انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 641/الحكاية الازلية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 641/الحكاية الازلية

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 10 - 1945



للأستاذ ايليا أبو ماضي

(أخرج الأستاذ نجدة فتحي صفوة مدرس اللغة العربية بكلية بغداد، الحلقة الأولى من سلسلة الشعر. المعاصرين التي اعتزم صياغتها، وهي كتاب لطيف الحجم في (ايليا أبو ماضي والحركة الأدبية في المهجر) آلم فيه المامة بليغة، حسنة بأدب إخواننا العرب المهاجرين إلى أمريكا، ونوه بمزاياه وخصائصه، ثم دل على مكانة أبي ماضي منه، وذكر طرفاً من حياة الشاعر وطرفاً من أدبه في أسلوب بليغ وعرض مشوق. وقد ختمه بهذه القصيدة الجديدة لأبي ماضي، كما افتتحه بمقدمة نفيسة للأستاذ رفائيل بطي عميد الصحافة العراقية في وجوب العناية بتراجم المعاصرين وتجيل أخبارهم وآثارهم. والكتاب والمقدمة من خير النماذج لأدب العراق الحديث.

توطئة

كان زمان، لم يزل كائنا ... وحالة، ما برحت باقيه

مل بنو الإنسان أطوارهم ... وبرموا بالسقم والعافيه

فاستصرخوا خالقهم واشتهوا ... لو أنه كونهم ثانيه

وبلغت أصواتهم عرشه ... في ليلة مقمرة صافيه

فقال: أني فاعل ما اشتهوا ... لعل فيه حكمة خافيه

وشاهدوه هابطاً من علٍ ... فاحتشدوا في السهل والرابيه

من القوى الكئيبة العارية ... والمدن الضاحكة الزاهية

تألبوا من كل صوب كما ... تجتمع الأمطار في الساقيه

يسابق الصعلوك رب الغني ... والأبله الباقعة الداهيه

ويدفع الشيخ التوى عوده ... وصار مثل الرمة الباليه

فتى مضى الفجر ولما تزل ... روعته في وجهه باقيه

وتزحم الحسناء ممكورة ... خلابة كالروضة الحاليه

دميمة تشبه في قبحها ... مدينة مهجورة عافيه

فقال رب العرش: ما خطبكم، ... ما بالكم صرخاتكم عاليه؟ هل أصبحت أرضكم عاقرا ... أم غارت الأنجم في هاويه؟

