مجلة الرسالة/العدد 651/من التاريخ الإسلامي:
مجلة الرسالة/العدد 651/من التاريخ الإسلامي:
عشية وضحاها
للأستاذ علي الطنطاوي
هبطت ليلة الثلاثاء (15 رجب 484هـ) على قصر الملك الشاعر، وهو لا يزال على العهد به مُذْ عشرين عاماً، سابحا في النور، رافلا في حلل النعيم، ولا يزال أهله سادرين في أفراحهم، واثقين بدهرهم، مطمئنين إلى سعدهم، ولم يخفهم ما رأوا البارحة من طلائع الفاجعة ونذرها، إذ أطبقت سحبها سوداً متراكبات ترتجس بالرعد، وتنبجس بالبرد، وتعزف رياحها الهوج العاتيات. . . لأنهم كانوا على يقين من زوالها، وكانوا يرجون من بعدها صباحا طلقاً، ضاحك الطلعة ساجع الطير مزهر الروض.
كذلك عودتهم الأيام حين غمرتهم بنعمها، وأفاضت عليهم متعها، ولم تمسك عنهم خيراً يطمع فيه عاشق ولا شاعر ولا ماجد شريف. وكان للملك من نفسه الكبيرة جيش إذا افتقد الجيش، وكان عظيم الثقة بها والاعتماد بعد الله عليها، وكان فذاً قد جعلته خلائقه وما ورثه الجدود، بطلا في الأبطال، فلم تنل من حماسته هذه الأحداث التي كرّت عليه فجأة بعد ما طال أنسه بالدعة، وبعد ما نام عنه الدهر فطالت نومته، وأضفى عليه ثوب السعادة فامتدت سعادته.
وكان قد نزل به في يومه ما لو نزل بملك غيره لطارت نفسه شعاعاً، فحار وسُقط في يده فلم يعرف له مضطرباً. أو أنصدع قلبه وانخلع فؤاده فخضع واستسلم، ولكن المعتمد بن عباد لم يكن ليذل ولا ليجزع، بل أحتمل هذه الشدائد صابراً عليها، معداً العدة لدفعها.
لقد تجمعت عليه في يومه بلايا ثلاث كانت كالحلقات في سلسلة أسره: أنقلب عليه حليفه القوي أمير المسلمين ابن تاشفين الذي أعانه على حرب الأسبان، وجاءته الأخبار عنه أنه قطع المجاز أمس بالخميس العرمرم لم يعده هذه المرة للأسبان، ولم يسقه ليذودهم به عن الوطن الإسلامي، وإنما أعده لحرب ابن عباد، وساقه عليه ليزيله به عن عرشه، ويقتلعه من كرسيه. ولقد أذكى ابن تاشفين حمية جنده، بأن أراهم في هذا الزحف قربة إلى الله، وأنه في سبيله، وأنه ما أراد به إلا عز الإسلام بحطم هذه العروش الصغيرة، وهذه الممالك المزورة ألقاب مملكة في غير موضعها ... كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد
فقد أطمع هذا التفرق العدو حتى أقدم على هذه الدويلات، فذلت له كلها وخضعت، ورضخت له بالإتاوة، وكان الأعداء هم يؤدونها عن يد وهم صاغرون، وما ينبغي للمسلمين إلا دولة واحدة عليها أمير واحد، وما جزيرة (الأندلس) إلا ولاية في دولة المسلمين. . .
بذلك أضرم أمير المسلمين الحماسة في صدور قواه وجنده من البربر، فأقبلوا يطوون المراحل شوقاً إلى حرب هذا الذي فرق جماعة المسلمين وأطمح العدو فيهم، (المعتمد) الذي كان بالأمس الداني صديقهم وحليفهم وكان مُضيفَهم، وكانوا يتغنون بما رأوا من عجيب الكرم وما أوتيه من بارع الخلال.
