مجلة الرسالة/العدد 646/قصة بنى إسرائيل
مجلة الرسالة/العدد 646/قصة بنى إسرائيل
في القران الكريم
للأستاذ علي محمد حسن
(مهداة إلى يهود القرن العشرين الذين يريدون دخول فلسطين
بالقوة بمناسبة وعد بلفور).
أشرت في عدد سابق من الرسالة إلى بعض مواقف بني إسرائيل مع نبيهم القوي الأمين موسى بن عمران، وعطفت بإشارة أخرى إلى بعض مواقف أجدادنا العرب في نصرة دينهم، وميلت بين الشعبين ووزنت أقدار أولئك بأقدار هؤلاء فشالت كفت الإسرائيلين وخفت موازينهم.
واليوم أهدي إليهم قصة آباهم مفصلة بعض التفصيل، ولست أتجنى عليهم ولا أتزيد فإن الحقائق نفسها أعجب من سبحات الخيال. وسأكتفي - ما استطعت - بما جاء في كتاب الله الحكيم الذي جاء مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا خلفه.
ولقد عني القران بأخبار الأمم السابقة لمكان العبرة فيها وموضع العظة (لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب، ما كان حديثاً يفتري ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) ولكنه عنى عناية خاصة بأعاجيب بنى إسرائيل ليهون على النبي ﷺ ما يلقاه من يهود المدينة فهم - كآبائهم - أهل غدر وخيانة، وطالما نكثوا عهودهم (الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون) وليهددهم إذا استمرأوا هذا المرعى الوبئ واستعذبوا هذا الورد الآسن من الغدر والكيد والخيانة بأن مصيرهم كمصائر آبائهم، كما حذر الله النبي والمؤمنين منهم (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا) ولقد صدق الله فبأيديهم فتح باب الشر على المسلمين. فتحه عبد الله بن سبأ فنقذ منه الناس إلى قتل عثمان بن عفان رضى الله عنه، ومنذ ذلك الحين ومعاول الفتن تهدم في دعائم السياسة الإسلامية، وبسوء دخائلهم اختلطت الخرافات والأساطير بالتراث الإسلامي فكدرت منهله الصافي، وغبرت منهاجه الواضح، ونالت من حقائقه السامية. واليوم يتجلى لنا مصداق هذه الآية، فنراهم مصدر قلاقل للعرب عامة وللمسلمين خاصة وإنا لعلى يقين أنه سيصدق فيهم قول الله عز وجل (وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب).
والعجب - بل ليس بعجيب لان الأمم بأخلاقها - أن بني إسرائيل أعيوا جميع أنبيائهم، حتى بلغ من كفرهم أن قتلوا بعضهم (ويقتلون النبيين بغير الحق). شكا منهم موسى (رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين) وشكا منهم هرون (إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني). وشكا منهم داود وزكريا ويحيى؛ وأخيراً يسميهم الله بهاتين الآيتين ويصمهم بهما (لعن اللذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم، وذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوا، لبئس ما كانوا يفعلون) ثم كانوا شوكة في جنب الدعوة الإسلامية، فحاولوا أن يطفوا نور الله بأفواههم، ولكن الله الذي يعلم خبث نفوسهم عاجلهم بالعقوبة (هو الذي اخرج اللذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتهم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فآتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف من قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين).
