مجلة الرسالة/العدد 646/من خواطر جحا:
مجلة الرسالة/العدد 646/من خواطر جحا:
معلم النباح
على هامش وعد بلفور
للأستاذ كامل كيلاني
(مهداة إلى الذين علموا أصحاب المبكي، فنون النباح، فراحوا
يخلطون العواء بالنواح. وكانوا أول من تنكر لناصره
ومؤيده، ونبح في وجه معلمه ومرشده.)
ننقل القصة التالية عن المقدمة النفسية التي افتتح بها (أبو الغصن جحا) خواطره التي أهداها إلى ولديه (جحوان) و (جحية) وقد ضمها مخطوط حجري نفيس، لعله مكتوب بخط رجل من أصحاب جحا أو بخط أحد معاصريه، وما أجدر أن يعتبر بهذه القصة من يرسمون لغيرهم طرائق الاعتداء ومناهج الجور، ويطول هتافهم وتصفيقهم لها، وإطراقهم وإعجابهم بها، متى وافقت أهدافهم، وأعانتهم على قضاء لباناتهم، حتى إذا عارضت أهواءهم، واصطدمت بأنانيتهم، ضاقوا بتلك الطرائق ذرعاً ولاقوا من هذه المناهج أشد الويلات.
قال أبو الغصن عبد الله دجين بن ثابت الملقب بجحا رحمة الله: قاتل الله الأثرة والأنانية - يا ولديَّ العزيزين - فإنهما تضلان الذكي، وتلغيان عقله الراجح، وتفسدان عليه منطقة السديد، فلا يلبث أن يعميه الهوى، وبنسبة الغرض ما هو خليق به من القصد والاتزان! وما أخلق الرجل العاقل بأن يعرف أن اكثر ما يشير يه من الرأي إنما هو سلاح ذو حدين: أحدهما له والآخر عليه. ولا يجوز لمنصف بعد أن يتخير الرأي ويرتضيه أن يقبل منه ما هو له ويأبى منه ما هو عليه. وما أولاه أن يروض نفسه على احتمال عواقب مشورته، فلا يوجه إلى غيره بعد أن يسر له سبيل الشر والأذية.
أقول هذا لكما بعد أن قص على بعض جيراني في هذا الصباح قصته شاكياً باكياً مرارته تتميز من الغيظ، وهو يلعن أنانية صاحبه، بعد أن رسم له طريقها، ونهج له خطتها، وزي تطبيقها وتحقيقها.
وفد عليَّ صاحبي (أبو عامر) عابس الوجه متجهماً فسألته: (ما خطبه)
فقال: (أتذكر صاحبنا يا إسحاق؟)
قلت: أتعني (رأس الوزة؟)
قال: (ما عنيت غيره، يا أبا الغصن!)
قلت: (فليس في بلدنا أحد يجهله أو يجهل ما نزل به من كوارث وأحداث! لطف الله يا أبا عامر! لقد سمعت انه اختلط)
فقال: (هذا كلام يذاع ويملأ الأسماع، وإن بعد عن الحقيقة كله، إن رأس الوزة لم يختلط؛ ولكنه رأى في جنونه مهربا له من ديونه، فلاذ به، وتشبث بأذياله؛ ولم تلبث حيلته أن جازت على كل من رآه. وليس هذا بمستكثر على مثله، فهو آية من آيات الخداع والغدر والعقوق!).
قلت: (ما علمت عليه من سوء! فماذا بدر منه حتى ساء رأيك فيه، وقسا حكمك عليه؟).
قال: (لقد أرهقته ديونه، وألح عليه دائنوه، فلم يجد له وسيلة غير الاختباء في منزله ليهرب من الحاف غرمائه، وينجو من مضايقة دائنيه).
وكنت قد سلفته - فيمن سلفه - دينا يسيرا.
ورأيت إمعانه في الاحتجاب، فما زلت أحتال عليه، حتى وصلت إليه.
ولم يكد يراني حتى تجهم محياه، وظهرت الحيرة والارتباك على سيماه، فهونت عليه الأمر، وما زلت به حتى سكن روعه، وسرى عنه.
