مجلة الرسالة/العدد 655/في الأدب الإنجليزي
مجلة الرسالة/العدد 655/في الأدب الإنجليزي
ماثيو أرنولد
للأستاذ خيري حماد
- 4 -
آراؤه في التربية:
عندما انتخب أرنولد لمنصب مفتش المعارف قامت هناك معارضة قوية من قبل رجال الدين. فقد كان هنالك اتفاق بين الحكومة والكنيسة يقضى بانتخاب أحد رجال طائفة الاكليروس لشغل هذا المنصب العظيم. ولذا لم يكن من المستطاع انتدابه للتفتيش على مدارس الكنيسة؛ بل اقتصرت مهمته على زيارة مدارس الحكومة والمدارس الأهلية.
وكان من واجبه مراقبة زمرة المفتشين لأن الحكومة وضعته رئيساً عليهم. وعندما كانت الحكومة تقصد تشريع قوانين جديدة وأنظمة حديثة لإدارة المدارس كانوا يستشيرونه ويسيرون على ضوء آرائه ونظرياته. ومن أمثلة هذه القوانين الخاصة مشكلة تدريس اللغة الإنكليزية في المدارس؛ فكانت لمدة خلت موضوعاً اختيارياً مثله كمثل الدروس الأخرى، كعلم الجغرافية والعلوم الابتدائية الأخرى. ولكن أرنولد حبذ تعليمها كدرس يجبر جميع الطلاب على تعلمه ودرسه فقد اعتبر كل نظام للتعلم العام ناقصاً إذا لم يبذل اهتماماً كبيراً نحو لغة البلاد كشرط أساسي في تعلم العلوم الأخرى.
وكانت الطريقة الرئيسية التي يعتمد عليها في تنفيذ آرائه، ووضعها موضع التجلة والاعتبار هي تقاريره السنوية التي كان يقرؤها نفر قليل من أفراد المجتمع الإنكليزي. وهذه التقارير تتضمن آراء قيمة ملذة في بعض المواضع الطريفة. وقد استنار خلفاؤه بهذه التقارير؛ فأصبحت طريقتهم واضحة وعملهم سهلاً لا يحتاج إلى كثير صعوبة وإجهاد.
(وقد اهتم أرنولد اهتماماً عظيماً في إدخال بعض العلوم الأولية التي يحتاج إليها الطالب كثيراً في حياته العملية المقبلة فهي تهيئه لقبول جميع النظريات والتعاليم التي جاء بها العلم الحديث. ومع أن علم الحساب والكتابة والهجاء ضرورية جداً للطلاب إلا أنها لا تتعدى حدود الكماليات بالنسبة إلى تهيئ الإنسان لما يقبله من العلوم في حياته المستقبلة. فمقدرة القراءة لا تجعل من الفرد قادراً على تحضير المواد التي يحتاج إليها في حياته المقبلة).
نصح أرنولد الطلاب بمطالعة الكتب التي تستحق القراءة. وفي رأيه أن دراسة الآداب من أهم العوامل التي يحتاج إليها الطلبة في حياتهم. فهي تساعد في تنمية ذوق الطلبة وقوة حكمهم وخاصة إذا حفظوا قطعاً من الشعر يحتاجون إليها في تغذية أرواحهم والترفيه عن أنفسهم. واعتقد أرنولد بأهمية دراسة قواعد اللغة في المدارس ودافع عن نظريته هذه بقوله: (إني لأعلق أهمية كبرى على دراسة قواعد اللغة في المدارس لمساعدتها الأطفال في التفكير وأشغال الناحية العقلية أكثر مما يحدثه علم الحساب؛ فهي تعلم الإنسان قواعد المنطق والمجادلة لأنها تختص بالكلمات المحدودة لا بالأرقام والحسابات.
فالإعراب من أهم محتويات هذا العلم ولا يصعب على الطلبة دراسته قط إذا كان تعليمه بطريقة دقيقة منظمة. وقوة التحليل في اللغة الإنكليزية تجعل من السهولة في مكان عظيم على الطلبة أن يطلعوا على القواعد بكل سهولة بدلاً من تعليمهم إياها بتلك الطرق العقيمة القديمة، التي كانوا يجرون فيها مجرى اللغات الجامدة. ويسرني جداً أن أرى الأساتذة يعتنون بالطريقة التحليلية الحديثة في تدريس علم اللغة).
وكان الناس يعتقدون أن اللغات اليونانية، واللاتينية والفرنسية لا تخرج عن كونها دراسات ثانوية يقوم بها المتقدمون في الثقافة والعلم. ولكن هذه الفكرة لم تكن لتتفق مع مذهب أرنولد في التربية والتعليم. فقد آمن بوجوب تدريس مبادئ هذه اللغات أو إحداها على الأقل في المدارس الابتدائية. وهذا الأساس يفيد جميع الطلبة الذين يقصدون الالتحاق بالكليات العالية والجامعات.
وأما الطلبة الآخرون الذين لا تساعدهم ظروفهم على متابعة دراستهم فإن هذا الاطلاع ينفعهم في تفهم الحقيقة الراهنة. وهي أن هنالك لغات غير لغتهم وعلوماً غير علومهم.