أم اقلع الماء فلا جدول ... وماتت الطير فلا شاديه؟

أم فقدت أعينكم نورها ... أم غشيت أرواحكم غاشيه؟

أين الهوى، أن لم يكن قد قضى ... فكل جرح واجد آسيه

الفتى

قال الفتى: يا رب إن الصبا ... مصدر أحزاني وآلامي

البستنيه مونقاً بعدما ... أبلاه أخوالي وأعمامي

وصار في مذهبهم عصره ... فترة زلات وآثام

فاختلفت حالي وحالاتهم ... كأنني في غير أقوامي

وصرت كالجدول في فدفد ... أو شاعر ما بين أصنام

والأخضر المورق في يابس ... أو مثل صاح بين نوام

دنياهم دنياي. . . لكنما ... أعلامهم ليس كأعلامي

عندهم الروضة أشجارها ... والروض عندي الزاهر النامي

والطير لحم ودم عندهم ... وليس عندي غير أنغام

سكري بها أو بالندى والشذي ... وسكرهم بالخمر في الجام

يسخر قلبي بلياليهم ... ويسخر الدهر بأيامي

كأنني جئت لتبكيتهم ... كأنما جاءوا لإيلامي

عبء على نفسي هذا الصبا ... الجائض المستوفز الطامي

يزرع حولي زهرات المنى ... وشوكها في قلبي الدامي

فان. . . له في كل فان هوى ... فان. . . ولا ينجو من الذام

خذه. . . وخذ قلبي وأحلامه ... فإنني أشقى بأحلامي

ومر يمر الدهر في لحظة ... كالطيف. . . أو كالبرق قدامي

وأزرع نجوم الشيب في لمتي ... فينجلي حندس أوهامي

وأبصر الحكمة في ضوئها ... إني إليها جائع ظامي

الشيخ وجاء شيخ حائر واجف ... مشتعل اللمة بالي الإهاب

كأنما زلزلة تحته ... لما به من رعشة واضطراب

فصاح: يا رباه خذ حكمتي ... واردد على عبدك عصر الشباب

إن أماني الروح أزهارها ... وإن روحي اليوم قفر يباب

لا جدول لا بلبل منشد ... بلى بها الوحشة والاكتئاب

تلك الأمانيُّ. . . على كذبها ... لم تكن اللذة فيها كذاب

زالت وما زلت. . . وإن الشقا ... أن تطمس الآي ويبقى الكتاب

وتسلب السرحة أوراقها ... ولم تزل أعراقها في التراب

قيل لها في البحر كل المنى ... فلم تجد في البحر إلا الضباب

كنت غنياً في زمان الصبا ... وكنت صفر الكف صفر الوطاب

صحوت من جهلي فأبصرتني ... كأنني سفينة في العباب

نأت عن الشط ولم تقترب ... شبراً من السر الذي في الحجاب

ولو ترجى أوبة لا شتفت ... لكنما عز عليها الإياب

مرتقف الأيام عن سيرها ... فإنها تركض مثل السحاب

وضع أمامي لا ورائي المنى ... وطول الدرب وزد في الصعاب

ما لذتي بالماء أروي به ... بل لذتي في العد وخلف السراب

الحسناء

وقالت الحسناء: يا خالقي ... وهبتني الحسن فأشقيتني

وجهي سني مشرق إنما ... مرعى عيون الخلق وجهي السنى

حظي منه حظ ورد الربى ... من عطره الفواح والسوسن

ومثل حظ السرو من فيئه ... والطير من تغريدها المتقن

ومثل حظ النجم من نوره ... في الحندس المعتكر الأدجن

للقائل للفيء. . . وللسامع ... التغريد. . . والزهرة للمجتني

والنور لمدلج والمجتلي ... والدر للغائص والمجتني كم ريبة دبت إلى مضجعي ... مع الجمال الرائع الممكن

إن عشقت لنفسي فويل لها ... والويل لي إن رجل حبني

السم والشوك وجمر الغضا ... أهون من كاشحة الألسن

كم تقنفيني نظرات الحنا ... ويلي من خائنة الأعين

لم يبق في روحي من موضع ... يأرب لم يخدش ولم يطعن

إن الغنى في الوجه لي آفة ... فليت أني دمية ليتني

الجارية

وسكتت. . . فصاحت الجارية ... باكية من بؤسها شاكيه:

ذنبي إلى هذا الورى خلقتي ... فهل أنا المجرمة الجانية؟

إن أخطأ الخزاف في جبله الـ ... طين، فأي الذنب للآنيه؟

أليس من يسخر بي يزدري ... بالقوة الموجدة الباريه؟

لو كنت حسناء بلغت العلى ... فللجمال الرتبة العاليه

وبات من أسجد قدامه ... صاغرة يسجد قداميه

فإنني في ملأ ظالم ... أحكامه جائرة قاسيه

ليس لذات القبح من غافر ... وفيه من يغفر للزانيه. . .

نفسي جزء منك يا خالقي ... وإنها عاقلة راقية

أليس ظلما وهي بنت العلى ... أن تك بالقبح إذن كاسيه؟

فليكن الحسن رداء لها ... ترفل به أو فلتكن عارية

الصعلوك

وأقبل الصعلوك مسترحما ... في مقلتيه شبح اليأس

يصرخ يا رباه حتى متى ... تحكم الموسن في نفسي

وتضع التاج على رأسه ... وتضع الشوك على رأسي

ويشرب اللذات من كأسه ... وأجرع الغصات - من كأسي

وتنجلي النجوم في ليله ... ضاحكة كالغيد في عرس ويتواري في نهاري السنا ... أو يتبدى خالق الشمس