وما عتم أن راجعه أنسه وبشاشته حين عرضت عليه وسيلة للخلاص من دينه ودائنيه والفكاك من أسره، على أن يرد لي - إذا نجحت الخطة - ما أسلفته إليه من دين.
فهلل بشراً وقال: (لك على عهد وميثاق إن أظفرتني بذلك لأردنّ إليك ضعف دينك، ثم لا أنسين لك صنيعك ما حييت).
فقلت له: (افتح دارك - غداً أو بعد غدٍ، إن شئت - والبس أفخر ثيابك - وهيئ في ساحة الدار أفخر مجلس تستطيع أن تهيئه لاستقبال عارفيك - دائنين وغير دائنين - ثم اجلس متكئاً على أريكة تعدها في صدر مجلسك. وتظاهر بالجد والوقار.
فإذا مر بك أحد فلا تلتفت إليه ولا تلق له بالا. فإذا حياك فلا تجب تحيته بغير النباح. فإذا أظهر لك دهشته فانبح ثانية وثالثة، فإذا تمادى في الالحاح، تماديت في النباح.
ثم اتخذ من النباح شعاراً لك بعد ذلك، فلا يجب بغيره كل من حياك، ولو كان أخلص عارفيك وأصدق محبيك وأقرب المقربين إليك من ولدك وأهلك. انبح ولا تكف عن النباح، واعو ولا تقصر في العواء، حتى يضجروا بك فيرفعوا أمرك إلى والي المدينة.
فإذا مثلت بين يديه فاعتصم بالصمت، فإذا سألك عن جلية أمرك لم تُحر من جواب إلا تملأ أذنيه عواء. وحذار أن تغير من ذلك شيئاً أو تبدله حتى يقر في نفس الوالي أنك - فيما تأتيه - غير متصنع ولا متكلف.
فإذا اقتنع أن طائفاً من الجنون قد ألم بك، لم يجد فائدة من حوارك، فيدفعه اليأس منك إلى إطلاق سراحك، ورد حريتك إليك، وإعفائك مما عليك من دين!
أتعرف يا أبا الغصن كيف استقبل (رأس الوزة) هذه النصيحة الغالية؟ لقد فاضت نفسه - حين سمعها - عرفاناً بالجميل. ولهج لسانه بأبلغ عبارات الثناء والشكر على ما يسر له من أسباب النجاة من ورطته، والخلاص من كربته. فلما جاء الغد نفذ الخطة وفق ما رسمها له في براعة وحذق!
قدم عليه زائر من جيرانه، فلم يكد يراه جالساً حتى أقراء السلام، فكان رده عليه نباحاً. وأقبل ثان وثالث ورابع، فلم يلقوا منه غير ما لقيه أول القادمين عليه.
ولم يمض زمن يسير حتى ذاعت قصته في المدينة، فأقبل عليه دائنوه يتقاضوه ديونه، فلم يلقوا إلا عاوياً. وراحوا يعنفون به تارة، ويلينون له تارة أخرى، ثم يسرفون في وعيدهم حيناً، وفي تلطفهم أحياناً، فلم تجد في رده عن عوائه حيله ولا وسيلة.
فلما يئسوا منه، ذهبوا به إلى الوالي، فسأله عن قصته، فنبحه. فزجره وتوعده، فوجده يسترسل في النباح. وما زال بالوالي حتى اضجره؛ فأمر بزجه في السجن، ووكل به من يراقبه عدة أيام ليخبر أمره، ويجلو سره، فلم يظفر منه مراقبوه بشيء غير ما تواصل من نباحه.
فأمر الوالي بإطلاق سراحه بعد أن ثبت له بعض العيون والأرصاد يكمنون في غدواته وروحاته، ليروا ما يصير إليه شأنه.
فظلوا يتبعون ظله أياماً، فلم يتحول عن حاله فتيلا. فأيقن الوالي حينئذ انه لا بد قد أصابه لمَمٌ، وأدركه من الخبال طرف.
فلم ير له حيلة فيه، فقضى بإسقاط ديونه، وأمر دائنيه بالإقلاع عن مطالبته بما لهم قبلهُ من الحقوق.