وزيادة على ذلك فقد ارتأى أرنولد أن دراسة الرياضيات وعلم الفسيولوجيا والجغرافية الطبيعية والنبات هي من أشد الأخطاء التي يرتكبونها في نظام المدارس الابتدائية. فإن من الحماقة تعليم الأطفال اصطلاحات علمية لا يتفهمونها ولا تستطيع أدمغتهم الفتية وقبولها وإساغتها.
وأما الأساتذة فيجب أن يتوخى في انتخابهم مقدرتهم العلمية وميلهم إلى المطالعة ومتابعة الدرس، وقد كتب في أحد تقاريره: (إن الأستاذ الذي يستطيع أن يخلق في طلبته الميل لتوسيع أدمغتهم ليتحسن منه أن يزيد في معلوماته ومعرفته. وكلما استطاع أن يجعل آراءه العلمية واضحة أمكنه أن يجعل طلابه أكثر وضوحاً واتساعاً. وكم كان يسره أن يرى أحد الأساتذة الذين اشتغلوا معه يتابعون دروسهم في إحدى الجامعات.
وكنتيجة للجدل الديني الذي قام في عصره شعر أرنولد بفقدان الشعور الديني في تلامذته؛ ولذلك فكر في تدريس التوراة في الصفوف الابتدائية لمعالجة هذه الحالة. ولتنفيذ هذه الفكرة وضع أرنولد كتابا جمع فيه الفصول السبعة والعشرين الأخيرة من إنجيل أشعيا وشرحها شرحاً يمكن طلابه من فهمها حق الفهم.
وكان أرنولد يميل إلى النظام التربوي المتبع في المدارس الفرنسية مع انتقاده إياها بعض انتقادات لا تخرج عن جادة الصواب؛ فلا يوجد هنالك توافق وتعاون بين مختلف درجات العلم والتعليم. ولذلك فإن نظام المدارس الداخلية لم يكن مقنعاً. فإن العريف الذي كان يعد مسؤولاً عن سلوك الطلبة وأخلاقهم لم يكن في الحقيقة إلا واحداً منهم لا يسره أن ينم عن رفاقه أو يشي بهم.
وقد أعجب أرنولد بقلة النفقات التي يدفعها الطالب الألماني لمتابعة دروسه. فكان هنالك في بروسيا سلم تعليمي يمكن للطالب النابه ارتقاءه درجة إثر أخرى حتى يصل إلى القمة. وهذا النظام كان في رأيه أحسن نظام عرفته أوربا منذ القدم؛ فكان يجمع إلى الحرية الإنكليزية نظام الفرنسيين.
أما الجامعة فيجب أن تشمل ثلاثة فروع مختلفة، الأول منها فرع التعليم العادي الذي يمكن لجميع الطلبة على اختلاف مراتبهم العلمية مزاولته والاستماع إلى محاضراته الكثيرة في أي وقت شاءوا. والثاني يشتمل على بعض الدروس الليلية التي تعطى رجال الأعمال أو الموظفين الحكوميين الذين لا يمكنهم حضور الدروس النهارية. والفرع الثالث هو فرع المراسلة الذي يضم إليه جميع الطلبة الذين لا تمكنهم ظروفهم من الحضور إلى المدينة والاستماع إلى المحاضرات.
فلسفة الدينية: اعتقد غلادستون أن أرنولد قد جمع إلى الديانة المسيحية فكرة الإخلاص والتكريس المقدس بطريقة لا يمكن لأصدقائه وأعدائه على حد سواء تفهمها وحل غوامضها. وأما بول فقد كتب عنه قائلا: (إن أرنولد وضع لنفسه هدفاً منطقياً معقولا ولكن تعابيره الجميلة كانت موانع هامة أمام تقدمه ونجاحه).
لم يكن نقد أرنولد للتوراة نقدا قويا ولم يكن بحثه فيها بحثاً ناضجاً قيماً. وكتابة: (القديس بولس والبروتستنتية) لم يكن كتاباً دينياً حقيقيا. لكنه يخرج فيه على قواعد المسيحية الموروثة، وعلى الكنيسة المتحدة أيضا. فكان يؤمن بالمعجزات ويقف موقف الشك من شخصية الإله. فلم تكن عقائد الآخرين لتؤثر عليه أي أثر مهما كان ضئيلا.
أما كتابه (الأدب والعقائد) فيفوق سابقه بروعته وقوة أسره. فهو جد مشبع بالعواطف الدينية المختلفة مما جعله أداة فعالة في إعلاء الأخلاق وترقية أمرها. ويبحث هذا الكتاب في المسائل الدينية بحثاً جدياً منطقيا. فيبرهن بشتى الطرق على أن الديانة الحالية قد أفسدت التعاليم الجميلة الكثيرة التي جاء بها السيد المسيح منذ القدم.
