مجلة الرسالة/العدد 658/دمشق. . .
مجلة الرسالة/العدد 658/دمشق. . .
للأستاذ علي الطنطاوي
(كتب إلى صديق كبير وأستاذ جليل ممن عرفت في مصر أن أصف له مدخل دمشق، وأن أعرفه بمتنزهاتها وآثارها، وإن ذلك لمطلب على مثلي عسير، وحمل علي قلمي ثقيل، وإني أحاوله اليوم محاولة ريثما ينهض به من هو أضخم مني في زحمة الأدب منسكباً، وأحد فكرا، وأمضى قلما. . .).
هذي دمشق يا أيها الأخ السائح، قد لاحت لك أرباضها، ودنت رياضها، أفما تراها وأنت قادم عليها من نحو فلسطين، مع الصباح الأغر كيف نامت من غوطتها على فراش من السندس صنعته يد الله، وقد توسدت ركبتي حبيبها البطل الشامخ بأنفه الصخري: قاسيون، فكان رأسها في الصالحية، وقدمها في (القدم) وقلبها في (الأموي) بيت الله الأطهر، فانظر أما تراه أول ما يبدو من دمشق للقادم عليها، يطل على بقيته التي ليس لها في الدنيا نظير: قبة النسر التي راعت بجلالها الأولين والآخرين وما رأى الرائي أضخم منها ولا أعلى، ومآذنه الثلاث معجزات الصنعة في تاريخ العمران الإسلامي، يسبغ على المدينة جلال القرون الأربعين التي رآها وعاشها، مذ كان معبداً وثنياً، إلى أن صار منسكاً مسيحياً، إلى أن استقر مسجداً إسلامياً، يخرج من مناراته خمس مرات كل يوم النداء الأقدس: (الله أكبر لا إله إلا الله) فيردده إخوان مسلمون في الشرق، وإخوان في الغرب حتى يفيض طهره على الأرض كلها. ألا تراه يعلو كل عمارة في المدينة على ما فيها من عمارات شاهقة، حتى كأن أعلاها إلى جانبه الطفل بجنب الرجل الضخم الطوال؟ فإن كان برج (إفِّل) علم بارز وذلك التمثال علم نيويورك. فعلم دمشق بيت الله العلي ذي الجلال.
لقد دنونا، وهذا المطار إلى يمينك، وهذه القرية من ورائه (داريا)، والغوطة الغناء، جنة الأرض، ما رآها أحد إلا أحس بأنه يرى مدينة مسحورة من مدن (ألف ليلة. . .)، وقد ترامت له من غمرة حلم ممتع. . . لقد اقتربنا منها. . . هذه (المزة) ضاحية دمشق، أصح المنازل، وأبعدها عن العلل، مساكن العرب الغر من سالف الدهر، لقد جاوزنا سهلها المشرق، وجبلها المشرف، وساحتها الفيحاء، وعماراتها البارعات، وولجنا حمى الغوطة. هذه بساتينها التي تتصل حافلة بالثمار، مليئة بكل ما يفتن ويفيد، مسيرة تسع ساعات على الماشي وما ينفك يمشي في ظلال شجرة مثمرة، أو نبتة مزهرة، ولو اجتمع على مائدة واحدة ما تخرج من الثمار من أنواع المشمش والعنب والتفاح والكمثرى والخوخ. . . لاجتمع أكثر من ثلاثمائة صحن ما صحن منها مثل ما في الآخر، وحسبك أن في الشام من العنب أكثر من خمسين نوعاً. . . ومن التفاح فوق الثلاثين. . .
هذه هي الغوطة، أفما ترى نساءها يلحن من بعيد وهن ساريات خلال الأشجار، أو منثورات وسط الحقول، بثيابهن التي لا يحببنها، على سترها وشمولها، إلا زاهية تضحك فيها الألوان، فتحسبهن الزهر، وتظن الربيع قد جاء في كانون والأرض مفروشة يبسط نسجت بخيوط الذهب، من صفرة الأوراق التي بعثرها وتركها الخريف، فكانت كنثار الدنانير، على بساط من السندس في عرس أمير، والبقر الفاقع الصفرة الصافي اللون، تماثيل في متحف الطبيعة صبت من خالص المسجد، والشتاء إذ حلت فحلمت فيه الأشجار ثيابها، على حين يتدثر الناس بالصوف، فكأنما هي الغيد الفواتن تمرين على الشط، ليضنين الشباب لوعة وشوقا:
وما ينتحين الشط يبنين برده ... ولكن ليقتلن البريء (المغفلا. . .)
