انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 659/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 659/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 02 - 1946



في الريف. . .

للكاتب الفرنسي جي دي موباسان

بقلم الأستاذ محمد عبد اللطيف حسن

هناك في منحدر التل الواقع بقرب مجرى النهر، وفي كوخين حقيرين متجاورين، كان يقطن فلاحان يشتغلان بكد وعناء ليخرجا من الأرض المجدبة ما يقوم بأودهما وأود عيلتيهما الفقيرتين. . .

وكان يقيم في كل كوخ منهما أربعة أولاد تتراوح أعارهما بين الست سنوات والخمسة عشر سنة، وكثيراً ما كان هؤلاء الأولاد الثمانية يتجمعون بمقربة من الكوخين ويظلون في لهو دائم ومرح مستمر من الصباح إلى الغروب.

وكان كلا الفلاحين متزوجان، وكلاهما ينجب الأولاد بنسبة واحدة وفي وقت واحد تقريباً! وكانت كل أم من الأسرتين تميز أولادها بصعوبة من بين أولاد الأم الأخرى، ولا سيما حينما كانوا يلعبون جميعاً أمامهما!

وكان الأبوان يخلطان في كثير من الأحيان بين أولادهما وبين أولاد الأب الآخر! وكم كان فكها إذا أراد أحدهما أن يدعوا ولداً من أولاده أن يردد على الأقل اسم ولدين أو ثلاثة قبل أن تنطق شفتاه باسم الولد الذي يريده!

وكانت عيلة توفاسن تسكن في الكوخ الأول ولها ثلاثة أولاد وبنت، في حين أن عيلة فالنس التي كانت تقطن في الكوخ الآخر لها ثلاثة بنات وولد.

ففي ظهر يوم من أيام شهر أغسطس الحارة، وقفت مركبة صغيرة أنيقة أمام هذين الكوخين، وقالت السيدة الصغيرة التي كانت تقود المركبة لزوجها الشاب الجالس بجوارها حينما وقع بصرها على الأولاد الثمانية الذين كانوا يلعبون وقتئذ أمام الكوخين:

- أنظر يا هنري إلى هؤلاء الأطفال السعداء.

ثم أشارت بيدها إلى طفل منهم كان يتمرغ مع آخر على الأرض وقالت:

- ما أظرف هذا وهو يتقلب على الأرض بفرح وسرور ويمرغ نفسه في التراب مع زميله الآخر!!

فلم يجب زوجها على ملاحظتها بشيء على حين استطردت السيدة قائلة:

- كم أود أن أقبل هؤلاء الأطفال جميعاً!!

ثم تنهدت تنهدة عميقة حارة صادرة من قلب يائس مكلوم وتابعت حديثها إليه فقالت:

- كم اشتهي يا هنري أن يكون لدينا ولد من هؤلاء الأولاد ولا سيما هذا الولد الواقف هناك بمفرده، وأظنه أصغرهم سناً.

قالت ذلك ثم قفزت من المركبة بخفة ونشاط وهرعت نحو الأطفال وأمسكت بالولد الذي أشارت إليه ورفعته بين ذراعيها وأخذت تقبل خديه القذرين وشعره المجعد المعفر بالتراب، ويديه الصغيرتين اللتين كان يحاول أن يخلص نفسه بهما من بين يديها اللتين كانتا تمسكان به بحنان بالغ ورفق عظيم، ثم تركته وعادت إلى المركبة منصرفة إلى حال سبيلها.

وفي الأسبوع التالي عادت هذه السيدة مرة أخرى وجلست تشاطر الأطفال ألعابهم كما لو كانت واحدة منهم! وقد أحضرت لهم معها في المركبة في هذه المرة كمية كبيرة من الكعك والفطائر والحلوى، وأخذت تقدمها إليهم وتوزعها عليهم بنفسها، بينما كان زوجها، واسمه هنري دوبرييه، ينتظرها في المركبة على مضض، وينظر إلى ما يجري حوله بشيء من الدهشة والغرابة.

وصارت تلك السيدة الرحيمة الطيبة القلب تتردد على الكوخين من وقت لأخر، وكانت تحشو حقيبتها وجيوبها في كل مرة بالحلوى التي كان يتقبلها الأطفال منها بكل لذة وسرور.

وبمرور الأيام تعرفت مدام دوبرييه إلى كل من العائلتين المتجاورتين، وعرضت عليهما صداقتها التي كانت لها أحسن وقع وأجمل أثر في نفوسهما الحزينة البائسة.

