مجلة الرسالة/العدد 660/بمناسبة (المولد):
مجلة الرسالة/العدد 660/بمناسبة (المولد):
2 - بمناسبة (المولد):
لا تخافوا. . .!
(مهداة إلى (جماعة الأخوان المسلمين)
للأستاذ علي الطنطاوي
لاتخافوا، فوالله لا الفرنسيون ولا آل صهيون، ولا دول الأرض كلها تستطيع أن تبيد شعباً عربياً مسلماً، أو تذلّه فتسلبه عزّة نفسه وقوة إيمانه. فجدوا واعملوا، ولا تدحروا وسعاً ولا طاقة، وفتشوا عن القادة، فإنما تنقصنا القيادة، ولكن لا تخافوا على العرب فلسطين أو أفريقية، ولا على مسلمي أندنوسية، فإن (محمداً) قد وضع في دمائهم المصل الواقي من الحور والجبن والتهافت، وصبّ المناعة في أعصابهم صبّا، وعلمهم الصبر على المصائب وإن تتالت، واشدائد وإن تعاقبت، مع العمل على دفع المصائب ورفع الشدائد، فكان الجهاد في سبيل الله، وبذل النفس من أجل الدين والشرف، فطرة في أتباع (محمد)، وخلقة فيهم أو أرادوا الانفكاك عنها ما طاوعتهم قلوبهم!
ألا ترون إليهم كم غامروا وجاهدوا واحتملوا من الأذى، ثم هاهم أولاء يدعون إلى الجهاد نزْلة أخرى فيمسحون الدموع، ويربطون على الجروح، ويقومون من القبور، ويثبون مع الداعي يأخذون الطعام من أفواه بناتهم، والكسى من نحور صبيانهم، ليبيعوها فيشتروا البندقية ويمشوا إلى الجهاد!
أولئك هم الأبطال حقاً، لا أعني الزعماء الذين يملأون بطونهم من الطيبات، ويمضون إلى الحفلات بالسيارات، ثم يقومون إلى المنبر لا يطيقون الوقوف من التخمة، فيخطّبون بصوت متقطع ألأنفاس من البَشَم لا من الحماس. . . يصرخون: نحن المجاهدون، نحن الذين فعلوا والذين يفعلون. . . ثم يروحون إلى دارهم فينامون وهم يحلمون بالمجد المؤثّل الذي شادته لهم خطبهم في الهواء!
ولا السياسيين الذين لا يعرفون من الوطنية إلا أنها أقرب الطرق إلى الكراسي، فإن جاءت من قبل الشعب، فهم من الشعب وإلى الشعب، وإن لم تجىء إلا من الفرنسيس والإنكليز، فما هم غرباء عن الإنكليز ولا عن الفرنسيس! ولا التجار الفجار الذين يعبدون الدرهم والدينار، والذين أجاءونا في هذه الحرب وعرّونا، لييريقوا ما سرقوه من ثمن خبزنا وكسوتنا على قدمي كل بغى، وزلفى إلى كل شيطان، فهؤلاء جميعاً ليسوا منا، وإنا منهم لُبرءَاء!
وإنما أعنى هذا الشعب الذي ثار في غوطة دمشق، وميادين القاهرة، وسهول العراق، وصحارى طرابلس والجزائر، ورحاب الريف الأقصى، وثار في فلسطين من ديار الشام، فأترع الدنيا بطولة ونبلا. . .
هذا الشعب الذي خرج منه حارس أميّ من حراس الليل إلى غوطة دمشق، فوقف على نهر ثورا، وما نهر ثورا؟ جدول عرضه سبعة أمتار. . . ووقف جيش فرنسا في الشرق على الضفة الأخرى، وبينهما جسر، وما معه إلا فئة من الثوّار، فلم يستطع جيش فرنسا وقائده الجنرال اجتياز هذا الجسر إلا بعد ما مات الحارس الدمشقي، حسن الخراط، بعد ثمانية عشر شهراً كلها وقائع داميات ومعارك حاميات، ولقد ردّ حسن وأصحابه الجيش الفرنسي مرّةً حتى ألجأوه إلى دمشق، ثم حاربوه في شوارعها حتى أخرجوه منها إلى المزّة، ولبثوا في دمشق ثلاثة أيام وما فيها فرنسي واحد.
هذا الشعب الذي فرّ ضابط من ضباطه من بغداد مع ستين جندياً، إلى الصحراء التي قطعها (خالد) من قبل والعدوّ من أمامه، والعدو من ورائه، والعدو من فوقه، ولو وقفت عليه سيارة، أو كشفته طيارة، لذهب بدداً، فقطع الصحراء، ثم بلغ فلسطين، ثم قاد الثورة فيها، فظفر كما ظفر خالد بالروم، وقذف الله به الرعب في قلوب الجند، فكانوا يرتجفون هلعاً، وينهزمون فزعاً إذا قيل: (فوزي القاوقجى)!