فهذا الحور لم يبق منه إلا عيدان، فكأن الحور فتية أذاب جسومهم الحب، فأضحوا من جَواه جلداً على عظم، والمشمش كملاح هجرهن الأحبة، بعد ما قطفت زهراتهن، فأبن بلوعة ليست تنفع وحسرة، ورحن إلى خزي لا يريم وإلى ألم؛ والجوز العاري على جلاله، ملك عزل واستلب منه تاجه، ولكنه كان عظيماً في نعمته. أما الزيتون، وما أعظم الزيتون، فلا يرى إلا لابساً ثيابه التي لا ينضبها ولا تبلى عليه، ثابتاً على حاله، لا يحس بالغير، ولا تستخفه الأحداث، فلا يضحك بالزهر إن أقبل الربيع، ولا يبكي إذا جاء الشتاء، فهو الفيلسوف الساخر بالحياة، أفراحها وأتراحها، الذي لا يبالي نعمها ولا نقمها، والسواقي وهن جوار من الشرق إلى الغرب إلى الشرق، ومن كل جهة إلى أختها: ساقية تجري عميقة - بين الأعشاب، لا يوصل إليها، ولا ينال ماؤها، وأخرى ظاهرة مكشوفة، وواحدة تنحدر تحدراً ولها صخب وهدير - وثانية تسير صامتة في أصول الأشجار وصافية نقية - وعكرة خبيثة - وسالكة طريقها قانعة بمجراها، وكاسرة حدودها عادية على غيرها. . . . . . فكأن سواقي الغوطة صورة لنا في حياتنا نحن الناس، كل يعمل على شاكلته، وكل ميسر لما خلق له، مول وجهته ساع إلى غايته، والوجهات متعارضات والغايات مختلفات، ولكن كل ساقية تعرف طريقها، والناس يهبطون إلى حضيض الشهوات والمعاصي على أهون سبيل ولكنهم يلقون في التسامي إلى معالي الأمور عنتنا وأينا. وكذلك السواقي تتحدر بلا سوق ولا تعب، ولكنها لا تعلو إلا أن تضخها بمضخات وترفعها بآلات، وهذا عميق النفس لا تدرك قراراته ولا تعرف حقيقته، وهذا واضح بين ظاهره كباطنه - وهذا جياش صخاب، وهذا صامت سكوت، ونقي الطوية وخبيث الداخل، ومنصف وظالم، وكبير وصغير، وكل يستمد من غيره، ويمد سواه، وكذلك سواقي في الغوطة. . .
هذه هي الغوطة إن يفتنك جمالها وبهاؤها، فقد فتنت من قبلك ملوكاً وقواداً وأدباء وعلماء، وأنطقت بالشعر ناساً ما كانوا من قبل شعراء، وأشاعت في الناس فرحة لا تنقضي، وما فقدت على الأيام فتنتها ولا شاخت على طول المدى، بل ازدادت شباباً وفتوناً وحسناً. . . هذه هي الغوطة رأيت جانباً منها في الشتاء؛ ولو رايتها وهي مياسة في حلل الزهر تختال في أفراح الربيع، عرس الدهر، تملأ الدنيا بالعطر والسحر، وتقرأ على القلوب أبلغ الشعر، لرأيت عجباً، ما يبلغ وصف حقيقته بيان!
لقد تركنا هذا الطريق القديم الذي يمر على ثكنات الجند، ومنازل الجيش، وملنا من هذه الجادة المحدثة إلى الشارع العظيم شارع فاروق الأول لندخل دمشق من أفخم مداخلها. هذا هو بردى أيها الأخ! وهذا؟. . . أترى هذه العظمة وهذا الجلال؟ أتسأل ما هذا الوادي، وما هذه الأنهار تجري في سرة الجبل وعلى السفح، سبعة بعضها فوق بعض، كعقود اللؤلؤ في عنق كأنه العاج، والشلالات تهبط من أعاليها إلى أسافلها؟ هذا يا سيدي معبد الجمال، هذا دير الحب، هذا منسك القلوب، هذه الربوة. . . لا يا أيها الأخ، إن من الإلحاد في شرعة الجمال أن نصف الربوة ونحن نمر بها مرور الكرام باللغو، إن لها حديثها وستسمعه إن شاء الله. ولقد قلت عنها كلاماً كثيراً، ولكن مكان القول ذو سعة، وسأقول عنها إن أنا وفقت كلاماً اكثر، على أنه لا يغنى فيها كلام عن شهود، ولا يجزئ بيان من عيان. . .