وفي صباح يوم نزل المسيو هنري دوبرييه من المركبة واصطحب زوجته معه ثم دخلا كوخ ال توفاسن دون أن يخاطبا في هذه المرة أحداً من الأطفال الذين كانوا قد تعلقوا بهما وأحبوهما حباً جماً.

وكان توفاسن وزوجته موجودين في الكوخ في ذلك الوقت فدهشا لدخول مدام دوبرييه وزوجها الفجائي، وقدما أليهما مقعدين نظيفين، وانتظرا بفارغ صبر ما ستقوله لهما هذه السيدة التي بدأت حديثها وقتئذ بصوت خافت ولهجة مترددة:

- لقد أتينا لزيارتكما اليوم، لأننا نريد أن نتبنى ولدكما الأصغر شارلوت. فذهل توفاسن وزوجته لقولها وعقدت الدهشة لسانيهما فلم ينبسا ببنت شفة. ولكن مدام دوبرييه لم تكترث لدهشتهما البالغة وتابعت حديثها فقالت:

- ليس لدينا أطفال ولهذا نود أن نتبنى ابنكما، فهل تقبلان ذلك؟

وهنا بدأت مدام توفاسن تفهم ما تعنيه مدام دوبرييه بهذا الكلام فقالت لها بلهجة لا تخلو من الاستنكار:

- هل معنى ذلك أنكما تريدان أن تأخذا ولدنا شارلوت منا؟

فتدخل المسيو هنري دوبرييه عند ذلك في الحديث وقال:

- إن زوجتي لم تبين لكما غرضنا تماماً، فكل ما في الأمر أننا نرغب في أن نتبنى طفلكما الصغير، وليس معنا ذلك أننا سنحول بينه وبين زيارتكما، بل أننا سنترك له مطلق الحرية في التردد عليكما في أي وقت، وإذا سلك معنا مسلك حسناً - وهو ما ننتظره منه في المستقبل - فسنجعله وريثناً الوحيد، وحتى إذا أنجبنا أطفالاً في المستقبل فسنشركه مع أبنائنا في الميراث. وإذا لم تثمر فيه تربيتنا وتعليمنا، فأننا لن ندعه وشأنه كما يفعل بعض الناس، بل سنعطيه حينما يبلغ أشده عشرين ألفاً من الفرنكات وسنودع هذه المبالغ باسمه في أحد المصارف الكبيرة على أن يسحبه إذا بلغ سن الرشد ضماناً لحسن تصرفه فيه، وزيادة على ما تقدم فإننا سنمدكما بمنحه شهريه قدرها مائة من الفرنكات مدى الحياة.

ولكن أبت عقيلة مدام توفاسن البسيطة الساذجة إلا أن تفهم هذا القول على غير حقيقته، وتؤوله تأويلا آخر، واستبد بها الحنق والغضب عندئذ فقالت:

- أتريدان منا أن نبيعكما ولدنا شارلوت في نظير جاهكما العريض، وثروتكما الطائلة؟ هذا محال. . . محال!!

وكان يبدوا على محيا توفاسن - زوجها - علامات التردد والتفكير العميق دون أن ينبس طول هذه المدة ببنت شفة، ولكن كان يلوح عليه أنه موافق على اعتراض زوجته بدليل أنة كان يهز رأسه من وقت إلى آخر موافقة منه وتأييداً لقولها!!

وبدأ اليأس يتطرق حينئذ إلى نفس مدام دوبرييه فحولت وجهها شطر زوجها وقالت له بصوت مكتئب حزين:

- هنري! إنهما يمانعان في أن نأخذ ولدهما شارلوت معنا!

وحاول المسيو هنري دوبرييه أن يقنع الزوجين العنيدين لآخر مرة فقال: فكرا جيداً في مستقبل ولدكما وهنائه قبل أن ترفضا هذا الطلب نهائياً. . .

فهزت مدام توفاسن كتفيها بسخرية واستخفاف وقاطعته بقولها: لقد فكرنا يا سيدي في كل هذا من قبل، والآن أرجو منكما أن تكفا عن الكلام في هذا الموضوع ولا تحاولا إثارته مرة أخرى. وبينما المسيو هنري دوبرييه وزوجته يهمان بالخروج إذ فتح باب الكوخ في تلك اللحظة ودخل منه ولد صغير يشبه شارلوت إلى حد كبير حتى أن من يراهما لأول وهلة يظن أنهما توأمان! فلما وقع بصر مدام دوبرييه عليه سألت زوجة توفاسن قائلة: هل هذا الولد الصغير ابنكما أيضا؟؟ فأجاب توفاسن باقتضاب وهو يحك بيده لحيته البيضاء الكثيفة الشعر: كلا أنه جان فالنس، ابن جارنا الآخر الذي يقطن في الكوخ المجاور، ويمكنكما أن تحاولا أخذه منه إذا استطعتما ذلك!!