يا رب لا تنقله عن أنسه ... ولكن انقلني إلى الأنس

فإن تشأ ألا يذوق الهنا ... قلبي فجردني من الحس

لو لم يكن غيري في غبطة ... ما شعرت روحي بالبؤس

الغني

وقال ذو الثروة: ما أشتهي ... لا أشتهي أني ذو ثروة

أنفقت أيامي على جمعها ... وخلتني أدركت أمنيتي

فاستعبدتني في زمان الصبا ... وأوقرت بالهم شيخوختي

قد ملكتني قبلما حزتها ... وملكتني وهي في حوزتي

كنحلة أمسكها شهدها ... من الجناحين فلم تفلت

حسبتها تكسبني قوة ... فافترست قوتها قوتي

جنت على نفسي وأحلامها ... جناية الشوك على الوردة

ينمو فتذوي فهي عليقة ... يحذرها الطائف بالروضة

من قائل عني لمن خالني ... امرح من دنياي في جنة

لا تنظر الأضواء في حجرتي ... وانظر إلى الظلماء في مهجتي

ولا يغرنك قصري فما ... قصري سوى سجن لحريتي

إني في الصرح الرفيع الذرى ... كطائر - في قفص - ميت

كم في عباب البحر من سابح ... قد مات ظمآن إلى قطرة

موت الطوى شر ولكنما ... أفظع منه الموت بالتخمة

إن سهر العاشق من لوعة ... أو سهر المحزون من كربة

فالشوق كالحزن له آخر ... وينقضي في آخر المدة

أما أنا فقلقي دائم ... ما دمت في مالي وفي فضتي

والخوف من كارثة لم تقع ... أمض من كارثة حلت

كم من فقير مر بي ضاحكا ... كأنما يسخر من غصتي

رأيته بالأمس من كوتي ... فخلتني أنظر من هوة وكنت كالحوت رأى موجة ... ضاحكة ترقص كالطفلة

أو حية تدب في منجم ... ترنو إلى فراشة حرة

قد اختفت ذاتي في بردتي ... فما يرى الخلق سوى بردتي

فهم إذا ما سلموا سلموا ... على خيوط البرد والجبة

رباه أطلق من عقال الغني ... روحي فإني منه في محنتي

وانزع مع الدينار من قبضتي ... صلابة الدينار من سحنتي

وحول المال إلى راحة ... وحول القصر إلى خيمة

الأبله

وصرخ الأبله مستفسراً ... ما القصد من خلقي كذا والمراد؟

ألم يكن يكمل هذا الورى ... إلا إذا أوجدتني في فساد؟

لي صورة الناس وحاجاتهم ... من مطعم أو مشرب أو رقاد

لكن لبي غير ألبابهم ... فإنه مكتنف بالسواد

يعجزني إدراك ما أدركوا ... كأن عقلي فحمة أو رماد

إن كنت إنسانا فلم يا ترى ... لست بإدراكي كباقي العباد؟

أو لم أكن منهم فمرني أكن ... جرادة أو أرنبا أو جواد،

فالند لا يعدم من نده ... ذريعة للسلم أو للجهاد

لا تسخر النملة من نملة ... وليس يزري بالقراد القراد

أم أنت كالعقل على رغمه ... ينمو مع الحنطة فيه القتاد

الباقعة

وجاء بعد الأبله المستريب ... الألمعي العبقري اللبيب

فقال: إني تائه حائر ... أنا غريب في مكان غريب

أبحث عن نفسي فلا أهتدي ... وليس يهديني إليها أريب

أنا عليم حيث لا عالم ... أنا لبيب عند غير اللبيب

لو أنني كنت بلا فطنة ... سرت ولم تكثر أمامي الدروب وكان عقلي كعقول الورى ... وكان قلبي مثل باقي القلوب

وصار عندي كالنجوم الورى ... فلا عدو فيهم أو حبيب

ولم أجد في ضحكهم والبكا ... شيئاً سوى الضحك وغير النحيب

اسائل كوكباً طالعاً ... لماذا تبدو، ولماذا تغيب؟

ولم أقف في الروض عند الضحى ... يذهلني لون وشكل وطيب

ولم أقل ما كنت من قبلما ... كنت، ولا ما في سجل الغيوب،

ما العقل يا رب سوى محنة ... لولاه لم تكتب علي الذنوب

الخاتمة

لما وعى الله شكايا الورى ... قال لهم: كونوا كما تشتهون

فاستبشر الشيخ وسر الفتى ... والكاعب الحسناء والحيزبون

لكنهم لما اضمحل الدجى ... لم يجدوا غير الذي كانا

هم حددوا القبح فكان الجمال ... وعرفوا الخير فكانا الطلاح

وليس من نقص ولا من كمال ... فالشوك في التحقيق مثل الأقاح

وذرة الرمل ككل الجبال ... وكالذي عز الذي هانا

إيليا أبو ماضي