هذا الشعب الذي كان يحارب ضابطاً آخر من ضباطه مع فئات من أتباعه، جيشان أوربيان جيش فرنسي فيه مائة ألف، وجيش أسباني فيه مائة وخمسون ألفاً، هؤلاء كلهم يكافئون في الميزان الأمير المسلم عبد الكريم بطل الريف.
هذا الشعب الذي قابلت حفنة منه مفلولة السلاح، قليلة العتاد، إنكلترا ذات الحول والطول، ومالكة خمس العالم، وثبتت في وجهها سنتين اثنين، لا يوماً ولا يومين، وأرتها من قوة الإيمان العجب العجاب:
بين يدى الآن عدد قديم من جريدة (بيروت) صادر سنة 1937، أفتحبون أن ألخص لكم خبراً وجدته فيه:
(التقى في (حيفا) نفر من المسلمين المجاهدين في سبيل الله، وفرقة آليّة من الجيش البرطاني، ودارت رحى الحرب، فهجم المجاهدون على الدبابات والمصفحات، فكان إيمانهم أمضى من نارها وأقوى من حديدها، فنفذ منها إلى قلوب من فيها، فلم تغن عنهم صفائحهم ولابارودهم شيئاً، وَأعان الله عليهم حزبه بالرعب، فانهزموا، وهربت مصفحة. . . فطار على وجهها، لا تلوي على شيء، إلي. . . أتدرون إلى أين؟ إلى عكا. . . إلى صور. . . إلى صيدا. . . إلى بيروت. . . إلى طرابلس - إي والله - ولولا أن الأخبار سبقتها إليها حملتها الأسلاك، فقطعوا عليها الطريق بالحجارة، ووقفوها، لولْت منهزمةً إلى بريطانيا!)
هذا الشعب الذي أدهش أهل الدنيا بفتوحاته غابر الدهر، وأدهشهم بثوراته حاضره، وسيدهشهم في مستقبله ويدعهم مفتوحة أفواههم من عظم ما يرون، حين يثب الوثبة الكبرى، التي يعود بها كما بدأ شعباً واحداً، يعبد رباً واحداً، ويتبع الكتاب قانوناً واحداً، لا تعجبوا فتقولوا: أين السبيل إلى الاتحاد الإسلامي؟! فهذه إنكلترا لها خمس الأرض، قد تفرقت بلادها في أرجائها، ثم إن لها ملكاً واحداً وراية ورابطة، أفنعجز أن نوجد للمسلمين نظاماً جديداً مبتكراً، يجمع متفرقهم، ويدني بعيدهم، ويصلحهم ويصلح لهم؟!
وليس الذي انتصر حسن الخراط، ولا فوزي القاوقجي، ولا عبد الكريم، لأنه لا يعقل أن يغلب أفرادُ دولةً، ولكن الذي انتصر هو الإسلام، ولو ثار هؤلاء لغيره ما صنعوا شيئاً، إذا يُتركون لقوتهم وذكائهم وعلمهم، وأعدائهم أشد قوة وأحد ذكاء، وأكثر علما. الإسلام أعجوبة الدهر الباقية، معجزة كل عصر، فيا أيها الأغبياء الذين يجرؤون على قياس الإسلام بنزوات هتلر، وخيالات لينين، وحماقات كل متسلط على العقول أو البلدان، يحسب لجهاه أنه يشرع ديناً ويضع شريعة، إنكم لفي ضلال مبين، أين الهتلرية؟ لقد ذهبت به هزيمة واحدة، وهزيمة مثلها تذهب بباقي الحماقات التي حسبتموها أدياناً!
أما الإسلام: فهو في ذاته قوة لا يحتاج إلى قوة أتباعه ليؤيدوه بها، بل هو الذي يؤيدهم بقوته فينصرون. ولقد تأخر المسلمون ورجع بهم الزمان القهقري، ولكن الإسلام نفذ من الحجب، ولبث يتقدم. إن المبشرين ينفقون كل سنة القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، ثم لا يأخذون واحداً، حتى يأخذ الإسلام بغير مال ولا عمل تسعة وتسعين. . .
الإسلام ينتشر اليوم بنفسه في أرقى ممالك أوربة، وفي أحط بقاع أفريقية، والمبشرون لم يستطيعوا أن يدخلوا في النصرانية (مسلماً) واحداً. إنهم يجمعون الجهلة من المغاربة الذين لا يعرفون ما الإسلام، فيطمعونهم ويطمعونهم، ثم يلقون عليهم عجائب المسيح، فإذا وصلوا إلى موضع المعجزة، صاحوا كلهم بلسان واحد متعجبين: الله أكبر، لا إله إلا الله!