فرد عليه المسيو هنري دوبرييه بحزم وإصرار وقال: سنحاول ذلك بكل تأكيد! فأبتسم توفاسن ابتسامة عريضة ما كرة وقال له وهو يهم بالوقوف لتوديعه: إذن أرجو لكما النجاح والتوفيق في مهمتكما!! ولما دخلت مدام دوبرييه وزوجها الكوخ المجاور، وعرضا على فالنس وزوجته اقتراحهما السابق، رفض الزوجان هذا الاقتراح في بادئ الأمر، ولكن مدام دوبرييه وزوجها مازالا بهما حتى أقنعاهما بوجاهة فكرتهما، وصواب رأيهما، ولا سيما حينما ذكرا لهما المبلغ الذي سيمنحانه في كل شهر!! وبعد فترة قصيرة وجهت مدام فالنس حديثها لزوجها فقالت ما رأيك في هذا العرض السخي يا زوجي العزيز؟ فأجابها زوجها وهو يفتل بيده الخشنة شاربيه الكثيفين: إنني لا أمانع في ذلك يا عزيزتي، وليس عندي أي اعتراض مطلقاً. وتكلمت مدام دوبرييه حينئذ عن مستقبل الطفل، وسعادته، وعن النقود الكثيرة التي سوف يمد بها عائلته في المستقبل. فلما أتمت كلامها سألها فالنس وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة الرضا والارتياح، وشاعت الغبطة والسرور في قسمات وجهه الكثير التجاعيد: وهل سنأخذ المائة فرنك على يد أحد المحامين؟ فأجابه المسيو هنري دوبرييه وهو يهز رأسه موافقاً: بلا شك. . . بلا شك!! وأرادت مدام فالنس أن تنتهز الفرصة فتزيد هذا المبلغ قليلا فقالت لمدام دوبرييه وهي تنظر من طرف خفي إلى زوجها نظرة ماكرة ذات معنى:

- أظن أن المائة فرنك ليست بالمبلغ الكافي في نظير انتزاع ولدنا منا لأنه سيصبح بعد بضع سنوات قادراً على العمل والكسب، ولذا يستحسن أن يكون هذا المبلغ مائة وعشرين فرنكا في الشهر!! فوافقت مدام دوبرييه على ذلك بعد قليل من التردد دون أن يخفى عليها جشع مدام فالنس وشدة طمعها!!

ولكي تثبت للزوجين الفقيرين مدى غناها وجودها، فقد أخرجت من حقيبة يدها مائة وعشرين فرنكا وأعطتها لمدام فالنس التي تناولتها منها بمزيد من الغبطة والسرور، في حين جلس زوجها هنري يكتب شروط الاتفاق بتؤدة وإمعان، فلما انتهى منه استدعى عمدة القرية وأحد الشهود فوقعا معه على العقد الذي أصبح قانونياً من كل الوجوه. . .

وخرجت مدام دوبرييه من الكوخ فرحة مسرورة لنجاح مسعاها، وتوفيقها في مهمتها، في حين كان الطفل الذي حملته بين ذراعيها يبكي بحرقة وحرارة لفراق والديه وتخليهما عنه، ويحاول أن يخلص نفسه من بين ذراعيها ولكن بلا فائدة. . .

وشاهد توماس وزوجته رحيل الطفل جان بوجهين كالحين. والظاهر أنهما قد لاما نفسيهما على رفضهما التنازل عن ولدهما شارلوت، وندما - بعد فوات الوقت - على ضياع هذا الكنز الثمين منهما!!

ولم يسمع أحد من أهل القرية شيئاً عن جان فالنس لمدة طويلة من الزمن. وكان أبواه يذهبان في أول كل شهر إلى مكتب المحامي فيتسلمان منه المائة والعشرين فرنكا ثم يعودان إلى كوخهما آمنين مطمئنين. . .

