انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 658/الزندقة في عهد المهدي العباسي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 658/الزندقة في عهد المهدي العباسي

مجلة الرسالة - العدد 658
الزندقة في عهد المهدي العباسي
ملاحظات: بتاريخ: 11 - 02 - 1946


6 - الزندقة في عهد المهدي العباسي

أصولها الفارسية

للأستاذ محمد خليفة التونسي

ذهبنا في المقال الخامس (الرسالة652) إلى إن الفرس آمنوا بإلهين: أحدهما للنور والآخر للظلمة قبل أن يظهر فيهم زرادشت أول حكيم يعيه التاريخ من حكمائهم الأولين، وبينا أن المعتنقين لهذا المذهب قبل زرادشت هم الذين يسمون (الكيومرتيه) نسبة إلى كيومرت أبي االبشر في رأيهم مما يدل على إيمان الفرس يقدم هذا المذهب فيهم، وقد أوضحنا شيئاً من آراء هذه الفئة وعبادتها في المقال السابق.

لا خلاف في أن الفرقة الأولى من المجوس هي الكيومرتيه. فأي الفرق ظهر في التاريخ بعدها؟

كل الكتب التي بين يدينا والتي تعرضت لهذه الموضوعات من طريق مباشر لا تجيب جواباً صريحاً على هذا السؤال، وتجدها تذكر الكيومرتيه والمجوسية والثنوية والزنادقة والزرادشتية والمانوية والمزدكية ولكنها لا تحدد تمام التحديد مكان هذه الوظائف من حيث ظهورها في التاريخ وإن حدثتنا أنه قد ظهر زرادشت وتلاه ماني ثم مزدك. ثم نسأل ما المراد بكل كلمة من هذه الكلمات، وماذا تمتاز به تعاليم كل طائفة عن مثلها؟ هذا على فرض أن هذه الكلمات ليست مترادفة ولا مشتركة ولا متداخلة. فأن كانت مترادفة أو مشتركة أو متداخلة فكيف تترادف أو تشترك أو تتداخل؟

إن النصوص التي بين أيدينا فيها كثير من الاضطراب والخلاف، فالمجوسية تطلق أحياناً على كل المذاهب الفارسية، وتطلق أخرى على بعضها دون بعض، والزندقة تطلق على جميع الثنوية أحياناً وتطلق أخرى على طائفة من الثنوية، وهكذا، ثم إن الثنوية قد تذكر قبل الزرادشتية، وأحيانا تذكر دون أن يعين موضوعها في التاريخ إزاء الزداشتية وهكذا، ونحن مضطرون في معرفة معنى الزندقة ولا سيما في عهد المهدي العباسي وهي موضوع هذا البحث - مضطرون إلى فهم أصول التعاليم التي ظهر بها الزنادقة على عهده، وأذن فنحن مضطرون إلى فحص هذه المذاهب لبيان ما له أثر منها في هذه الزندقة وما ليس له اثر منها فيها. هذا وإن كثيراً من الكتب التي بين أيدينا تربك عقولنا لأنها تفاجئنا بآراء غير أن تذكر لنا أصولها وتطوراتها حتى وصلت إلى صورتها الأخيرة، ومن شأن هذه المفاجأة أن تربك العقل لسقوط بعض الحلقات في سلسة تطورها، ومن أجل ذلك نستميح القراء و (الرسالة) الصفح لهذا الاستطراد الذي لا مفر لنا منه ولا غنى لنا عنه لفهم الزندقة في عهد المهدي فهماً يسيراً لا تعقيد فيه ولا مفاجأة.

في الفصل الذي عقده القلشقندي للكلام في المجوسية وفرقها يقول: (المجوسية: وهي الملة التي كان عليها الفرس ومن دان بدينهم) ثم يقسمهم ثلاث فرق: الفرقة الأولى الكيومرتية والثانية الثنوية والثالثة الزرادشتية، وفي الزرادشتية يفصل القول في زرادشت وماني ثم يذكر مزدك. فهو يطلق المجوسية على كل المذاهب الفارسية، وترتيبه الفرق على هذا النحو يدل على إنه يذهب إلى إنها قد ظهرت في التاريخ كذلك: الكيومرتية ثم الثنوية ثم الزرادشتية، وكل هذا غير صحيح، وسندلى بحججنا في ذلك إن شاء الله، على إنا لم نجد في ما قرأنا من رتب هذه الفرق من حيث ظهورها في التاريخ فلابد من ترتيبها الترتيب الصحيح.