وهكذا خلص (رأس الوزة) مما ركبه من دين. وتبدل خوفه أمناً، وفزعه طمأنينة، وأصبح يغدو ويروح حيث شاء، دون أن يزعجه دائن أو ينغص عليه صفو عيشه غريم
أتعرف كيف جزائي على هذا الصنيع يا أبا الغصن؟
فقلت له مبتسماً ساخراً وقد امتلأت نفسي زراية له ونفوراً منه: (لا شك عندي في انه سار على النهج القديم الذي رسمته له في اغتيال حقوق الناس، فنبح في وجهك كما نبح في وجوه دائنيه، ثم في وجه واليه).
قال: (أبو عامر)
ما أبدع ذكاءك وأنفذ فطنتك يا أبا الغصن: لقد جئته بعد أن هدأ باله وقر قراره أذكر عهده، واستنجزه وعده، فما زاد على النباح. فدهشت من جرأته، وتملكتني الحيرة من صفاقته.
وقلت له: (لك أن تمثل هذا الدور مع كل إنسان إلا معي، وأنا واضع خطته، ومُبدع قصته. فتكلم ويحك!).
فأبى إلا عواء يتلو عواء، وكلما تماديت في محادثة تمادى في عوائه، حتى نفذت حيلتي، ودب اليأس إلى قلبي، فغادرته محزون القلب مهيض الجناح.
ورجعت إلى داري أفكر فيما انطوت عليه نفوس الناس من غدر ولؤم وفساد، بعد أن رأيت من صاحبي ما لم يكن ليخطر على بال، من فنون العقوق، وسلب الحقوق.
ولكن خبرني بربك - يا أبا الغصن - كيف تبينت خاتمة القصة قبل أن أفضي بها إليك؟).
فقلت له: (إن عجبي منك - لا منه - شديد. فليس عليه - فيما صنع - غبار: لقد رسمت له الطريقة واضحة جلية، فسلكها مهتدياً بهديك، فما تنكبها ولا حاد عنها. فمن تلوم؟ ومم تشكو؟ ألم تعلمه كيف تغتال حقوق الناس؟ وهل أنت إلا واحد من الناس؟ فكيف تريده على ألا يغتال حقك فيما يغتال؟ ما أجدرك - يا صاحبي - أن تشكر لهذا الرجل أمانته في الانتصار لرأيك، والتحمس لخطتك، والانتفاع بتدبيرك ومشورتك. لقد لقنته درساً في الأثرة والأنانية فحفظه عنك ولم ينسه لك.
وسننت له سنة من سنين العقوق والغدر، فاقتفى آثارك، وارتضى سيرتك. ولو حسنت لو الوفاء، ورسمت له طريقه لوفي لك دينك فيما وفي الناس.
ثم خبرني بربك - يا أبا عامر - أتراك كنت شاكياً غدره وتفريطه في رد الأمانات إلى أهلها لو انه وفَي لك دينك وحدك، ثم اغتال ديون غيرك؟
أرأيت - يا صاحبي - لو سمعت أن رجلاً هدى الذئب إلى طريق الغنم بعد أن أخذ عليه شاه من عهود ومواثيق أن يعفي شاته من بينها جميعاً، أتراه كان فاعلاً؟
لقد علمته العواء فعوى، وأرشدته إلى طريق الغواية فغوى!؟
واستباح من الحقوق ما استباح، بفضل ما علمته من فنون العواء والنباح.
وليس هذا أول من نبح، فكسب بنباحه وربح. وكم من الناس آثروا أن يبلغوا أهدافهم بالهراء، ويتسنموا المجد بقولٍ جفاء. فتصنعوا الجنون ليصبحوا أعزة، بعد أن أعوزهم أن يظفروا في ظلال العقل بالكرامة والعزة، كما فعل صاحبك (رأس الوزة).
فلترض يا صاحبي بهذا الجزاء العادل، فما ظلم (رأس الوزة) ولا غبن، ولكنك ظلمت نفسك بتلك المشورة فيمن ظلمت الناس، فلا تجزعن من سنة سننتها، وخطة نهجتها، ولك أسوة سيئة في شبيهك الذي وصفه الشاعر حين قال:
وكنت إماما للعشيرة، تنتهي ... إليك، إذا ضاقت - بأمر - صدورها
فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها، ... فأول راض سنة من يسيرها
عبد الله جحا
وفق الأصل
كامل كيلاني