وساءت العلاقات حينئذ بين عائلة فالنس وبين عائلة توفاسن التي كانت تعيرها وتحط من شأنها أمام أفراد القرية لأنها فرطت في ولدها جان وباعته لمدام دوبرييه وزوجها بيع السلع! وكانت مدام توفاسن تمسك بولدها شارلوت من وقت لآخر وترفعه بين ذراعيها ثم تخاطبه بقولها:

- إنني لم أبعك ولن أبيعك يا ولدي العزيز بالرغم من أنني لست غنية كما تعلم ويعلم جميع الناس. . .

وكانت لا تفتأ تردد هذه العبارات التهكمية وأمثالها في كل يوم بلهجة ساخرة وبصوت عال مسموع كان يصل في كثير من الأحيان إلى مسامع فالنس وزوجته! وبلغ الغرور بمدام توفاسن إلى حد إنها كانت تزعم نفسها أعظم شأناً من أهل قريتها جميعاً، وأرفع منزلة منهم وأعلاهم مقاماً، لا لشيء إلا لأنها لم تبع ولدها شارلوت! ولم يغب هذا الغرور عن أهل القرية أنفسهم ولم يفتهم أن يلاحظوا عليها ما كانت تدعيه من العظمة المصطنعة والخيلاء الكاذب، ولكنهم كانوا مع ذلك لا يفتئون يرددون أمامها أنها سلكت مسلك الأمهات الطيبات القلب!! ولما بلغ شارلوت الثامنة عشرة من عمره كان يتباهى على أقرانه، ويعتقد - كوالديه - أنه أعلى منهم مرتبة وأسمى مكانه لأن أمه المحبة لم تبعه كما باعت مدام فالنس ولدها جان!! وبينما كانت عائلة فالنس ترتع في بحبوحة العز والرفاهة، كانت عائلة توفاسن لا تزال على ما هي عليه من الفقر المدقع والفاقة البالغة! وكان يسار أسرة فالنس وغناها هما السر في هذا البغض، والباعث على تلك الكراهية التي كانت تبديها عائلة توفاسن نحوها في كل وقت وفي أي مناسبة!! وبعد مضي مدة انخرط الابن الأكبر لمدام توفاسن في سلك الجندية، بينما توفى ولدها الآخر إثر مرض خطير ألم به ولم يمهله إلا بضعة أيام. أما شارلوت فقد ظل في القرية ليساعد والده الذي كان قد بلغ من الكبر عتياً، وليعين أمه العجوز وأخته الوحيدة على العيش ومكافحة صعاب الحياة. وكان شارلوت قد بلغ الحادية والعشرين من عمره حين وقفت في صباح يوم مركبة صغيرة جميلة أمام الكوخ المجاور، ونزل منها شاب قوي وسيم الطلعة، أنيق الثياب،. ثم دخل الكوخ بقدمين ثابتتين، وخطوات متزنة واسعة. . . وكانت مدام فالنس تغسل ثيابها في ذلك الوقت، بينما كان زوجها الذي بلغ من العمر أرذله يستدفئ بنيران المدفئة. وقبل أن يفيق الولدان من دهشتهما تقدم الشاب - ولم يكن إلا ابنهما جان فالنس نفسه - نحوهما وقال لهما وهو يمد كلتا يديه لمصافحتهما: أسعدتما صباحا يا والديّ العزيزين. . .

فهب الأب من مكانه دهشاً مذهولاً، وعقدت المفاجأة السارة لسانه عن النطق، بينما ألقت الأم بقطعة الصابون في الوعاء الذي كانت تغسل فيه ثيابها لفرط اضطرابها ودهشتها وهرعت نحو ابنها الذي لم يكن قد زارها منذ أن اصطحبته مدام دوبرييه معها، وقالت له بصوت مضطرب مرتعش النبرات وهي تتأمله بزهو وإعجاب من قمة رأسه إلى أخمص قدميه: هل أنت حقاً ولدنا جان؟؟ فضمها الشاب إلى صدره بحنان ورفق وقال لها وهو يضحك ملء شدقيه: نعم إنني ولدكما جان! وقد جئت اليوم لزيارتكما بعد أن أصبحت أحد المحامين الذين يشار إليهم بالبنان وسأمكث في ضيافتكما بضعة أيام. فقال له الأب بصوت يرتجف من فرط الانفعال وشدة الفرح والسرور: على الرحب والسعة يا بني العزيز. وبعد أن استرد أنفاسه اللاهثة استطرد في حديثه فقال: كم أنا سعيد بلقائك يا والدي، ولا سيما بعد أن أصبحت رجلا كامل الرجولة. . . ولما أفاق الأب والأم من دهشتهما صمما على أن يقدما ولدهما جان إلى أهل القرية جميعاً. فعرفاه أولاً بعمدتهما وقسيسها وناظر مدرستها. ثم عرفاه أخيراً بباقي أفراد أهل القرية الذين استقبلوه بحفاوة بالغة وسرور عظيم. وشاهد توفاسن كل هذا بعين دامعة تفيض بالألم والهم والعذاب، ونفس حزينة تملاها الحسرة والندم على ما فات! وقد تغيرت نظرته إلى الحياة بعد ما رأى جان فالنس في ملبسه الأنيق وثيابه الغالية وشبابه الحيوي الفياض، بينما هو لا يزال في فقره المدقع وأسماله الرثة البالية،

