مجلة الرسالة/العدد 639/الفيلسوف أمين الريحاني
مجلة الرسالة/العدد 639/الفيلسوف أمين الريحاني
قولان له في البلاغة
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
أبعث إلى الفيلسوف الأستاذ أمين الريحاني بكتابي (كلمة في اللغة العربية)، وهو الخطبة التي خطبتها في (دار الرابطة الشرقية) في القاهرة في اليوم الأول من ذي القعدة سنة 1343، فتجيبني منه رسالة في يناير سنة 1926 (29 جمادي الآخرة سنة 1344) يقول فيها:
(سيدي الأستاذ إسعاف النشاشيبي (دام فضله)
وصلني كتابك (كلمة في اللغة العربية)، قرأت (الكلمة) كلها متنها وشرحها فخيل إلى وأنا في رياضها وأدغالها، وأغوارها وأنجادها، ودهنائها ومفاليها (اللفظة بدوية وأظنها صحيحة) أني أعيد السياحة في البلاد العربية. وما وجه الشبه؟ إن الجمال اللغوي جمالك لمثل الجمال البدوي، وإن الفخامة في ألفاظك لمثل الفخامة في صوت ابن البادية، وإن الروح في مقاصدك لمثل العظمة في خطواته. وكلها يا سيدي في الكتاب وفي البادية مثل الوجوه (حال يحول). نعم، إن هذا الأسلوب في الأدب مثل ذاك البدوي في الحياة، هو مظهر عجيب يسترعي الأنظار، فيدهش، ويطرب، ويحزن معاً. ولماذا؟ لأنه زائل. أحببت البدوي (والله)، وكنت معجباً به، ولكني لا أستطيع ولا أحب أن أكون مثله. وأحببت (كلمتك)، وكنت وأنا أطالعها معجباً بها. ولكني لا أستطيع، ولو أحببت، أن اكتب مثلها. لو كان لي أن أسوح في البلاد العربية بعد خمسين سنة لما عرفت، على ما أظن، صديقي البدوي وقد تحضر أو تمصر. ولا أظن أن هذا الأسلوب أسلوبك يكون مألوفاً أو معروفاً بعد خمسين سنة. والحكم للمستقبل، فقد يحكم علي وعليك معاً. ولكننا في غير الأسلوب متفقان. أني مكبر أدبك، محترم علمك، محبذ دعوتك للمحافظة على روح اللغة والصيغة العربية فيها. وأظن أني من المحافظين، رغم تجددي المخيف، إذا اتخذت من ابن الأثير، وهو اختيارك، مثالا أنسج عليه. ولكنك غاليت في حب القديم، غاليت يا رجل. . .
إذا كان المثل الأعلى الذي تنشده يقطع الحبل بيننا ف (هنريك ابسن ونيتشه) يصلانه ويوثقان العروة فيه.
والسلام عليك من (القابع) في داره، البعيد عن (شجرة البغي)
المخلص
أمين الريحاني
ثم نتجادل بعد رسالته هذه في شهر رمضان سنة 1344 في جريدة (الميزان)، وهي صحيفة أدبية كان الأديب النابغ الناقد الأستاذ أحمد شاكر الكرمي - رحمة الله عليه - بنشرها في دمشق:
(زين لشباب أبو فراس م لم يمتع بالشباب)
ولقد فقد الأدب بغيبة أحمد شاكر الكرمي خيراً كثيراً كان يرتجيه من ذاك النبوغ
أخبرني مدير مدرسة في مدينة الناصرة أنه سأل الأستاذ الريحاني حين مر بها عن سبب (المناظرة بينه وبين النشاشيبي)؟ فقال: (أردنا أن نعلم الناس كيف يتناظرون). ولهذا الجواب قصة أدع ذكرها اليوم، وفي الطبعة الأخيرة للريحانيات إرشادة إلى شئ منها. وهذه نتف مما قلته في الجدال:
(دع ذا، وجئ الآن إلى قول الأستاذ: إن الإنشاء فن، والإفراط في الكلف بالفن خسران. وإن اللغة ذريعة واتخاذ الذريعة المقصد المنشود - ضلال. وقل له بعد تحية ثانية:
الحق أن اللغة لم تلك إلا ذريعة، وما هي إلا ابنة لغة الذي هو اليوم أدنى من الإنسان (وإن لم يراد سن الإنسان أعلى منه) ولكن المرء قد تفنن في هذه الذريعة (كما تفنن في ذرائع الشر. . .) فجاء منها الفن: جاء الشعر، وجاء النثر، وجاءت تلك الصفحات العبقرية. وراح ذاك الفن يتهادى مع سائر اخوته من الفنون الفتانة. والرقص من هذى الفنون. وإن الرقص لفتنة، إن الرقص لفتنة، وقد أضاف الدين كاتب إفرنجي ملعون إلى تلك الفنون. .
