انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 653/موقفنا من الحضارة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 653/موقفنا من الحضارة

مجلة الرسالة - العدد 653
موقفنا من الحضارة
ملاحظات: بتاريخ: 07 - 01 - 1946



للأستاذ قدري حافظ طوقان

تقدم العلم تقدماً نتج عنه انقلاب خطير في الأوضاع والمرافق، فقد غزا جميع نواحي الحياة صغيرها وكبيرها، جسيمها وتافهها، ودخل في الطعام والشراب، في الترف والنعيم، في الحقل والبيت، في الحرب والسلم.

وأصبحنا لا نعيش إلا في أجواء من العلم، ولا نسير إلا على طريقة تحيط بنا الاكتشافات وتكتنفنا الاختراعات، فآثار العلم بادية في كل مكان وأصوله متغلغلة فيما جلّ من الشئون وما هان.

سرِّحْ الطرف وأنظر ما أخرجه العلم من مميزات ومعجزات في عالم الصناعة والآلات، تجد أن العلماء استغلوا الطبيعة والكيمياء والهندسة وما إليها فأتوا بالكهرباء وقالوا لها كوني نوراً فكانت، كوني ناراً، كوني حركة فكانت المحركات تسير في ركابها القاطرات والساريات والطائرات كما تدير الآلات، تعمل ما يعمله الإنسان بيديه وما لا يستطيع، ولكن بقوة وعزيمة ودقة قاربت حدود الكمال.

ثم أتى إلى الأمواج اللاسلكية وجعلها رهن إرادته، فإذا المستحيل ممكن واقع، وإذا الإنسان يملأ بها الأجواء تحمل له الأنباء والأخبار والصور. وأتجه العلماء إلى الإنسان وجسده فتمكن العلم من كشف بعض أسرار الحياة وقواعد الصحة وأسباب الأمراض ووسائل العلاج فتفنن في صنع الأدوية والأمصال واستخرج من العفن البنسلين والفينيسيلين فأتى بالعجب العجاب من فتك بالجراثيم والأمراض وإبادة آثارها وما تتحفه من آفات.

ولم يقف الغرب عند هذه الحدود، بل أقام الزراعة والفلاحة والاقتصاد والتجارة والتعليم والسياسة على أساس من العلم فدانت هذه لمآربه وغايته ونجم عن ذلك تقدم مادي لم يخطر على بال إنسان.

وجاء بعد ذلك إلى الشرق فدرسه وخبر أحواله، ورأى أن من حقه استعماره واستغلاله، كما يستغل الأرض ويستعمرها، وهكذا كان وهذا ما هو جارٍ الآن فإذا الشعوب كالحديد والنحاس تستغل لحساب الأمم ذات القوة والبأس، وتُسَخَّر لمصالحها وغاياتها، ذلك لأن الغرب سارٍ على مقتضى العلم يستخدمه في الحياة والعمران بينما الشرق بقي بعيداً يَسِرْ في حياته وفق العلم ولم يدرك بعد أن العلم هو الذي يدفع الأمم دفعاً في مضمار التقدم، وأن لا حياة لأمة تعيش بعيدة عن العلم، ولا كيان لشعب لا يؤسس حياته على العلم، فهو مفتاح النهوض وهو أُسُّ الارتقاء في معارج المجد والخلود.

هذا هو طابع المدنية الحديثة - طابع العلم - الذي دخل في صميم الحياة وانبثَّتْ حقائقه في شؤونها العملية منها وغير العملية.

هذا هو الوجه الحسن في الحضارة الحالية والجانب اللامع منها. ولكن مهلاً. . . هناك ناحية ضعف أدت إلى ما نراه في المدنية من إفلاس، ومن عدم ملاءمتها للحياة الهادئة القائمة على قواعد الخلق والروح والفضائل.

لقد أستغل العلماء العلم بعيداً عن قوى الروح والقلب، فأعلوا من شأن العقل والعلم علواً كبيراً، وحكموا العقل في القلب كما حكموا العلم في الدين فنتج عن ذلك ما نراه من فوضى خلقية وحروب طاحنة رهيبة، فاستأسدت الغرائز وأسرفت المطامع فإذا آلة العلم تتجه نحو التدمير والتخريب والفتك والتقتيل حتى أصبحت القوة مقياس تقدم الأمة وعظمتها، ولو تدخل القلب واتجهت آلة العلم نحو البناء والإثمار والخير والكمال لسمت المدنية وأرتفع شأن الإنسانية ولسار العلم في خدمة الحياة وإعلاء مقامها.

ومن هنا يتبين أن الأمم لا تصلح بالعلم بقدر ما تصلح بالقلب والأخلاق، أن التقدم الذي وصل إليه الإنسان - وقد توافرت فيه أسباب الرفاهية والرخاء - لم ينج الإنسانية من المصائب المحيطة بها ولا من الأهوال التي تنصب عليها.

هل قضى هذا التقدم على المشاكل العديدة التي يعانيها المجتمع؟

الواقع المشاهد أن المدنية الحديثة قد زادت المشاكل تعقيداً والتواءً كما سلبت العالم راحة البال وطمأنينة النفس، ذلك لأن حكمة الإنسان قد قصرت عن تثقيف الرغبات والنوازع الإنسانية غير حاسبة حساباً للخلق العالي ومعاني الحق والواجب والمثل العليا.