ثم أن هؤلاء الأجناد الذين كان بعث بهم أمير المسلمين ليكونوا في ثغور الأندلس جنداً للمعتمد وعوناً له على عدوه وعدو الإسلام: الأسبان، واختارهم - لغرض يريده - من فرسان المرابطين، وأهل الشدة والنجدة فيهم، هؤلاء الفرسان قد تركوا بالأمس ثغورهم لما بلغهم زحف أميرهم، وأقبلوا على حرب الملك العربي النبيل يؤثرونها على مواقعة الأسبان ومروا يطحنون في طريقهم الأرباط والقرى، ويأخذونها أخذ الفجاءة، ويدعسون مآثر العمران ويحطمون الجنان، وجابوا في هذه الكرة الجائرة أودية كانت تميس بغلائل الربيع، ورباً حالية بالزهر، وضياعاً عامره ممرغة، فتركوها من ورائهم قاعاً صفصفاً وخلوها بلاقع، فكأنما مرت عليها ريح سَموم محرقة لا تبقي ولا تذر!
وكانت ثالثة الأثافي، هذه الثورة التي قدح زنادها، ونفخ فيها دعاة الخصم المغير ومن شرى ضمائرهم بماله، فكادت تجعل على المعتمد، اشبيلية دارة ملكه ناراً، ولكن الله أمكنه منها فأطفأها قبل أن تضري، وحكمه في مجرميها، فأبى له نبل محتده، وكرم طبعه، إلا العفو عنهم عفو القادر المتمكن، وحباءهم حباء الجواد المحسن!
لم يحفل الملك وقطان قصره هذه الرزايا، وعادوا منها بما عودتهم الأيام من غلبة الجد وتمام السعد، وظنوها في جنب ما ألفوا من الخفض وعرفوا من اللين كالخال الأسود في وجه الغانية الغيداء، لا يجئ ليسوده ولكن ليتم جمال بياضه. والخدر يعرف الصحيح قيمة صحته، وسحابة الصيف لا تغيم حتى تنقشع. . .
وأوى الملك إلى سريره بعد ما صرم أكثر ليله يعدّ قوته ويقيم مسالحه، وكان يؤنسه أن يستمع في هدأة الليل إلى هذا الهتاف البعيد، وإلى صليل الأبواق، وهزيم الطبول، وهو يطرز حواشي السكون في هذا الليل الساجي، إنهم جنده الذين خاضوا معه لجج القتال المر، وشاركوه جنى النصر الحلو، على أبواب قرطبة دار الصيد الأعزة من بني أمية يوم فتحت له أبواب قرطبة، وفي (الزلاقة) يوم ساق (الأذفونش) فيالقه وجيوشه، ليمحو بزعمه الإسلام من الأندلس فمحى جيشه، ولولا المعتمد وجنده ما هزم الأذفونش، ولكان المرابطون هم أصحاب الهزيمة يوم الزلاقة. . .
وأغفى الملك وهو يداعب ذكرى ذلك الظفر، ويطوي سمعه على ضجيج جيشة الذي يحبه ويعتز به، ويود لو أن هذا الجيش قصر عزمه وبأسه على قتال الأسبان، ولم يسئ إلى البطولة بحربه الأخوان المسلمين. . . ورأى الملك في منامه كأن هذا النشيد المدوي الذي نام عليه قد قوى واستفاض حتى رجعت أصلاد أشبيلية صليله وعزيفه، وعظم إرعاد تلك الطبول حتى أوشك أن يهز سريره بين جدران قصره، وخالطه صراخ وضوضاة، ففتح عينيه وأفاق مرتجفا، وأصاخ فسرعان ما أدرك: إنه العدو قد طرق المدينة، إنهم فرسان البربر الذين قلبوا له ظهور المجان، فتخلوا عن ثغورهم حيال الأسبان وأقبلوا عليه إقبال الذئاب الكواسر. . . ألئك هم الذين كانت تؤنسه أصواتهم، فيطوي عليها سمعه حين ينام!
وتلفت حوله فلم يجد إلا حرس القصر، وما كان حرس القصر رجال حرب، ولا فرسان ضراب؛ وأحس بالخطر، ورأى أنه قد كاد يفقد كل شئ. ولكنه لم يفقد الشرف ولا الشجاعة ولا النبل:
إن يسلب القوم العدى ... ملكي وتسلمني الجموع
فالقلب بين ضلوعه ... لم تسلم القلب الضلوع
لم أستلب شرف الطباع أيس ... لب الشرف الرفيع
ولا يزال سيفه في يده، فخرج به وما عليه إلا غلالة رقيقة، لم يمهلوه حتى يلبس لامته ويدرع:
وبرزت ليس سوى القميص ... عن الحشا شئ دفوع
وأراد حرسه وأهله أن يجنبوه هذا الهلاك الأكيد، وأن يحسنوا له الموادعة حتى تنكسر حدة الهجوم، وتمكن البادرة:
قالوا الخضوع سياسة ... فليبد منك لهم خضوع
فأبت له مروءته وحميته، ونفس تعاف العار حتى كأنما هو الكفر يوم الروع، أو دونه الكفر، ورأيت له ذكريات النصر ومواريث الجدود. . .