فإن قلنا: إن من اللغة فناً وجب أن نحتفظ بذاك الفن، وأن نعنى به عنايتنا بغيره من الفنون، وأنه لأحق بالترحيب والاهتمام به من غيره. وإن كان فن الموسيقى أو المصور مما يهذب نشء الأمة فالنثر القرآني أعنى النثر العبقري والشعر العلوي أثرهما في تهذيبهم أكبر
وإن عددنا الفن (كما عده كاتب إفرنجي يوم هاجت سرقة تلك الصورة قومه) سخافة أو هذراً، ورحنا نقول مع الزمخشري: (الفنون جنون والجنون فنون). جازلنا أن نعد كل شئ في الوجود سخيفاً، وألا نجد لهذا الكون معنى، ولزمنا أن نبادر إلى الانتحار، وندع الدار تنعى من بناها. . . لا، لا. . . إن هذا الحسبان خسران، والرأي الحكيم الرصين أن نرى الجيد جيداً والجميل جميلا وأن نبتهج بمشاهد الكائنات مع المبتهجين معرضين عن مقالات شوبنهور وسائر المتشائمين منشدين في كل حين:
(تمتع من الدنيا فاك فانِ)
(تمتع من شمم عرار نجد)
و (الدنيا - كما قال جار الله - عمري ولا خلود إلا في الأخرى).
فن اللغة فن، في الإنشاء فن، فلا تسألن الفصيح البليغ في المقال أن يذر فصاحته وبلاغته وذا الفن أن يهجر فنه، وينزل من عليائه إلى فنائه، ويزايل عزلته، ويماشي جماعته، ويتبذل أسلوبه وهو يستطيع صيانته، ودعه يفتن الإنشاء كيف شاء.
إن المتفنن في الناس قليل، وقد مات بالأمس (أنا طول فرنس) ولا خليفة في قومه له. وهذه حالة لا يصل إليها كل ساع فلا تخف من أن يكثر المتفننون. . . وهؤلاء الرهط في الأمم هم سلوى المكروبين، ومهذبو الطالبين، هداة المتأدبين، وموقظو الهاجدين، وقائدو الثائرين، وبكلامهم تصقل الكتاب قرائحها).
(كانت اللغة فجاء منها فن، وهو لا يكون في كل ضرب مما تخطه الأقلام ولن يكون. وأهله اثنان: الشاعر والأديب ولا ثالث لهما، فدعهما يحدوان مع الحاد، ويهيمان في كل واد. وفضيلة كلام (الشاعر والأديب) أو هذين المتفننين أو الفنانين هو هذا الجمال الذي تلاقيه فيه، ومع الجمال الوضوح كل الوضوح، بل ليس الحسن إلا الوضوح. فمرغبي ومرغب كل من يتراءى برأيي أن نصون هذا الرونق أو هذه الديباجة كما يصون الكريم ديباجتيه فلا يبذلهما. . . وقد أعلن الأستاذ الريحاني في مقاله أنه يهوى الديباجة، ولا ريب في ميله هذا، فكل شئ تنوقت الطبيعة في تجويده يستهوي العاقل. ولن ننشد إن شاء الله في يوم بيت المتنبي الذي أومأ الأستاذ إليه في كتابه:
زودينا من حسن وجهك ما دام (م) فحسن الوجوه حال تحول فلن يحول جمال العربية، ولن تزول ديباجتها، وإذا استطاع القوم في الغرب أن يجملوا بالكهربا الشنيعات، فلن نعجز في الشرق عن الاحتفاظ ببهجة المليحات. . .)