نزل يعقوب وهو إسرائيل مصر في زمن ابنه يوسف عليه السلام وأعقب بنين أثنى عشر كانوا فيما بعد فرقاً سماهم القران أسباطاً وتكرر ذكرهم فيه، وظلوا ينعمون بخيرات مصر وأرزاقها زمناً طويلاً حتى جاء (رعمسيس الثاني) فاضطهدهم وعاداهم عداء شديداً وجعل يقتل أبنائهم، وأراد الله أن يسبغ عليهم نعمه فنجاهم واهلك عدوهم و (دللهم وأعطاهم حكم الصبي على أهله فأتاهم بالعجائب وفعل بالأمم الظالمة لهم الأفاعيل، واحتمل صلفهم وطغيانهم ولم يترك وسيلة من وسائل استرضائهم إلا فعلها وهم لا يزيدون إلا عناداً ومخالفة عن أمره). جاء موسى إلى فرعون يدعوه إلى الله وحده لا شريك له ويستوهبه بنى إسرائيل، ولكنه طغى واستكبر وقال أنا ربكم الأعلى، فأوحى الله إلى موسى أن أسر بعبادي فرأوا فرعون يتبعهم، فالقوا إنا لمدركون. وقال كلا إن معي ربي سيهدين. وفرق بينهم البحر الأحمر وعبروا فأتبعهم فرعون وجنوده بغياً وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي أمنت به بنو إسرائيل (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم. وإذ فرقنا بكم البحر فنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وانتم تنظرون). وكانت هذه نعمة عظيمة لو أنفقوا أعمارهم ساجدين لله شكراً ما وفوها حقها، لكن نفوسهم الخبيثة أبت إلا أن تستعلن فما كادوا يعبرون البحر حتى نسوا ما كانوا فيه وجحدوا نعمة الله عليهم وطلبوا إلها غير الله يعبدونه (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة) وعجبت لموسى أن يكون معهم هذه المرة لطيفاً هادئاً وأن يجادلهم بالمنطق ويدعوهم بالتي هي أحسن (قال أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم على العالمين) وسكنوا إلى حين وخضعوا على دخن، فلما سنحت لهم الفرصة نهزوها فما كاد موسى يذهب لمناجاة ربه حتى صنعوا من حليهم عجلا يعبدون، وعبثاً حاول هرون أن يردهم قال (يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فأتعبوني وأطيعوا أمري. قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى). (ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً قال بئسما خلفتموني من بعدي، أعجلتم أمر ربكم، وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجروا إليه، قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني، فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين).
وهنا نرى عجيبة من أكبر عجائبهم، وذلك أن موسى نخلهم واختار منهم سبعين رجلاً ليتوبوا إلى الله من عبادة العجل، وكان الظن بهم أن يكونوا بررة أطهاراً، ولشد ما دهش موسى حينما قالوا له (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) فندد بهم القرآن، وجعلها مخزاة في أعقابهم (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة) ووبخ للعرب لما حاولوا يعنتوا مع النبي (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل، ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ظل سواء السبيل) ثم أخذ موسى يشرح لهم ما في الألواح ويعرض عليهم شريعته، ولكن رأى من كفرهم وعنادهم ما جعل الله تعالى يريهم آية من آية (وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون). وكان من شأنه بعد ذلك ما ذكرته في (الرسالة) سابقاً من دعوة موسى لهم إلى دخول الأرض المقدسة ونكولهم عنها وخوفهم من سكانها فحرمت عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض. وهناك في التيه انزل الله عليهم المن والسلوى وظلل عليهم الغمام ولكنهم يئسوا من هذه النعم وملوها وقالوا يا موسى (لن يصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها). ومات هرون في التيه ومات موسى ومات جيلهم القديم فلم يكن من الناشئة إلا كما كان من آبائهم؛ أمروا أن يدخلوا (أريحاء) فدخلوها ولكنهم بدلوا قولاً غير الذي قيل لهم.
ولعل من أولى مواقف بنى إسرائيل بان نهديه إلى يهود اليوم ما كان منهم مع نبيهم صموئيل (ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لهم لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله، قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا؛ قالوا أو ما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا؟ فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم والله عليهم بالظالمين). ولو ذهبنا نتتبع جميع مساوئهم لطال بنا القول فنجتزئ بهذا القدر ففيه بلاغ. ولكن يبدو هنا سؤال وهو إذا كان بنو إسرائيل بهذه الأخلاق فكيف اختارهم الله؟ والجواب عند سيدنا موسى على ما ذكرته التوارة: لا تظنوا أن الله سيأتي بكم إلى الأرض المقدسة بسبب قداستكم وطهارتكم وأنكم أفضل الناس في طاعته. كلا. فإنه إنما يطرد الأمم أمامكم لرداءتهم ورجسهم العظيمين.
علي محمد حسن
المدرس بمعهد القاهرة