وصلنا أيها الأخ؛ هذا ميدان دمشق (المرجة) وهذا النصب الفخم في وسطه المتوج بتمثال مسجد السراي في (اسطامبول)، هو نصب التذكار بمد الأسلاك البرقية إلى دمشق وهذا القصر الصخري الهائل، سراي أحمد عزت باشا، وهذه دار البلدية، وهذا البناء الرفيع الذري، نُزُل أمية، وهذه الشوارع الثمانية المفضية إلى الميدان، بسيارتها وتراماتها، وطرق أحياء دمشق. . . أتعجب من هذه الحانات وهذه الملهيات. ومن كثرة السينمات؟ هذه يا صاحبي (دمشق الجديدة. . .)، لا تلقي فيها ما لا تلقي مثله في أي مدينة كبيرة: خير وشر، وعلم وجهل، وتقى وفجور، وحجاب وسفور، حياة كالبحر فيه اللؤلؤ وفيه الحصى، وفيه الحياة وفيها الموت. هذي دمشق التي مزقت ثوبها لتلبس ثوباً أوربياً، فلم تجده على مقياسها فبقيت عريانة إلا من خرق وأسمال، هذه هي القبرة التي أراد لها حمقها أن تقلد الغراب فنسبت على جمالها مشيتها، ولم تتعلم على قبحها خطوة الغراب. أنزل في نزل أمية، أو في فندق الشرق (أوريان بالاس) الضخم، القائم هناك، بحيث يشرف على بردى وواديه، والشرف الأعلى ومغانيه، وقاسيون وقصور المهاجرين. . . تحس أنك في (شبر د) القاهرة، أو (الكونتتنتال) - أعني أنك في أوربة؛ فالأثاث والرياش، والطعام والشراب، والزي واللباس، والسماع والغناء، واللغة واللسان، كل ذلك أوربي أوربي أوربي!
ولو أنك عرفت هذه (المرجة) في عصورها الخوالي؛ وهذان الشرفان الأعلى والأدنى، وما كان فيهما من مدارس ومساجد وزوايا وتكايا، وما قام الآن مقامها، وأخذ مكانها. . . ولكني لن أسوق لك المزعجات وأنت قادم على البلد، فأقرأ إن شئت ابن عساكر، والمحاسن للبدري، ورحلة ابن بطوطة، وما أظنك إلا قد قرأتها كلها!
هذه دمشق الجديدة. . . أما دمشق العربية المسلمة، بلدك وبلد خلائف الأرض، من أبناء عبد شمس، من إذا قالوا لبت الدنيا، وإن مالوا مالت الأرض، وإن حكموا أطاع الزمان، من كانت دولتهم (تفصل. . .) تسع عشرة من دول هذه الأيام، من كانت راياتهم تحقق على بطاح فرنسا وسهول الهند، وما بينهما وكانت قصورهم تتيه على النجوم، وكانت أبوابهم تقف عليها الملوك. أما دمشق معاوية والوليد فليست هنا، أنها مختبئة هناك في دروب ضيقة وحارات حول المسجد الأطهر، هناك المجد والعلم والتقى وبارع الخلال، فامش إليها وادخل دورها، وجالس أهلها، تقرأ تاريخ المجد في صفحات من دور ووجوه وعادات، وتر بقايا الحضارات من لدن نوح قد استقرت فيها، ففي كل بقعة منها تاريخ، وكل حجر منها يتلو من سور الجلال آيات.