وألذ من طعم الخضوع ... على فمي السم النقيع
أمن الموت يفر وقد كان يتعشقه ويطلبه ويسعى إليه، ولا يفكر إذا خرج للقائه في أهل ولا ولد:
ما سرت قط إلى القتال ... وكان من أملي الرجوع
شيم الأولى أنا منهم ... والأصل تتبعه الفروع
ولكنه كان يريده موتاً شريفاً نقياً، كالفتاة المكنونة في الحجاب، لم تدنسها نظرات الإثم ولم تعلق بجمالها الريب، وكان يهوى لقاءه في الملحمة الحمراء، فيلحقه فيفر منه ويتأبى عليه!. . . أما هذا الموت الذي يقبل عليه في غرفته إقبال اللص، ويلقاه في ضيق الدهاليز لا في رحب الميدان، وفي سدفة الليل لا في سفر النهار، ويريده في غلالة الشاعر لا في درع البطل، فهو لا يطلبه ولا يحبه بل لقد أحنقه ذلك عليه، وملأ صدره غيظاً منه، وكراهاً له، حتى نذر لئن واجه الموت هذه الليلة ليقتلن الموت! ولئن هو لم يقتل الموت، فلقد أحيا لمملكته الحياة، ولقد وفى نذره فرد هذه الغاشية التي اقتحمت عليه حصنه، على حين غفلة من أهله، كما يرد الهزبر الذئاب عن غابه.
وضوّأ النهار أشبيلية، وهي مقسمة الفؤاد بين فرح بالنصر، وجزع من الخطر، وكان جند الملك الأشاوس قد وقفوا للدفاع عنها، لا يفتئون كلما سمعوا همسة ريح، أو هدير نهر، أو صفير طائر، أو نبأة خفية بين الأرض والسماء، ويثبون إلى سيوفهم، يتطلعون أبداً إلى الطرق من فرط تشوقهم للقاء هذا الخصم المغير الذي كان بالأمس الحليف النصير فإذا لم يروا أحداً رجعوا إلى مسالحهم يقظين مرتقبين، وكانت الحصون حول البلد، وفي أطراف المملكة، محشوداً فيها الجند من كل كمي كأن قلبه من ثباته جلمد الصفا، وكان في أكبرها وأمنعها، شبلا ذلك الأسد، وفرعاً تلك الدوحة الكريمة الباسقة، الراضي بالله والمعتدّ بالله، ولدا المعتمد ابن عباد. . .
وكان عصر ذلك اليوم وأهل أشبيلية لا يزالون يتغنون بمأثرة الملك الفارس، وقد فترت يقظة الجند حين توالى الأمان واطمأنوا إلى بُعد العدو. فاستراحوا قليلا بعد هذه الليلة الجاهدة؛ في تلك الساعة صرخ النذير كما ينفخ في الصور فتجمع العسكر المكدود على عجل، وصدمتهم فرسان البربر من جهة البر ومن الوادي صدمة تحط الصخر من ذراه، ولكنهم وجدوا المعتمد أثبت من الصخر وأيقظ من الصقر، فارتدوا بعدما فعلوا بالمدينة فعل الزلزال واستراحت أشبيلية أياماً، ثم جاء يوم الواقعة!
وفي يوم الأحد 20 رجب سنة 484هـ ارتجت أشبيلية بأضخم جيش وطئ ثراها، جيش أمير المسلمين ابن تاشفين، الذي حشد له من غطارفة المرابطين كل بطل غشمشم، ويقوده أبن أخيه كبش القوم وفارسهم سير بن أبي بكر، وجمع له فيه من قبائل البربر جناً مقاتلة كأنهم من طول ما ألفوا الخيل قد ولدوا على ظهورها، بعدة لهم ضخمة وعديد، فسدوا مطلع الشمس، وحطوا على البلد حط الجراد، وطوقوه تطويق القيد، وانضم إليهم فرسان الثغور، ثم أطبقوا على ابن عباد كالسيل الأتي الدفاع. . .
