطرار.
وحين يسمع من الواعظ تحذيره من النفاق وتخويفه للناس من عذاب النار، لا يحفل ولا يجفل، فإنه ناج من النار! وحين يقص على زوجته نبأ طرد عبد التواب أفندي من عمله لأنه اختلس يعلق على هذه الجريمة بقسوة، ولا يقبل من زوجه التماس أية معذرة لهذا السارق الأثيم! وحينما تتقاعس زوجه عن صلاة الفجر لأن حلاوة النوم تقعد بها في السرير، يلح عليها حتى تقوم، لأنه (يود أن يزحزحها عن النار. . .) وحينما يعلن أن فتاة يتركها أهلها لتشتغل بالتدريس بعيدة عنهم، يهم بأن يذهب إليهم ليوبخهم على هذا الاستهتار! ويخرج صلاح لعمله بعد الصلاة وقراءة (الحزب) وهو يحلم بالجنة التي دخلها فلم يجد (سميرة) زوجه، ثم إذا هي تدخلها إكراما لخاطره!. . . يخرج حيث يعد له المؤلف، أو تعد له الحياة، الفتنة الأولى مع هذه المدرسة ذاتها: (أغلق صلاح باب مسكنه خلفه، وقبل أن يهم بالنزول في الدرج، فتح باب المسكن المواجه له، وخرجت منه فتاة واسعة العينين، ناهدة الصدر، نحيلة الخصر، وما إن تلاقت عيناه بعينيها حتى غض من بصره، وتأخر خطوات ليفسح لها الطريق؛ فمرت من أمامه، وملأت خياشيمه رائحة عبقة أنعشت نفسه، ولكنه ظل مطأطئ البصر، وهبطت الدرج قافزة، ولم يقدر صلاح على أن يقمع شهوة التطلع طويلا، فنظر من بين أهدابه المسبلة، فوقع بصره على ثديين يترجرجان صاعدين هابطين، فأغمض عينيه، وتعوذ من الشيطان الرجيم، وخفت وقع أقدامها وتلاشى، فوجد نفسه يهبط مسرعا - وما كان لينزل إلا متمهلا وقورا، متخذا سمة الكهول الموقرين - وسأل نفسه عما دفعه إلى الهبوط السريع، فرد ذلك إلى جو الربيع الذي أنعشه، ودب فيه نشاط حبيب إلى النفس، وبلغ الطريق فلمحها تغذ في السير، وتصعد إلى الطوار خفيفة رشيقة، وما تقع في الطريق خطوات، حتى تعود لتقفز إلى الطوار ثانية كأنها خيال يطير، لا يبغي المكوث على الأرض ولا يطيق اللصوق بها. ووجد نفسه يغذ في السير، ولكن علام الإسراع، وما هناك حاجة إلى الإسراع، فما زال في الوقت متسع؟ وأحس همسا خفيفا ينبعث من داخله يستفسر: ترى أتغذ في السير لتلحق بها وتتطلع إليها؟ وما همس هذا الهاجس في نفسه حتى تفزع وجفل، وضيق من خطوه، وتعوذ وابتدأ في قراءة المعوذتين!)
ثم تتابع الحياة دورتها، ويتابع المؤلف خطوات صلاح. وصراعه مع نفسه، ومغالطته لها، وهواجسه وخطراته، وتناقض أحاسيسه، وإقدامه وإحجامه، واقترابه في كل إقدام وكل إحجام من الهزيمة والاستسلام؛ في أسلوب بارع فائق لا نستطيع مجاراته فيه ولا نملك تلخيصه، حتى نلتقي بالبطل في موقف الهزيمة الأول: (وانطلقا في الطريق الهادئ الساكن الممتد على النيل، وسارا صامتين كأنما استعارا صمتهما من صمت المكان، واقتربت (بديعة) منه حتى التصق كتفها بكتفه، واصطدمت يدها بيده أكثر من مرة، واستقرت يدها في يده أخيرا، فراح يضغطها ضغطا خفيفا، فكان يحس بنشوة لذيذة تسري فيه، ما كان يحسها لو أن اليد التي كانت في يده يد (سميرة)، واستمر السكون مخيما عليهما، وكان سكونا خارجيا، ولم تكن نفساهما ساكنتين، بل كانتا تعتلجان بشعور فوار، فقد كان كل منهما يتمنى أن يضم صاحبه إلى صدره ليطفئ ناره! (وبلغا مقعدا خشبيا، فجلسا يحدقان في النيل برهة، ثم زحفت (بديعة) على المقعد بخفة حتى التصقت به، فملأ عبيرها الشذي أنفه، وحرك نفسه، فتاق إلى أن يضمها إليه، ويطوقها بذراعيه، ويمطر وجهها قبلات، ولكنه قمع شهوته، وقاوم رغبته، ورمى بنظره إلى النيل، وجعل يرقب موجاته المتكسرة محاولا أن يتشاغل عن هواتف نفسه، ولكن رغبته خنقته وسيطرت عليه، فارتد بصره إليها، وراح يتطلع إليها في وله واشتهاء. . . والتقت العيون، فترجمت عما تخفي الصدور، فمالت (بديعة) وأسندت ظهرها إلى صدره، فخفق قلبه، وارتفع نبضه، وسرى الدم حارا في بدنه، حتى أحس به يكاد يشوي وجهه، وانبهرت أنفاسه قليلا، وضاقت حدقتا عينيه قليلا، واضطرب كثيرا، وأحس شعرها الأسود السبط الجميل الذي تمنى يوم جلست أمامه في السينما أن يمر بيده عليه، يلمس خده، فسرت رعدته في جسمه، وارتفعت يده دون أن يتكلف ذلك، وراحت تمر على شعرها في حنان، فرفعت عينيها المتكسرتين إليه وهي مستلقية على صدره، واستدارت قليلا كأنما استدارت للقبل. . . ورنت إليه في دلال، وزمت شفتيها تدعوه في خبث إلى اللثم والعناق. . . فلم يستطع أن يقاوم تلك الفتنة المرتمية في أحضانه، ولا نداء العينين الواسعتين الساحرتين، ولا الشفتين المزمومتين المرتجفتين قليلا، المغريتين كثيرا!)