فإذا أردت أن تعرفها وتصل إليها، فاخرج من نزل أمية، ومل قليلاً تجد أمامك جامع الأمير (يلبغا) الذي سرقوا نصفه فجعلوه مدرسة للصبيان، وتركوا منارته قائمة في المدرسة، تعلن لكل ذي عينين شكواها وتذيع خبر بلواها، فلا تقف عليه، وخذ إلى يمينك إلى جادة الفنادق، (الجوزة الحدباء)، حتى تبلغ سوق صاروجا الذي كان حي الباشوات الأتراك والمجددين فصار الآن حي التجار المحافظين، فزر في طريقك جامع الورد ثم سر إلى العقيبة، منزل الأمام الأوزعي وادخل جامعها الأنور المبارك الذي لا يخلو من قائم الله بحجة، جامع التوبة ثم اسلك طريق العمارة، وجز بزقاق النقيب، وعرج على منازل علماء الأمس، فقد كانت هذه المنازل مدارس، وكانت جامعات، وكانت منائر هدى للناس، وكانت هي دعائم نهضتنا، ووزر الكلية الشرعية ثم ادخل الجامع الأموي، وامكث فيه وسائله عن الماضي واستنطقه، وطر بروحك في سمائه، واسم بها إلى عليائه، ثم عد إلى أحدثك إن شاء الله حديثه، وإن حديثه لطويل!
ثم جل في القيمرية، ولج تلك الدور، وشاهد تلك القاعات والأبهاء، وهذه الزخارف والنقوش والبرك والنوافير، فمنها سيدي أخذ الأندلسيون هندسة هاتيك القصور، ومر بهذا الزقاق الذي تباع فيه القباقيب، ولا تحقره لضيقه وفقره، ثم انزل إلى تلك الحارة المعتمة القذرة، فاقرع باب مصبغة هناك، فإذا فتحوا لك فاهبط درجها ولا تفزعك رطوبتها وظلمتها، ثم قف خاشعاً متذكراً معتبراً؛ فإن غفي مكان هذه المصبغة التي يسمونها (مصبغة الخضراء) كان قصر الخلفاء من بني أمية. . .
فإذا خرجت منها فاسأل عن زاوية هناك، فإن فيها قبر معاوية الصغير (ابن يزيد)، ثم اذهب إلى السيمساطية تلك المدرسة المحدثة البناء، العامرة، فقف عليها فقد كانت منزل خامس لخلفاء الراشدين، عمر بن عبد العزيز، ثم أم المعاهد في جوارهما: الجقمقية ومدرسة بطل الدنيا صلاح الدين، فقم على قبره ساعة، وترحم عليه واحمد الله، على أن خّزى ذلك الطاغية (غورو) وذل والظاهرية دار الكتب، والعادلية مثوى المجمع العلمي العربي ثم اسلك على باب البريد، ومر بخرائب (المرادية) التي كانت إلى العهد القريب مدرسة عامرة، حتى تزور العادلية ودار الحديث الأشرفية، التي كان فيها البدر الحسنى بقية السلف وزر المارستان النورى، الذي كان مستشفى كأكبر ما يكون مستشفى في هذه الأيام وكان مدرسة للطب، ثم أم قبر الملك العظيم صاحب هذه المآثر ونور الدين القائد الظافر والملك العادل والحاكم الكامل، ثم ادخل القلعة، وشاهد السور والأبواب. . .
هذه دمشق يا سيدي، أفيوفي حديث دمشق في مقالة؟ فأمهلني أعد إليك محدثاً. . . وأطل الحديث.
هذي دمشق أقدم مدن الأرض وأجملها، هواؤها أطيب هواء، وماؤها أعذب ماء، وطعامها أمرأ طعام، ومنظرها أبهى منظر، ومخبرها أحسن مخبر، ولسانها أفصح لسان، وسكانها من أكرم السكان، فيها العلم والأدب، والتقى والصلاح، والحب فيها واللهو، وفيها الفتون والجمال.
هذي دمشق كانت لب العربية، وبقيت لب العربية، وستطلع على العصور القوادم وهي للعربية لب وقلب وفؤاد، لها بين الماء الذي لا يضحك به بردى وشدة الصخر الذي يشمخ به قاسيون، وصراحة السهل الذي تزدهي به المزة، وكرم الأرض التي تعطى (في الغوطة) أكلها أربع مرات في العام.
لها لين بردى، ولكن بردى إذا ضيوق بالسدود، علا وفاض واجتاح البلاد والعباد، ودمر كل شيء يقف في طريقه، ويقطعه عن مراده، فقل للغافلين: (لا يغرركم من بردى لينه وابتسامه) فأنه سرعان ما يعبس ويثور). فاتقوا غضب الحليم!
(دمشق)
علي الطنطاوي
القاضي الشرعي
ومدرس الأدب بالكلية الشرعية (العليا)