أثار المعتمد في نفوس جنده حميتهم وكبرياءهم، وأنشدهم أبرع أناشيد البطولة، ولون لهم الموت بأجمل الألوان، وعرض عليهم تحاسين المجد وتهاويله، فثبتوا وجاءوا من فنون القتال بأعجبها وأشرفها، وناضل الملك البطل حتى لم يبق مناضل، وضارب حتى تحطمت في يده السيوف، ودافع حتى استنفذ آخر نقطة من القوة البشرية التي أودعها الله فيه، ثم سقط مغسلا بدماء جراحه، وتحطم السد فانطلق السيل. . . ونفضت قصور الملك عن غيدها وكنوزها، فعادت أطلالا. . . وهوى الصرح الذي أقامه على النيل والحزم والكرم الغر البهاليل بنو عباد.
إن البطل الحق لا يستهويه الظفر حتى يستخفه، ولا تعزه الهزيمة حتى تسحقه، بل يتلقاها بعزم جلد وفؤاد ثابت، وكذلك فعل المعتمد فلم تذل نفسه ولم يضرع ولم يتهافت. بل تلقى قضاء الله تلقي المؤمن. . . وكتب إلى ولديه يستنزلهما من حصنيهما حين قسره الغالبون فلم يجد إلا ذاك، وكتبت السيدة الكبرى أمهما، وكانا في حصنين أمنع من النجم. تهاوت الحصون وهما ثابتان. . . ولكن ماذا ينفع حصنان وقد باد الملك وماد العرش وساد المرابطون. . . فلما أطاعا ونزلا قتل الراضي على باب حصنه، واستصفى مال أخيه وترك على شر حال، ثم اقتيد المعتمد وأهله مجردين من الأموال، مقيدين بالقيود الثقال، ليلقوا ما قدر عليهم في صحراء المغرب.
كان إذا خرج موكب المعتمد أطلت عليه كل فتاة في حمص تختزن صورته لتزين بها أجمل رؤاها، وأحلى أحلامها، وتطلع إليه كل شاب ينقش رسمه على شغاف قلبه ليجعله مثلا له في المعالي، وملأ عينه منه كل أندلسي لأنهم كانوا يحسون أنه عز لهم وفخر، وأنه حبيب إلى قلب كل أندلسي، وإن عاد مظفراً قاموا على طريقه يرشقونه بأجمل أزهار الجنة. أما اليوم فقد خرجوا بغير ورد ولا زهر. خرجوا وما أعدوا إلا عيوناً تبكي لو استطاعت بدل الدمع دماً، وقلوباً تفديه بحبّاتها لو كان يمكن الفداء، وجرى النهر ذلك اليوم متطامناً خافت الخرير، لا يصخب ولا يهدر، كأنه هو الآخر قد أحس بالألم:
والناس قد ملأوا العبرين واعتبروا ... من لؤلؤ طافيات فوق أزباد
وكانوا ساكتين قد عقدت الذهلة ألسنتهم، وأمسكت الأحزان وسيوف المرابطين أفواههم، حتى الأطفال لم يكن فيهم من يبكي أو يصرخ، حتى إذا قدمت بنات الملك الأسير يجرهن جند من البرابرة جر الشياه إلى المسلخ، وقد:
حط القناع فلم تستر مخدرة ... ومزقت أوجه تمزيق أبراد
أوجه تزرى بالأقمار، وأجسام ألطف من الياسمين الغض، وأرق من شعاع البدر على البحيرة الصافية في ليلة غرام. ثم طلع الملك لا تاج على رأسه، ولا سيف في يده، ولا لواء يخفق على هامته، ولا جند من حوله يفدونه بالأرواح ويبذلون دونه حر الدماء؛ بل حوله جند من البربر، وفي يديه قيود ثقال، وما عليه إلا أطمار - تفجرت الأحزان مدامع، وانشقت القلوب صرخات، وتحركوا لنصرة الملك، ولكن البربر كانوا خلالهم ومن فوقهم ومن تحتهم. . .
