انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 657/تأملات:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 657/تأملات:

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 02 - 1946



من الساخر!؟

للأستاذ عبد العزيز الكرداني

ذات يوم. . . ركبت ترام (المترو) في رفقة صديق له مثل اتجاهاتي ونظراتي وتأملاتي في الناس وفي الحياة. وكان الوقت مساء. . . وكانت الأضواء الباهتة تترنح سكرى في سدفة الليل. . . وكانت النسمات لينة تنفذ إلى الرئتين في رفق ودعة، فتستجيش انفعالات وخواطر شتى!

ولما بلغنا في الطريق إلى منتصفه، أشار صديقي خفية إلى رجل يجلس قبالتنا. . وهمس في أذني قائلاً: (انظر. .!)

. . . ونظرت. . فإذا شيخ هِمٌّ أرسل لحيته الكثة إرسالاً فطرياً مستبشعاً، فبدت كأنها دغل كثيف منّن. وكان الشيخ في أسماله الحائلة الرثة، ووجهه القذر المتغضن، وفمه الفاغر، ونظراته الشاخصة، قابعاً في غفلة وتلبد أشبه ما يكون بركام مطَّرح من قذر وعفونات!

قال صديقي بعد فترة من النظر المتأمل إلى وجه هذا المسخ الآدمي (أترى إلى هذا (الشئ!)؟! أتراه يكون (إنساناً)؟!)

. . قالها صديقي، ولم يكن يرمي إلى الزراية بهذا التعس. . ولا يكاد يقصد إلى اصطناع السخر منه. . وكل ما كان يبتغيه هو أن يفصح - في صدق - عن حقيقة تجسمت أمام ناظريه!. . . وافترقنا. . وطوت الذاكرة هذا المشهد فيما طوته من مشاهد، وإن تحصِّل في نفسي راسب منه، لم يكن من اليسر أن يقتلعه النسيان ومرور الأيام من واعيتي الباطنة. . . حتى كان يوم من أيام هذا الشتاء الجهم لقيت فيه صديقي. . فتذاكرنا سوياً هذا المشهد، واسترجعنا في خيالنا صورة ذلك الشيخ. ثم خلفت صديقي، ومضيت إلى داري. وهنالك - حين خلوت إلى نفسي - وجدتني أردد هذه العباْرة: (من. . من الساخر؟!)؛ ثم وجدت الذهن ينبثق عن خواطر. . رأيت أن أسجلها في هذه القطعة الفنية، التي أقدمها لصديقي. . شريكي في النظر والتأثر - هدية متواضعة. . طالباً منه أن يعمل الفكر والحس والشعور في مضمونها وفحواها. . ثم أسأله - بعد ذلك - أن يتحرى أو يحاول مطابقة الراسب المتحصل في نفسه بتأثير هذا المشهد، بالراسب الذي أوحى إلى هذا الك (. . من؟! من يكون الساخر في هذه الحياة؟!

أتراه يكون ذلك الشيخ الهم الذي طوى السنوات الطوال - وما زال يطويها - لا يدري من أمر خلقه شيئاً. . لا يعلم للحياة غاية إلا أن يعيش. . ويظل يعيش!

. . لا يعرف من هدف في الدنيا سوى أن يعمل على أن تمتد به الحياة. . ليظل يحيا. . لينسأ أجل الوفاة!

إنه ليتأدم بالخبز مختلطاً بالقذر؛ ويطعم شرائح اللحم ممزوجة بروث البهائم، ويكرع في الماء الآسن، حميماً ذائباً فيه الطين؛ وينام الليل الطويل على فراش من حصى وقش باسر! إن حياته لتطرد على هذه الصورة السنين تلو السنين. وهو على حاله من طلب البقاء والرغبة الملحة في الدوام!

أترى ذلك (الشيخ) يكون الساخر؟ أم يكون هذا (الفنان) الذي انصرف عن كل شيء إلا فنه. . ونظر إلى الكون على أنه مرسح تمثل عليه رواية، لا يهمه من أمرها شيء. . إلا بقدر ما تشبع حاسته الفنية وتروي. . .

إن كل ما في الكون، إنما يتخذ قِيَمه وخصائصه - عنده - بهذا الفن. . هذا الفن وحده!

وإن ناساً يعيشون في هذه الحياة، ولا يعرفون من أمر (هذا الفن) شيئاً، لهم - في نظره - والعدم سواء!

إنه ليلهو عن الحياة في واقعها، بتلك الحيوات الكثيرة المتنوعة. . وتلك العوالم العريضة الرائعة يفتقها خياله المفتن الصناع، الذي يجد معينه الدافق - دائماً - في عالم النفس الرحيب، وعالم الروح الطليق!

أترى الساخر يكون ذلك (الفنان). . أم تراه يكون هذا (الباحث) المنقب الذي سلخ جل حياته حبيس عقله الراصد للظواهر، المستكنه للعلائق المستورة الخفية، والخصائص الكامنة المطوية. . تتقلب به الدنيا، وتدور من حوله الأحداث، ويجلل الشيب رأسه يوماً بعد يوم. . . وهو لا يدري من أمر هذا كله شيئاً. . إلا هذا (الكل) الذي يعيش فيه. . . ويعيش من أجله ويأمل أن يمتد به العمر ليصل حلقة من حلقاته المفزعة!

أتراه يكون الساخر في هذي الحياة؟ أم يكونه هذا (الطفل) الغزير الذي لا يستشعر (الوجود) وجوداً إلا أن يرد ظواهره كلها إليه. . . إلى ذاته؛ ولا يحس (الحياة) حياة إلا أن تتفاعل بكل ما فيها وكل من فيها في داخل نفسه. . . في محيطه الخاص المستقل، الحافل بالصور الغريبة ومستطرف التهاويل!

إنه ليرى أن كل شيء في هذا الكون له. . وهو لا يملك شيئاً منه في واقع الحال، وما من شيء في الكون - إن علم - ليقبل أن يخضع للتخصيص!

كل أهدافه أن يستشعر الناس أحاسيسه، ويجاوبوه عنها!

كل مبتغاه أن تلبى مطالبه، وتقضَّى حوائجه للحظة التي هو فيها، وبالصورة التي يريد!

أيكون هذا (الطفل) هو الساخر في هذه الحياة؟!

أيكونه؟! أم يكونه واحداً من هؤلاء؟ أم يكونه جميعاً؟ أم لا يكونه واحد من أيهم!

لست تدري. . . ولست أدري. . . ولسنا - جميعاً - نملك إلا أن نتساءل: من؟!. . . من يكون الساخر في هذي الحياة!

لنجد الجواب - دائماً - حيرة أبدية مشبوبة. . . وقلقاً سرمدياً. . . هما وسم كل (حي). . . وسر كل (حياة)!

(مصر الجديدة)

عبد العزيز الكرداني