سبق الكلام في الكيومرتية وإنها الفرقة المجوسية الأولى وأقدم الفرق الفارسية بلا شك، وهي كذلك في رأي القلقشندي فأما الثنوية فلم يقل فيهم إلا ما نصه: (هم على رأي الكيومرتية في تفضيل النور والتحرز من الظلمة، إلا إنهم يقولون: إن الاثنين اللذين هما النور والظلمة قديمان) قد أنكرا عقلاً أن تظهر في التاريخ الثنوية قبل الزرادشتية لأن الزرادشتية لم تقل بقدم النور والظلمة، بل ذهبت مذهب الكيومرتية في سبق النور الظلمة، ومعنى ذلك - كما فهمنا من الكيومرتية والزرادشتية - القول بتضاد الأشياء وتعاقبها وإن النور قد سبق الظلمة في الوجود أما القول بقدم النور والظلمة معاً ففكرة زائدة جديدة، فمن المنكر عقلاً أن تظهر الثنوية القائلة بالقدم قبل الزرادشتية، لأن رأيها أعقد من رأي الزرادشتية، والآراء - ككل ما في الوجود - تبدأ بسيطة ثم تتعقد، ولا عكس، ومن أجل ذلك شككنا ثم أنكرنا رأي القلقشندي في وضع الثنوية قبل الزرادشتية ورجعنا إلى ما بين يدينا من المصادر فوجدنا فيها ما يؤيد هذا الإنكار، ونبادر بدفع ما قد يسبق إلى العقل من توهم يوقعنا فيه ما يدل عليه لفظ الثنوية لغوياً، وهو إن الثنوية تطلق على كل القائلين بأن للكون أصلين: النور والظلمة؛ أو خالقين أحدهما إله النور يزدان وإله الظلمة أهرمن. بل إن الثنوية فرقة يميزها سائر الفرق القائلة بأصلين: النور والظلمة - إنها تقول بقدم الاثنين كما حكى مذهبهم القلقشندي، فالقول بالقدم ركن هام في العقيدة الثنوية.

ويسند ابن النديم في الفهرست القول بالقدم إلى ماني المولود في سنة 215م فيقول إنه (يزعم بأن العالم مصنوع من أصلين قديمين هما النور والظلمة، وإنهما أزليان سرمديان، وإنه ما من شئ إلا وهو من أصل قديم) وكل ما ذكره ابن النديم صحيح، ولكن ليس ماني أول من قال بقدم الأشياء من بين الحكماء عامة ولا حكماء الفرس خاصة. لقد ظهرت الثنوية بعد الزرادشتية وقبل المانوية فيما نرى، فلنتكلم في الزرادشتية قبل الثنوية، ولينظرنا القراء الأدلة على رأينا وبيان المراد من الثنوية ومن ظهر مذهبها على يده إلى حيث الكلام في الثنوية إن شاء الله.

ظهرت الزرادشتية بعد الكيومرتية وصاحبها الذي تنسب إليه هو زرادشت أول حكيم يعيه التاريخ من حكماء فارس، وقد ظهر في عهد الملك كيستاسف السابع من ملوك الكيانية وهم الطبقة الثانية من ملوك الفرس، وكان مولده في منتصف القرن السابع قبل أن ينهض الفرس بقرن كامل نهضتهم السياسية على يد كورش الأكبر (550ق. م) ويستقلوا ببلادهم ويطردوا منها الميديين ثم يمتلكوا ميديا أيضاً ويخضعوا الليديين في آسيا الصغرى وتصل حدودهم إلى البسفور، لقد سبقت النهضة العقلية في فارس النهضة السياسية بأكثر من نصف قرن كما سبقت النهضة العقلية في الصين والهند بنحو قرون فلم يولد جوتاما مؤسس الفلسفة البوذية في الهند ولا كنفشيوس مؤسس الفلسفة المنسوبة إليه في الصين إلا في منتصف القرن السادس قبل الميلاد.