وهكذا يمضي المؤلف بصلاح المسكين في سياق مصور دقيق على هذا الطراز حتى يصل به إلى الدار: (وتذكر في الطريق دعاء ما كان يجري له ببال قبل اليوم، ولم يتحرك به لسانه أبدا، فأخذ يردده في نفسه في حرارة يحس نارها تصهر صدره، ولأول مرة يحس جلال ذلك الدعاء، واستمر يردده وهو يصعد الدرج: (اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي. . . اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي)!
(ودق الباب ففتحته زوجته، فدخل وأغلقه خلفه، ثم طوقها بذراعيه، وراح يقبلها في لهفة وهو يغمغم: (سميرة. . . سميرة؟) كأنما كان في سفر طويل عاد منه، وخطر داهم يهدد حياته، وأحس كأنه يود أن يفضي لها بكل شيء، وأن يقص عليها قصة ضعفه، ولكنه تريث، وتخلصت منه في رفق، وسألته في ارتياب: ما بك الليلة؟ فقال: لا أدري، إني إليك مشتاق كأني لم أرك منذ سنين! فقالت: أأعد العشاء؟ فقال: انتظري حتى أصلي العشاء!
(ودخل حجرته، وأخذ يخلع ملابسه، ولم ترحمه نفسه المهتاجة، بل راحت تخزه، فسمع صوتا يهتف به من أغوار نفسه: (يا لك من منافق! كيف سمحت لنفسك أن تضع شفتيك الآثمتين على شفتيها الطاهرتين؟ وكيف رضيت أن تلف ذراعيك الملوثتين بخصرها؟ وأن تلصق صدرك الخبيث بصدرها؟ يا لعارك!)
ثم يعتزم التوبة والتكفير بألا يلقى بديعة مرة أخرى. ويصر على ذلك إصرارا ونفسه تهتف به إليها هتافا، ويصمد في الظاهر وهو يقرب من الخطيئة الكبرى. . . ثم تقع هذه الخطيئة في أشد لحظاته إصرارا على ألا يلمح (بديعة) أو يراها!. ثم يصبح الصباح!. (واستمر ضميره يخزه وخزا شديدا، وهو يتلوى من العذاب، وضاق صدره فترقرق الدمع في عينيه فلم يستطع حبسه، فجرى على خديه، واستمر في عذاب حتى ارتفع صوت المؤذن يؤذن بالفجر. فأحس كأنه نار تصب في أذنيه. فوضع إصبعه في أذنه ليصمها عن سماع الأذان الذي يزيد من أشجانه، ولكن صوت المؤذن كان يقرع سمعه فكأنه شواظ من نار سددت إلى قلبه فحرقته حرقا، وارتفعت النار إلى صدره فأضنته، وأحس (سميرة) تنهض من فراشها، فأحس عرق الخجل يتصبب منه حتى يغمره، واقتربت من سريره فود أن تبتلعه الأرض قبل أن تمسه، ولكن يد (سميرة) لمست كتفه في رفق، وهمست في حنان: صلاح. . . صلاح. . . انهض قد أذن المؤذن. . .
(فهم بأن يصيح فيها أن تبتعد عنه، وألا تلمسه، ولكن صوته انحبس، ولم يجد مخرجا. فعادت تهزه وتهتف: - صلاح قم. الصلاة خير من النوم. واقتربت بوجهها من وجهه، فلمحت دموعه تجري على خده. فهمست في فزع: - صلاح. ما بك؟ أتبكي؟. . . قم يا حبيبي. قال: دعيني. قالت ما بك يا حبيبي؟ قال: رأيت رؤيا مفزعة. رأيت نفسي أطرد من الجنة).
ولا تنتهي الأقصوصة حتى يكون هذا الواثق في نفسه وقوة إيمانه، المستعز بمكانه في الجنة، القاسي على الضعف والخطيئة. . . معذبا مولها، لا تهب عليه نسائم الرحمة إلا من الإقرار بالضعف والخطيئة والرجوع إلى التواب الغفار عن طريق الخطأ والاستغفار! (ونهض صلاح ليغتسل من إثمه، وانطلق حزينا كئيبا يحتقر نفسه، ويعجب لضعفه، وسمع صوتا آتيا من أغوار نفسه كأنه همس ينبعث من مكان سحيق، ولكنه بلغ أذنيه واضحا قويا، وانساب فيها عذبا نديا: (كل ابن آدم خطّاء. وخير الخطائين التوابون)
فتمتم والدموع تخضب وجهه: (اللهم إني استغفرك وأتوب إليك)
هذا عمل فني رائع لا تصوره تلك المتقطفات بل تشوهه!
وإن المؤلف الشاب ليستطيع أن يلقى بكل أعماله إلى البحر، ثم يقف بهذا العمل الفني وحده. فإذا قدر له أن يخرج عشر أقاصيص فقط من هذا الطراز، فليكن على ثقة أنه سيسلك في سجل العظماء من رجال الفنون! ولكن هذا عمل عسير!!!
سيد قطب