انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 637/في الصحراء

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 637/في الصحراء

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 09 - 1945



للأستاذ سيد قطب

(في ليلة من ليالي الخريف المقمرة، الراكدة الهواء؛ المحتبسة الأنفاس، وفي صحراء جبل المقطم الموحشة، وبين هذا الفقر الصامت الأبيد - كانت تتراءى نخلات ساكنات في وجوم كئيب ومن بينهما نخلتان؛ إحداهما طويلة سامقة، والأخرى قصيرة قميئة.

بين هاتين النخلتين دار حديث. وكانت بينهما همسات ومناجاة!).

الصغيرة:

ما لنا في ذلك القفر هنا ... ما برحنا منُذ حينٍ شاخصات؟

كل شئ صامت من حولنا ... وأرانا نحن أيضاً صامتات!

تطلع الشمس علينا وتغيبْ

ويظل الليل كالشيخ الكئيبْ

والنجوم الزُّهرُ تغدو وتؤوبْ

وهجيرٌ وأصيلْ .. وطلوع وأفول .. ثم نبقى في ذهول

ساهمات!

أفلا تدرين يا أختي الكبيرة ... ما الذي أطلعنا بين اليبابْ

أيّما إثمٍ جنيْنا أو جريرة ... سلكَتْنا في تجاويف العذاب

قد سئمتُ اللبث في هذا المكان

لبثة المصلوبِ في صلب الزمان

أفما آن لتبديلٍ. . . . أوان؟

حدثيني كم سنشقى؟ حدثيني كم سنلقى؟ حدثيني كم سنبقى؟

واقفات؟

الكبيرة:

أنا يا أختاه لا أدري الجواب ... ودفينُ السرِّ لم يُكشفْ لنا

منذ ما أُطلعتُ في هذا الخراب ... وأنا أسأل: ما شأني هنا؟ فيجيب الصمتُ حولي بالسكون!

وأنا أخبط في وادي الظنون

لست أدري حكمة الدهر الضنين

غير أنا حائرات والليالي السادرات تتجنى ساخرات

لاهيات!

ربما كنا أسيراتِ القَدَرْ ... تسخر الأيامُ منا والليالي!

تضرب الأمثال فينا والعِبَرْ ... وإذا نشكو أذاها لا تبالي!

ربما كنا مساحيرَ الزمنْ!

قد مُسِخنا هكذا بين القُنَن

في ارتقاب الساحر المحيي الفطن!

فإذا كان يعودْ فكَّ هاتيك القيود فرجعْنا للوجود

ظافرات!

أو ترانا نسلَ أربابٍ قدامى ... قد جفاها وتولَّى العابدونْ!

جفت الكأس لديها، والندامى ... غادروا لدْوَتها تَنعى القرونْ

أو ترانا مَسخَ شيطان رجيم!

صاغنا في ذلك القَفر الغشوم!

وتولَّى هارباً خوف الرّجوم!

فبقينا في العراءِ يجتوينا كل راء وسنبقى في جفاء

شاردات!

لست أدري: كل شئ قد يكون ... فَتَلَقَّيْ كلَّ شئ في سكون

وإذا ما غالنا غولُ المَنونْ ... فهنا يغمُرنا فيضُ اليقينْ!

ثم ساد الصمتُ كالطيف الحزين

وتسمَّعْتُ لأقدام السنين

وهي تخطو خُطوة الشيخ الرزين

هامساتٍ في الرمال منشدات في جلال كلُّ شئٍ للزَّوال والشتات!

(حلوان)

سيد قطب