وكانت رغبته تنحصر في منح الناس الحرية الكافية لتمييز الأشياء وتمحيصها. فقد رأى بعينيه التقلب والتطور الذي أخذ يدب دبيبه في روح الدين وتعاليمه فلم يستطيع احتمال ذلك. أصبح الناس لا يؤمنون بالمعجزات ولا بوحي التوراة؛ وقد خالف علماء الدين إلا بقوله إن التوراة كتاب أدبي أكثر منه كتاباً علمياً. وليس من واجب الدين إلا أن يهتم بالأخلاق التي تكون ثلاث أرباع الحياة الإنسانية. وصدق الديانة يجب أن يدعم بالتجارب العملية أكثر من الحقائق الفلسفية والأخلاقية. وخلاصة القول فقد عرف الديانة بقوله إنها الأخلاق تحفزها العاطفة والإخلاص.
أما إيمانه بالله فكان يختلف عن عقائد أهل عصره فلم يعتقد بشخصية الإله وأنه شخص له صفات تخالف صفات البشر؛ بل قال بأنه القوة السرمدية الأبدية التي تسيطر على هذا الكون. وتظهر لنا عقيدته هذه من جميع الفقرات التي اقتبسها من التوراة وسجلها في كتاباته فكان يغير لفظة الرب بلفظة الخالد.
والإيمان يجب أن يشمل جميع ما جاء به العهد الجديد وإلا فلا حاجة للناس بالإيمان ببعض أجزائه ونكران البعض الآخر. وأما عقيدة الاعتراف فيجب أن لا توضع بمنزلة عقيدة المعمودية، وإذا كان الناس لا يعتقدون الاعتقاد التام بجميع ما جاء في التوراة وبصدق الرواية والزمان والمكان كان إيمانهم بالسيد المسيح أشبه بالخرافات والأمور الخيالية.
أما ثالث كتبه الدينية فهو كتاب (مقالات في الكنيسة والديانة). ويبحث هذا المؤلف في وصف أحد المطارنة الملقب بمطران بتلر فهو يقول عنه (إن هذا المطران لم يعترف بوجود الإله فحسب؛ بل بوجود الحياة المستقبلية، وقد عرض للناس دوافع خطأ الإنسان وأغلاطه بطريقة دقيقة لا تقبل الشك والنكران. والعقل هو الحاكم الوحيد الذي يلجأ إليه الإنسان في فهم دقائق الأمور وخفاياها فهو الأداة الوحيدة التي يمكننا بواسطتها تفهم جميع العقائد حتى وجود الإله وحقيقته).
وفي مقدمة هذا الكتاب نرى أرنولد يوضح عقائده بشكل جذاب فهو يقول: (إني لأعتقد بخلود الديانة المسيحية نظراً لصدقها وصراحتها الطبيعيين. وإن هؤلاء الناس الذين اعتقدوا تخلصهم من حملها والإيمان بها تبعا للعقائد الزائفة التي بشر بها الكثيرون من رجال الدين سيرجعون إليها مرة ثانية ويدرسونها درساً أوفى، واشد دقة وتفهما). فكان يؤمن ببعث روح جديدة تطهر الديانة مما لحق بها من الأدران والأوساخ. وهذه الفكرة السامية تجاه الديانة المسيحية لتظهر لنا جلياً في فقرة ثانية كتبها حيث يقول: (إن الكنيسة يجب أن تعتبر كمؤسسة وطنية تسعى إلى إعلاء شأن الوطن ورفع كلمته. فمن واجب الناس على اختلاف طبقاتهم أن يتمنوا لها التقدم واطراد النجاح.
والهدف الوحيد الذي سعى إليه أرنولد في جميع مؤلفاته هذه وخاصة كتابه (الأدب والعقائد) كان لاسترداد التوراة مكانتها القديمة وإعلاء شأنها بين طبقة العامة الملحدة. وهذا الهدف كان سامياً في حد ذاته، ولذا فإن تحقيقه كان من السهولة بمكان عظيم. وقد أشبهت كتاباته هذه من نواح عدة مؤلفات الكردينال نيومن الكاتب الإنكليزي الشهير. فعرف أن الشك في المعجزات يقود الناس حتما إلى إنكار جميع الحقائق السماوية.
رأى أرنولد جمهرة المتعلمين من قومه يخرجون عن عقائد التوراة وأحكامها فحاول إرجاعها إلى قلوبهم بإقناعهم إن مكانتها في عقول الناس يجب أن لا تبنى على أساس المعجزات التي جاء بها أو على العقائد التي استخلصها الكاثوليك والكلفنيون من ثناياها بل إلى أدبها السامي وإلى روح النشاط والحماسة التي يبعثها السلوك الحسن والتضحية وحب الإنسانية.
فالديانة في رأيه لم تكن إلا الأخلاق تبعثها العاطفة وطهارة النفس، والرجل الورع هو الكريم الخلق الحسن الشيم. واندفاعه هذا في طريق الإخلاص يجب أن يكون ناتجاً عن عقيدة راسخة هي عقيدة العاطفة والميل. أما إذا كان الرجل مضطراً إلى اتباع سنن الأخلاق وتعاليمها فهو ليس بخير كريم. إذ أن الرجل الكامل، هو من كان مندفعاً برغبته وميوله لا تحت تأثير الطاعة والخنوع.
يتبع
خيري حماد