مجلة الرسالة/العدد 638/على هامش (الحادث)
مجلة الرسالة/العدد 638/على هامش (الحادث)
كلمة إلى الجنرال ديجول!
للحقيقة وللتاريخ لا للتشفي والهجاء. . .
للأستاذ علي الطنطاوي
رأيت في سينما ديانا بالقاهرة منذ شهور جريدة الأخبار الفرنسية تعرض صوراً من انهيار ألمانيا، فترى المهاجرين من النساء والعجائز هائمين مشردين؛ ثم تعرض منظراً مثله كان في فرنسا يوم انهزمت فرنسا، ويعقب المذيع فيقول بصوت خافت رهيب: (إن في الكون عدلا!) وترى المدائن المخربة، والذعر البادي، والدمار الشامل، ثم تعرض مثل ذلك مما كان في فرنسا ويعقب المذيع فيقول: (إن في الكون عدلا)!
نعم، يا جنرال، إن في الكون عدلا! ولكن قومكم ما استوفوا بعد قسطهم من عدل الله، وآية ذلك أنكم أصبتم فبكى لكم أعداؤكم، ورحمكم خصومكم، وكنتم عند الناس ضحية القوة العاتية، وشهداء العدوان المجرم، وكنت تثير الدنيا على الألمان أن حاربوا قومك، وقومك هم أعلنوا الحرب، وهم تقدموا إليها، وهم (زعموا) بنوها، قد غذوا بلبانها، وربوا في ميدانها؛ فلما نبت ريشك، ورد عنك عدوك، وأغضى عنك الدهر إغضاءة، نسيت كل ما كنت فيه، وما كنت تقوله وتخطب به، وأقبلت تجرب سلاحك فينا، فأخذتنا على ساعة غرة بحرب ما آذتنا بها، ولا أعلنتها لنا، فسخرت لقتالنا مدافعك وطياراتك، ويا ليته كان سلاحك يا أيها المحارب الظافر، ولكنه سلاح أغطيته عارية لتحارب به عدو صاحبه وعدوك، فحاربت به قوماً آمنين! حاربت يا أيها البطل النساء في الخدور، والأطفال في المدارس، والمرضى في المستشفيات. . . وما هابك النساء ولا الأطفال ولا المرضى، ولا رفعوا مثل العلم الأبيض، الذي رفعه قومك حين كان لهم سلاح، وكان لهم خط ماجينو، لأن لهم من إيمانهم حصناً لا تهدمه قنابلك، ولا تحرقه نارك!
وهذا الجيش (يا جنرال) الذي عقدت له اللواء، ورفعت فوقه العلم، وائتمنته على شرف فرنسا وتاريخها، قد أهوى باللواء، وطوح بالعلم، وعبث بالأمانة، حين سطا على المخازن، فكسر أقفالها، وفتح أبوابها، وأخذ ما فيها، وذلك فعل اللصوص لا الجنود! ثم عاد فأوقد فيها النار، فأحالها إلى جهنم الحمراء، ليخفى باللهب سرقته، وذلك صنع المجرمين لا المقاتلين!
ثم وقف يتربص، فكلما أقبل من يطفئ النار وينقذ الأطفال رماه فأصماه، وذلك عمل القتلة السفاكين، لا الأبطال المحاربين!
جيشك هاجم المستشفى الوطني، وسلط ناره من أفواه رشاشاته ومدافعه على الجرحى والمرضى ست ساعات متواصلات متتاليات، ولم يقدر بعد ذلك إلا على أربع ممرضات شواب أخذهن (سبايا)!
جيشك يا رجل الديمقراطية، يا سليل من أعلنوا حقوق الإنسان، هاجم البرلمان وفعل به الأفاعيل، ومثل بشرطته فبقز يطوياً، وسمل عيوناً، وقطع أطرافاً، وهاهو ذا البرلمان تركناه ليشهد عليكم أبداً. فتعال تر الدماء على جدرانه المصدعة، وأبوابه المخلعة ولقد وجدوا صندوق البرلمان وفيه المال. . . وجدوه بعد ذلك في دار القيادة الفرنسية، وهم طبعاً لم يسرقوه، ولكن أخذوه ليحفظوه!
جيشك رمى قنابل الطيارات على السجون، حيث لا يملك من فيها فراراً، فجعل السجن لمن فيه قبراً!
المستشفى العسكري يا جنرال جعله جيشك قلعة فيها مدافع الهاون، ومنه أحرق سوق صاروجا هذا الحريق الذي أكل ثلاثاً وتسعين داراً. . . ومدرسة الفرنسيسكان كان فيها الرشاشات، تطلقها بأيديها الطاهرات، الراهبات المتبتلات، ذوات الرحمة المسالمات!