وينزل المبشر على القبيلة في أواسط أفريقية فيعطى ويرغْب، ويبقى سنة كاملة، فلا يستجيب له منها إلا النفر المعدودون، ثم يأتي التاجر المسلم الجاهل، فينام عندهم، ويأكل طعامهم، فلا يأتي الشهر حتى تكون القبيلة كلها قائمة وراءه تصلي على دين (محمد). . . والمبشرون ينظرون!!
أتشكّون بعد هذا أن الإسلام قوة هائلة للمسلمين؟!
هل عرفتم الصواعق المنقضة؟ هل رأيتم الصخور المنحطة من أعالي الجبال، والسيول الجارفة، والبركان الهائل، و. . . وكل ما في السكون من قوة؟ إنها لن تصد غضبة المسلم إذا كانت لله ولمحارمه ولدينه! هل فيها أشد من الموت؟ فهل يخيف الموت رجلاً خرج يطلب الموت؟!
إن سر قوة هذا الشعب، إنما هي عقيدة القضاء والقدر على الوجه الإسلامي الصحيح، ولكن القادة قلما يدركون هذا السر وقلما يعمدون إلى الاستفادة منه، لأنهم نشأوا يوم كان الشرق ينظر إلى أوربة نظر التائه في البحر إلى المنار الهادي، ويأخذون كل ما يأتيهم منها على أنه الحق الصراح، فكان فيما أخذوه وقلدوا فيه بلا فهم، مبدأ (فصل الدين عن السياسة)، ورأوه استقام في النصرانية، فحسبوه يستقيم في الإسلام، وما درسوا الإسلام على حقيقته، حتى يعلموا أنه دين وسياسة وسأخلاق، وأن سورة (براءة) سياسة، أفنفصل سورة (براءة) عن القرآن؟!
وأمر آخر، هو أن هذا الشعب تلقى عشرة آلاف دعوة إلى البذل في سبيل الله، فلبها كلها، ولكن الدعاة لم يكونوا يلبون أنفسهم في كل حين، وكان فيهم من يلقي كلمته لا يتصور منها إلا ألفاظها ووقعها في الآذان، فهي من لسانه إلى أسماع الناس، لا من قلبه إلى قلوبهم، فهو من أجل ذلك يدع الشعب وحده ويمضي إلى داره ليتحدث عن براعته في الإلقاء، وقدرته على الخطابة، وفيهم من يريد أن يسوق الناس ويقعد، وهذا الشعب لا يطيع إلا من يمشي أمامه، ويشاركه سرّاءه وضراءه، أما المترفون الذين يريدون أن يناموا على عواتق الشعب، ويغتنوا من مال الشعب، فإن هذا الشعب ينكرهم ويبرأ منهم فعلى الزعماء أن يفهموا ذلك حق الفهم، وأن يكون لهم في رسول الله أسوة حسنة، فقد كان صلوات الله وسلامه عليه، يجوع كما يجوع قومه، ويتعب كما يتعبون، ويعمل بيده مثلما يعملون، بنى معهم مسجد المدينة، وحفر معهم الخندق، وكان يسرع إلى الخطر بنفسه. وقع الصريخ مرة في المدينة، فخرج الناس عجلين، فإذا هم برسول الله، قد وصل إلى مكان الخطر على فرس عريان، لم ينتظر حتى يسرج له، ورجع يطمئنهم بأنه لا شيء هناك. ولقد ثبت يوم أحد ويوم هوازن لما انهزم الناس، وكان يقول معرفاً بنفسه: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب. لم يسق الناس إلى الموت ويقم في قصره، ولم يختص نفسه بمأكل ولا ملبس ولا مركب، ولم يربط لنفسه وظيفة من بيت المال، ولم يحمل أسرته وأهله على الناس، ولم يول عاجزاً ولاية لصداقة أو قرابة، ولم يبعد عنها قادراً لبغض أو عداوة، ولم يتخذ قصراً، ولم يقم حاجباً. وكذلك كان خليفته وصاحبه أبو بكر، وكذلك كان أمير المؤمنين عمر، ومن أجل ذلك أجمع الناس على طاعة أبي بكر وعمر، فلم يختلف عليهما اثنان!
أما إن الشعب أقوى الشعوب روحاً، وأطيبها عنصراً، وأصفاها جوهراً، ولكنه ينقصه الزعماء، فهاتوا واحداً مثل عمر ليقوده، وانظروا كيف يأتي بالمعجزات!
(دمشق)
علي الطنطاوي