(يجعل مقتبس علم غربي يترجم مبحثاً أو يلفق قولا وهو لم يتخرج على أستاذ قادر، ولم يقرأ كتاباً واحداً، ولم يعرف أسلوب علمه اللغوي، ولم يقف على ألفاظه ولا على بعض ألفاظه، وتلقيه يزجر وهو يكتب زحيراً، ويلعن العربية التي جهلها لعناً كبيراً، ثم يطرح بجهيض يعمى الناظرين، فإذا عيبت جهيضه لا حاك، وتهدم على اللغة بالتنقيص)
(الأستاذ الريحاني فاضل نابغة تنكب عن طريق التقليد، وأنكرت نفسه الرقي العقلي فكدحت في تحريرها، فلما حررها لم يستبد بخيره، وأراد أن يشركه في الخير غيره، فدعا قومه إلى حريته، وانتحال عقيدته. ثم أبصر الأستاذ الغرب يطير ارتقاء وقومه العرب قد ألفوا الحضيض (آلف للحضيض فهو حضيض) كما قال أبو تمام، فشق عليه أن يشهد ذل جهلهم وقد اعتز بالعلم خصمهم وآكلتهم، وتحقق أن الذي أقعد في العلياء الغرب هو علم الغرب فنادى إلى إيثار ذلك العلم، وأشفق أن يعوقهم الاهتمام بالمهم أو غير مهم عن طلب الأهم فقال لهم: اجتزئوا من المونة اللغوية بزاد سافر، فلن يعذل وهذا قصده. والحق الذي يدريه الأستاذ الريحاني، ولكن حرصه على الذي رآه أحق بالتقديم قد حمله على أن يتناساه هو أن الانتباه الأدبي في الأمم يسبق الانتباه العلمي، فهذا بناء وذاك أساس، وإن الأمم العربية اليوم هي في وقت الترجمة. وعند الغرب علوم كثيرة ومباحث فيها دقيقة. وفرض عين أن تنقلها العربية وأن يفقهها نشؤها، ولن تفهم ولن تفيد حتى تصح ترجمتها، ولن يستطيع احتواء تلك العلوم ومعانيها إلا اللغة القرآنية العلمية، إلا اللغة الصحيح تركيبها الكثير لفظها التي ظل العلم القديم يلينها ويوسعها ويصقلها أحقاباً. وإذا لم توصل لغة علم اليوم بلغة علم الأمس ويستظهر بهذه فلا علم في هذا الزمان عند العرب. ومن ظن أن اللغة العامية وهذه التي هي فوق العامية تقدران أن تعيا علوم الغرب وتضم عباراتهما تلك المعاني الحديثة أو الجديدة فظنه (والله) عجيب!)
ثم أبعث إلى الفيلسوف بكتابي (البطل الخالد صلاح الدين والشاعر الخالد أحمد شوقي) وقد طبع سنة 1351، فتجيبني منه رسالة في 26 شباط سنة 1933، وقد ظهرت في (الرسالة الغراء) 269 في 3 رجب سنة 1357في الصفحة 1411 من السنة السادسة
ومن قرأ رسالة الأستاذ الريحاني الثانية رأى أنه (قد استطاع أن يكتب عربياً عبقرياً ويجاري البلغاء)، وأنه قد آمن بـ (الكلمة) وصدق بالبلاغة وفضيلتها وجمال القول وجودته وبكلام الإمام الرازي: (رب كلمة حكيمة لا تؤثر في النفوس لركاكة لفظها)، فنسخ المذهب الجديد لفيلسوف مذهباً قديماً ولو لم تفجع به العربية - وأعظم بفجيعتها بـ (بالأمين) - وعاش حتى اطلع على (دفاع عن البلاغة) لازداد إيمانه ويقينه، وأيد (صاحب الرسالة) تأييد أنصاره.
(الزيات) إذا نثر، مثل (شوقي) إذا شعر. ولقد أعطى الله مصر في هذا العصر إمارة الشعر وإمارة النثر. ولو بعثت (فلوبير) القائل: (أهون على المرء أن يقنطر، وأن يسكن في قصر بندقي (فنيسيي) منجد من أن ينشئ صفحة واحدة عبقرية) وحذق العربية، لأضاف إلى قوله هذا هذه الكلمات: (مثل الصفحات، التي ينشئها الزيات).
محمد إسعاف النشاشيبي