حان الوداع فضجت كل صارخة ... وصارخ من مفداة ومن فادي
ووضعوا الملك في السفينة، ومن حوله نساؤه وبناته مقرونات بالحبال، مطرقات كاسرات الطرف تلوح قطرات دموعهن في ضياء الشمس كاللآلى:
حموا حريمهم حتى إذا غلبوا ... سيقوا على نسق في حبل مقتاد
ورفع الملك رأسه ونظر إلى جنده، وأنتزع من آلامه ابتسامة لاحت على شفتيه كما تلوح خيوط الشمس لحظة خلال السحاب في يوم غائم، وحاول أن يقول فضاع صوته في عويل الناس وصخب البربر، وأراد أن يشير بيده التي طالما هز بها أعواد منبر وطالما أشار بها إلى ظفر. فحركت إليه الكتائب السود، وطالما أغنى بها فقيراً، وفك أسيراً، وأجاز شاعراً، وفعل بها المكرمات؛ أراد أن يشير بها فأثقلها حديد القيود، فأحنى رأسه وأطرق و. .
سارت سفائنهم والنوح يتبعها ... كأنها إبل يحدو بها الحادي
وعاد الناس إلى بيوتهم وما يصدقون أنهم فقدوا المعتمد ابن عباد. . . أفي عشية وضحاها، يطمس كتاب كله مجد وكرم ألف في عشرين سنة؟ ألم يعد يطلع عليهم موكب الشاعر الذي يغني للحياة أجمل أغانيها، ولا الفارس الذي ينظم للبطولة أروع أناشيدها. إنهم لا يستطيعون أن يصدقوا، فهرعوا (يثبتون) إلى تلك القصور التي ارتضاها لسكناه المجد، واختارها الفن، وأقام فيها النبل. فلما بلغوا أسوارها لاحت لهم من بعيد كأنها لا تزال عامرة بالملك الهمام. فلما اقتربوا منها لم يصافح أسماعهم صوت شاعر بنشيد ولا قائد بنداء، ولم تأخذ أبصارهم علماً يخفق، ولا راية ترفرف، ثم بدت لهم الرياض وقد جف نبتها وصوح زهرها، والدور قد هدمت جدرانها وهدت أركانها، وإذا القصر الذي كان يعبق بريا القرنفل وشذا الفل تفوح منه روائح الموت، وإذا تلك الغرف والمقاصير التي كانت تسطع فيها الأضواء فترقص أشعتها على العمد المزخرف والأساطين المنقوشة؛ قد محي نقشها وطمس زخرفها وعشش فيها البلى. . . هنالك علموا أنها قد وقعت الواقعة وكان ما قدر الله أن يكون:
عرينة دخلتها النائبات على ... أسود لهم فيها وآساد
وكعبة كانت الآمال تعمرها ... فاليوم لا عاكف فيها ولا بادي
فمن المعفاة تعمهم جدواه؟ من للجيران تحميهم بواتره وتحييهم عطاياه؟ من للفرسان الغطاريف يقودهم إلى النصر حين يخفي على الدليل سبيل النصر؟
لقد ذهب من كان لهم. . . فيا مَنْ يقصد الملك الشاعر، إنه لم يبق هنا ملك، أنها قد خلت منه داره، وبعد مزاره:
يا ضيف، أقفر بيت المكرمات فخذ ... في ضم رحلك واجمع فضلة الزاد
ويا مؤمل واديهم ليسكنه ... خف القطين وجف الزرع في الوادي وأنت يا فارس الخيل التي جعلت ... تختال في عدد منها وإعداد
ألقِِ السلاح وخلّ المشرفي فقد ... أصبحت في لهوات الضيغم العادي
ضلت سبيل الندى يا ابن السبيل فسر ... لغير قصد فما يهديك من هادي
كذلك ذهب الملك الشاعر البطل الذي كان في ملوكيته وفنه ونبله، تمثالا للإنسان الذي كانت تتمنى كل حامل في الأندلس أن تلده، وكل ناشئ متطلع إلى العلا أن يكونه.
الملك: الذي كان زمانه كله فجراً رخيٌّا ناعماً، وأيامه كلها ربيعاً بهياً باسماً
الشاعر: الذي كان شعره لحن كل قلب مدلَّه بالجمال، مفتون بالفن
البطل: الذي بنى لقومه مفاخر في السناء ومآثر. وكذلك ألقى الستار (بين عشية وضحاها) على ملحمة فخمة فيها أجمل شاهد الهوى والشباب والبطولة والظفر والسماحة والكرم والشعر والطرب والغنى والترف، ورفع عن مأساة من أفجع المآسي التي (عرضت) على مسرح الكون
علي الطنطاوي