نسخة التوراة التي سرقت من سنوات، وهي أقدم نسخة في العالم، وجرت لها تلك المحاكمة المشهورة. وقضى على طائفة من الأطناء بأشد العقاب، وجدت في دار المستشار الفرنسي لما كبست بعد الحادث داره، ويقدر ثمنها بنصف مليون فرنك!
القاضي الفرنسي الذي جئتم به إلى المحكمة المختلطة، لأن قضاتنا في دعواكم لا يطمأن إلى علمهم ونزاهتهم، المسيو سيرو، وجد في داره رشاش كان يقتل به الناس في تلك الأيام السود، وهو الذي جيء به ليقضي على القتلة والمجرمين!
إن بطريرك موسكو وكل الروسيا، كان في فندق الشرق (أوريان بالاس) يوم الحادث، يوم عصفت هذه العاصفة في رأس قائدك أوليفاروجه، فنسي كل ما يعتز به البشر من فضائلهم - فلبث في الملجأ المظلم تحت الأرض ليلة كاملة، قال لما انقضت: (لقد كنت في ستالينغراد يوم ضربها الألمان، فما رأيت أكثر مما رأيت الليلة)!
ولما قدمت دمشق زوجة رئيس الجامعة الأمريكية في بيروت السيدة دودج، ورأت آثار العدوان، قالت: لقد قتل ابني الوحيد في فرنسا، فكان يصبر النفس عنه أنه مات في سبيل الحق والإنسانية، أما الآن، فواطول حزني وكمدي، لقد أيقنت أن ابن مات في سبيل (لا شيء)!
يا جنرال! لما ذهبت أزور القلعة بعد الحادث بأيام لم أستطع أن أدنو منها من رائحة الموت، إذ تفوح من آلاف الجثث، جثث الأبرياء التي كانت بالأمس رجالا كراماً، كانوا ملء الدنيا حياة ونشاطاً، وكانوا ذخر عائلاتهم وبلادهم، فصاروا. . . أكواماً من اللحم العفن الذي يؤذي العين والأنف!
لم ينج من شر جيشك الأحياء ولا الأموات. ولقد أبصرت في (الدحداح) قبوراً قد نبشتها القنابل، وقذفت رممها، أفإن عجزت عن حرب أعدائك الأقوياء، جثث تحارب موتانا؟
لقد كان ذلك كله، وكان أكثر منه، أفهذا من العدل الذي تهتف به؟ لا يا جنرال؟ إن كلمة (العدل) أكرم من أن تمر على لسان مر منه ذلك الأمر الهمجي بضرب دمشق أقدم مدينة عامرة على ظهر الأرض بلا استثناء، وأكاد أقول أجملها. إن الشفاه التي تعرف كلمة (العدوان)، لا يمكن أن تألفها كلمة (الحق والعدل)!
ولكن (في الكون عدلا)! نحن نقولها الآن! وإن من عدل الله أن جعل صبرنا نعمة علينا، وعدوانكم وبالا عليكم!
لقد انتهت الرواية، وأسدل الستار، فتعال ننظر ماذا ربحنا وماذا ربحتم؟ لقد خسرنا منازل من أحسن منازلنا، ورجالا من أكرم رجالنا، وملايين من حر أموالنا، ولكنا ربحنا الخلاص منكم، والاستقلال عنكم، وسنبني الدور، ونلد الرجال، ونعوض المال، فماذا ربحتم انتم؟ ماذا؟ يا من كشفت للناس عن حقيقتك، وانك ما خلقت لتسوس الأمم، ولا لتحكم الشعوب، ربحت بغضاء لا تمحى. لقد أسأت إلى التاريخ الفرنسي والثورة الفرنسية والأدب الفرنسي، ولطخت بالوحل أسماء كانت فينا لامعة نظيفة، وكان لها في النفوس مكان، وسيتوارث العرب كلهم والمسلمون هذه البغضاء بطناً بعد بطن، وستزيد وتعظم، وتغدو تراثاً مقدساً، لا يشذ عنه إلا هؤلاء النفر من الأدباء الذين باعوا دينهم وإخوانهم بذكريات غرام لهم هناك. . . وهؤلاء ليسوا منا!
لقد أثمرت هذه البغضاء باكورتها، فلم يبقى في سوريا كلها لوحة عليها حرف فرنسي يقرأ في طريق، ولا كتاب فرنسي يدرس في مدرسة، ولقد كان مهرجاناً قومياً يوم أحرقت فيه الكتب الفرنسية في مدن الشام!
وبعد يا جنرال، إن في الوجود شيئاً أعظم من الدبابات والطيارات والقنابل الذرية، هو حب الموت!
فالذي لا يخاف الموت لا تخفيه آلاته مهما جلت وعظمت، فمن يطلب الموت فهو أكبر من الموت، لأنه أكبر من الحياة، ونحن قوم علمنا نبينا محمد ألا نخاف الموت في سبيل الحق، فلن يخيفنا شيء في الدنيا!
(دمشق)
علي الطنطاوي
القاضي