والذي يخشاه كبار الفلاسفة أن الحكمة البشرية إذا أفلست في النهوض بعبء إدماج العلم في أغراض الروح والخلق استمرت هذه القوى في اتجاهها نحو التدمير وهددت بزوال ما بقي من معالم الحضارة آثار الفكر والعقل.

وعندئذ يسكن العلم المصنع، ويطغي العلم على القلب، والماديات على المعنويات فتبقى الحضارة على مشاكلها والناس في قلقهم والأفكار في اضطرابها وتتضاعف متاعب الإنسان وتزيد تعقيداً فلا يخرج من فوضى ألا ويجابه فوضى أشد وأنكى فلا راحة ولا أمان، ولا سلام ولا اطمئنان.

وعلى هذا فالعلم وحده لا يكفي لوضع حد لشرور العالم وآثامه، والعلم وحده لا يكفي للخلاص من الصعاب المحيطة به من كلُّ جانب يجب أن يقوم العلم على عناصر روحية ومعنوية تعلى من شأن المثل العليا والأخلاق الفاضلة كما يجب أن تقوم الحضارة على المعنويات وتوفق بين العلم والروح كما تلائم بين العقل والقلب. والحياة لا تكون آمنة يسودها رحمة وسلام إذا طغى العلم على الأرواح والأوضاع، بل إنها لا تكون نامية رائعة إذا لم تسر على وحي القلوب ولن يستطيع الإنسان أن يرد عن الحياة والآثام والشرور والمفاسد إذا حكَّم العلم وحده منصرفاً عن معاني الخير والجمال.

والعيش لا يصفو في جو مادي تفرغ فيه القلوب وتمتلأ به الجيوب، والأعصاب لا تهدأ وهي عرضة للنزعات التي تذكيها المادية! وهل لحياة قيمة بل هل يكون لها روعة إذا بعدت عن المعنويات وهزأت بالروحيات؟.

إن العلم قد وضع في أيدينا قوة عظيمة إذا لم نحطها بسياجمن الخلق والروح انقلب إلى قوة هدامة مدمرة وعلى المعاهد والمفكرين أن يعملوا على حفظ هذه القوة ضمن هذا السياج لتجني منها الإنسانية قوى الخير والبناء والأثمار.

وعلى المفكرين والمعاهد أن يحاولوا المساهمة في هذا السبيل ويسيروا بجهودهم في طريق إدماج العلم في أغراض الروح العليا حتى يعرف النشء كيف يعيشون وكيف يقومون بواجبهم ويؤدون رسالاتهم بنفحات روحية وعلى أساس من الخلق متين.

يهمنا ألا يغتر النشء بهذه الحضارة وأن لا يسير وراءها دون روية وتمحيص، وأن لا يأخذوا بآراء القائلين بالسير مع المدنية والانغماس في ماديتها ونبذ التقاليد الشرقية والعربية وقطع كلُّصلة بالماضي.

يظن كثيرون من الشباب أن قطعة صغيرة من طائرة أو سيارة أفضل لنا من كلُّ ما ورثناه من خلق ومعنويات وتراث روحي خالد.

لقد شطَّ الفكر. انظروا إلى أوربا فعندها الاختراع وعندها الآلات، وعندما المصانع والأدوات. . . انظروا ماذا حل بها؟ وكيف حالها في هذه الأيام؟ نظروا إلى العلم لكنهم لم يعبئوا بالقلب أو الروح.

نظروا إلى النجوم، لكنهم لم ينفذوا بصيرتهم إلى الله وراءها.

ماذا كانت النتيجة؟ كروب أحاطت بهم وحيرة انتابتهمفإذا هم في جحيم يتلظى وفي دنيا من نار ودخان.

لا كانت مدنية، ولا كان علم يقود العالم إلى هذا الدمار وإلى هذه الفوضى في الخلق والأوضاع.

ليس العلم كل شيء في هذا الوجود.

إن الأخلاق والمعنويات شئ عظيم في هذا الوجود. والإنسان لا يكون الرجل الذي ينشده الدين والفضيلة إلا إذا صح إيمانه بالله وحكم القلب على العقل والمعنويات على الماديات.

والمدنية لا تكون سامية فاضلة إلا إذا سيرت العلم مع القلب والعقل مع الإيمان واليقين.

إذا أيقن الإنسان أنه عماد أمته، به يرتفع شأنها وبه تقوى وتزداد حيويتها، إذا أيقن أن من وثبات مجدها ومن خفقات قلبها وأن أغزر الناس حياة أعماقهم تفكيراً وأنبلهم شعوراً واصلحهم عملاً. . . عندئذ فهو الجدير بالحياة الكريمة وحمل أمانيها وتبعاتها.

إن الجماعة إنما تصلح بالخلق والضمير لا بالعلم.

وإن النفوس لا تقوى إلا بتذليل الصعاب ومجابهة المتاعب والعقبات والأخطار، وإن من يقف أمواله وأيامه وجهوده على إمتاع نفسه لا يعرف الحياة لأنه لا يعرف الوطن.

وأخيراً إن العلم وحده نقمة وشقاء وهدم وتدمير.

وإن العلم لا يزكو ولا يثمر ولا يصبح أداة خير وبناء وإصلاح إلا على أساس من الروح والخلق العالي، وإن الرجل العظيم هو الذي يرشد بالمعرفة والعطف لا من يستفز بالتحكم والبطش وإن أعظم الجماعات أقواها قلباً وأحياها ضميراً.

(نابلس)

قدري حافظ طوقان.