وليس من همنا هنا أن نخوض بالإثبات أو النفي فيما يحيط به الفرس حكيمهم زرادشت ومولده وخلقه وحياته من مناقب ولا فيما روته القصص الفارسية في ذلك من أساطير مما يدل على إنهم كانوا يكنون له أسمى درجات الحب والتقديس، ولمن شاء ذلك أن يرجع إلى المبسوط من كتب التاريخ وكتب الملل والنحل وكتب الفلسفة، كما إنه ليس مما يعنينا الحكم على هذه الروايات فلها مثيل عند كل الأمم قديمها وحديثها في موقفها تجاه أبطالها أياً كانت الناحية التي برزوا فيها، ولن نعرض لما نسب إليه من صلات ببعض أنبياء بني إسرائيل وما قيل عن تأثير ذلك فيه وما كان من خيانته وهربه من فلسطين إلى بلخ فكل ذلك فيما أرى زعم يهودي أساسه العصبية اليهودية التي تأبى إلا أن تحتجز الفضل في كل نبوغ في اليهود، وترد كل نبوغ خارج عنهم إلى أصل فيهم، وحسبنا من الكلام في زرادشت أن نبين إجمالاً تعاليمه التي كان لها أثر في الزندقة الفارسية قبل الإسلام ثم الزندقة على عهد المهدي العباسي، وحسبنا في هذا الإجمال ما يجنبنا المفاجأة المربكة.

ولد هذا الحكيم في منتصف القرن السابع في أذربيجان من إقليم ميديا الذي كان تابعاً في ذلك الوقت للدولة الكيانية التي عاصمتها بلخ، وقد طوف بالبلاد الفارسية واتصل بكثير من حكمائها للدرس والمشاورة في العقائد والأساطير الكيومرتية التي كانت قبله والإصلاحات التي تحتاج إليها فارس في عهده وهي تتأهب للنهضة السياسية التي ظهرت آثارها بعد وفاته، وقد اتصل بالملك كيستاسف في عاصمة بلخ واستطاع أن يقنعه بالدخول في مذهبه، وقد كان ذلك نصراً كبيراً له إذ عمل الملك على نشر مذهبه وإدخال الناس فيه فانتشر في جميع الأنحاء الفارسية، ومما أعان على ذلك بقاء زرادشت يبشر بمذهبه في الفرس خمساً وثلاثين سنة ومات نحو سنة 583ق. م بعد أن عاش سبعاً وسبعين سنة، وقد خلف زرادشت مذهباً وكتاباً.

فأما المذهب فقد جاء به مصدقاً لما بين يديه من الكيومرتية أو الصابئية التي كانت قبله فأيد القول بإلهين اثنين أحدهما يزدان للنور والآخر أهرمن للظلمة لأنه وجد من المتعذر إسناد الخير والشر في العالم إلى مصدر واحد مع اعتقاده بأن يزدان أسبق من اهرمن وإنه خالقه، والقول بأن العالم خلق من النور يدل على عبقرية ثاقبة، ولولا ضيق المقام لفصلنا القول فيما تدل عليه هذه النظرة الرائعة، وحسبنا أن نشير إلى إنها لا تختلف عن النظرة العلمية الحديثة في بناء الكون، فقد فقدت المادة اليوم ماديتها بعد أن ثبت إن أجزاءها كالضوء ذات خاصية موجية، وإنها مؤلفة من كهرباء، وثبت ذلك بالبرهان المحسوس بعد أن أخذت صور البروتونات والإلكترونات المتحركة وثبت إن كتلة الإلكترون وهي معيار ماديته علتها حالته الكهربائية، وبذلك صارت المادة نوعاً من أنواع الطاقة، فيقال الطاقة المادية، كما يقال الطاقة الكهربائية والطاقة المغناطيسية بلا خلاف، ولا ريب إن زرادشت عبر عن هذا بلغة الأسطورة لا لغة العلم وإنه لم يصل إلى ذلك من طريق المنطق ولا التجربة، بل من طريق اللمح الفني العبقري المنبعث من الشغف القوي بالطبيعة، وقد كان لهذا الرأي أثر في كثير من مفكري الأمة الفارسية وغيرها كاليونان والعرب، وقد رمز القرآن الكريم إلى هذا المعنى العميق وعبر عنه تعبيراً واضحاً في الآية الكريمة: (الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار، نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء، ويضرب الله الأمثال للناس)

(يتبع)

محمد خليفة التونسي.