وفي المساء حينما اجتمع شارلوت بوالديه حول المائدة، قال لهما بصوت باك حزين تخنقه العبرات: أظنكما رأيتما جان فالنس في هذا الصباح وشاهدتما ما هو عليه الآن من وسامة الشكل وفخامة الثياب؟ فأجابته أمه باكتئاب دون أن يفوتها تغير ابنها الفجائي غير المنتظر: نعم يا بني! لقد شاهدنا كل ذلك! ولكننا لم نشأ أن نبيعك إلى مدام دوبرييه وزوجها كما فعلت مدام فالنس وزوجها بابنهما جان! لأننا رأينا أن في ذلك عاراً عليك وإثماً في حقك كما هو عار علينا وإثم في حقنا أيضاً. . . ولم يفه والده أثناء ذلك بكلمة واحدة، بينما استمر الابن في حديثه الساخط المؤلم فقال:

- إنها لغباوة منكما حقاً أن تدعا جان فالنس يذهب مع مدام دوبرييه وزوجها بدلا مني! وإنه لمن سوء حظي أيضاً أنكما لم تضحيا بي بسبب حنانكما وغروركما وأنانيتكما. . . وهنا تدخل الأب في الحديث فقال موجهاً كلامه لأبنه: هل تلومنا الآن يا ولدي لأننا لم نشأ أن نفرط فيك كما فرطت مدام فالنس وزوجها في ولدهما جان؟ ولكن شارلوت لم يأبه لدفاع والديه بل هز كتفيه ساخراً واستمر في ثورته فقال: نعم إنني ألومكما لأنكما فوتما علي هذه الفرصة التي قلّ أن يجود الدهر بمثلها. وإن الآباء والأمهات أمثالكما كثيراً ما يجنون على أولادهم بجهلهم، ويحطمون مستقبلهم بمثل هذا الحنان الضار، والحب المرذول، والأنانية الممقوتة. فقالت له أمه وقد حز في نفسها حديث ولدها المؤلم وثورته الصاخبة: هل هذا جزاء حبنا لك واحتفاظنا بك؟ فأجاب شارلوت وهو يكاد يبكي من شدة الحنق والغيظ وقد اعتمد ذقنه براحة يده: كم أتمنى الآن لو لم اكن قد ولدت حتى لا أظل في هذه الحالة المؤلمة التي أنا عليها الآن. وبعد لحظة سكوت قصيرة تابع حديثه إليهما فقال بلهجة أشد وأعنف من الأولى: إنني عندما رأيت جان فالنس في صباح هذا اليوم وهو ينزل من مركبته الأنيقة الفاخرة جرت دماء الحقد والغضب حارة في عروقي وقلت مخاطبا نفسي: (لو قبلت عائلتي ما عرضته عليها مدام دوبرييه وزوجها من قبل، لكنت الآن في مركزه وظل هو في مركزي). قال ذلك ثم نهض من مقعده فجأة وقال لهما وشرر الغضب يتطاير من عينيه الدامعتين، والحنق الكامن في أعماق نفسه الثائرة يلوح على أسارير وجهه الحزين المكتئب: إنني لن اغتفر لكما هذه الغلطة ما حييت، وقد استقر رأيي الآن على مغادرة هذه القرية إلى الأبد، والنزوح إلى قرية بعيدة نائية لا يعرفني فيها أحد ولا أعرف بها أحداً، لأكسب فيها عيشي بعيداً عنكما وعن أهل هذه القرية جميعاً. قال ذلك ثم فتح باب الكوخ بسرعة وهرع إلى الخارج بعد أن صفق الباب وراءه بشدة وعنف حتى لا يتمكن والداه من اللحاق به وإثنائه عن عزمه، ثم سار في الطريق مسرعاً على غير هدى واختفى في ظلام الليل الحالك السواد.

محمد عبد اللطيف حسن