انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 645/من محاسن التشريع الإسلامي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 645/من محاسن التشريع الإسلامي

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 11 - 1945



المساواة في التكليف والأحكام

للأستاذ حسن أحمد الخطيب

- 3 -

أحكام الشريعة الإسلامية، وتكاليفها مبينة على مبدأ المساواة، كلف بها الأفراد والجماعات بلا تمييز: فأحكامه، وعقوباته، وحدوده لا يستثني منها غني واسع الثراء، ولا أمير عريض الجاه، ولا خليفة تدين له الخلائق بالطاعة والأمتثال، فالمسلمون كلهم متساوون في الحقوق والواجبات، وفي التكليف والأحكام والقوانين، لا فرق بين عربي وعجمي، ولا بين أبيض وأسود، ولا بين حاكم ومحكوم، تقرر هذا المبدأ من يوم أن بزغت شمس الإسلام، وسطع النور المحمدي، منذ نيف وثلاثة عشر قرناً ونصف

وهنا تغلبنا الدلائل والشواهد كثرة، لذلك سنجتزئ بذكر بعضها فنقول:

1 - من أصول التشريع الإسلامي - وهو من مميزاته كذلك - اعتبار النصوص الشرعية موجهة إلى الأمة كلها، ما لم يدل دليل على الخصوصية، ومن قواعد أصول الفقه عدم الخصوصية في الأحكام التكليفية.

2 - صاحب الشريعة صلوات الله وسلامه عليه وضع هذا الأصل، وأقره عملا وقولا، ودعا أمته إلى الأخذ به وعدم التهاون فيه فقد روى أنه عليه الصلاة والسلام دعا الأعرابي الذي خدشه غير متعمد، فقال له: اقتص مني، فقال الأعرابي: قد أحللتك بأبي أنت وأمي، ما كنت لأفعل ذلك أبداً، ولو أتيت على نفسي، فدعا له بخير.

وفي خطبته في حجة الوداع عرض لبعض ما كان يقترف في الجاهلية، فحكم بأنه موضوع بالنسبة لجميع المسلمين، وخص بالذكر ذوي القربى لإدخالهم في الحكم الذي يؤخذ به الجميع، حتى لا يتوهم أن لهم مزية على من سواهم، فقال : (وإن ربا الجاهلية موضوع، وإن أول ربا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب، وإن دماء الجاهلية موضوعة، وأن أول دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب)، وخرج مرة في مرض موته، فكان مما كلم به الناس قوله: (أيها الناس، من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد مني، ومن كنت شتمت له عرضاً، فهذا عرضي فليستقد منه، ومن أخذت له مالا، فهذا مالي فليأخذ منه، ولا يخش الشحناء، فهي ليست من شأني).

ومن ذلك أن الربيع بنت النضير لطمت جارية فكسرت ثنيتها، فطلب أهل الجارية القصاص. فأمر رسول الله به، فجاء أخو الربيعّ أنس بن النضر، وكان من خاصة الصحابة، فقال: يا رسول اللَّه: لا والذي بعثك بالحق، لا تكسر ثنية الربيع، فقال الرسول: كتاب الَّله القصاص، فلم يزل أنس يقول لرسول الَّله حتى جاء أهل الجارية راضين بدفع الأرش، فقضى رسول الله به

كذلك نسوق إليك قضية، هي أروع ما يذكر في هذا الباب: قضية المرأة المخزومية التي سرقت حليا في زمن رسول الله، وكانت من بيت مجادة وشرف، فلما أراد الرسول إقامة الحد عليها عظم ذلك على المهاجرين، وقالوا من يشفع لها عند رسول الَّله؟ فقالوا من يشفع إلا أسامة بن زيد حِبْ رسول الَّله، فتكلم أسامة مع الرسول، فغضب وقال له: أتشفع في حد من حدود الله؟! ثم قال: إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).

(ج) حدثنا التاريخ أن محمد بن عمر بن العاص زمن ولاية أبيه على مصر - كان يجري الخيل، فنازعه أحد المصريين السبق، فغضب، ووثب على المصري يضربه بالسوط ويقول له: خذها، وأنا ابن الأكرمين، فقدم المصري إلى الخليفة عمر يشكو، قال أنس بن مالك روى القصة: فوالله ما زاد عمر على أن قال له: اجلس. . . ومضت فترة، إذا به في خلالها قد استقدم عمراً وابنه، فقدما ومثلا في مجلس القصاص، فنادى عمر: أين المصري؟ دونك الدرة، فاضرب بها ابن الأكرمين، فضربه حتى أثخنه، ونحن نشتهي أن يضربه، فلم ينزع حتى أحببنا أن ينزع من كثرة ما ضربه، وعمر يقول: أضرب ابن الأكرمين، ثم قال: أجلها على صلعة عمر، فوالله ما ضربك ابنه إلا بفضل سلطانه. . . قال عمروفزعاً: يا أمير المؤمنين، قد استوفيت واشتفيت؛ وقال المصري معتذراً: يا أمير المؤمنين، قد ضربت من ضربني. . . فقال عمر: أما والله لو ضربته ما حلنا بينك وبينه، حتى تكون أنت الذي تدعه، والتفت إلى عمر ومغضباً، وقال له تلك الكلمة الخالدة: (يا عمر، متى تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟).

(د) كذلك حدثنا أن جبلة بن الأيهم آخر ملوك غسان حج بعد إسلامه، فبينا هو يطوف بالبيت يجر ثوبه - وطئ رجل من فزارة ثوبه، فلطمه جبلة فهشم أنفه، وكسر ثناياه، فأستعدى الفزاري عليه عمر بن الخطاب، فقال له عمر: إما أن يعفو عنك الفزاري، وأما أن يقتص منك. فقال جبلة: أيقتص مني وأنا ملك وهو سوقة؟ قال عمر: قد شملك وإياه الإسلام، فما تفضله إلا بالعافية والتقوى. قال جبلة: ما كنت أطن إلا أن أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية؛ قال عمر: دع عنك هذا. فلما رأى جبلة حرص عمر على القصاص، قال: أنظر في أمري الليلة؛ ورحل بليل بخيله ورواحله ولحق بالشام، ثم بالقسطنطينية فتنصر وبقي عند قيصر، ومما يعزى إليه قوله في ذلك سادما:

تنصرت الأشراف من أجل لطمة ... وما كان فيها لو صبرت لها ضرر

تَكَنَّفني فيها لجاج ونخوة ... وبعت لها العين الصحيحة بالعور

فيا ليت أمي لم تلدني وليتني ... رجعت إلى القول الذي قاله عمر

ولا يخل بمبدأ المساواة تخلفها في بعض حالات قليلة محصورة لوجود مانع جبلي أو شرعي، ولحكم ومصالح تقتضي ذلك - على ما هو مبين في موضعه من كتب الفروع كعدم مساواة المرأة للرجل في استحقاق النفقة عليها، وعدم مساواته لها في حسانه الأولاد، وعدم مساواة المرأة للرجل في تعدد الأزواج وفي مقدار ما يورث.

بهذا المبدأ العظيم عزت نفوس المسلمين في صدر الإسلام، وسمت هممهم، وعظمت أخلاقهم، وبرزت فيهم قوة الشخصية والمواهب، ونجم فيهم رجال قادوا الأمة الإسلامية إلى أوج المجد والرفعة، وساسوا العالم كله بالقسط والمعدلة، والرفق والمرحمة، وتلك هي روح الإسلام التي بها دخل الناس في دين الله أفواجا، وكانوا له حماة وأنصار: (يا أيها الناس، إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير).

(يتبع)

حسن أحمد الخطيب