انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 635/بعد عيد وفاء النيل

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 635/بعد عيد وفاء النيل

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 09 - 1945



متى نتحكم في نهرنا؟

للأستاذ وديع فلسطين

قديماً قالوا (مصر هبة النيل)، وما كانوا بذلك يمزحون أو يلقون الكلام على عواهنه، وإنما قرروا حقيقة أثبتت الأيام صوابها، وهي أن ماء النيل أثمن شيء في مصر، أثمن من حديدها ومعادنها وذهبها وزيتها.

وما فتئنا نسمع من ربع قرن من الزمان أحاديث تستطيبها الأذن عن مشروعات النيل وضبط مائه والانتفاع بكل نقطة منه واستغلاله في زراعة الصحراوات وو. . . مما يروق لذوي الخيال الواسع أن ينساقوا وراءه. ولو أننا حولنا بصرنا إلى غيرنا من الدول الزراعية ودرسنا أساليبها في الزراعة وضبط الماء، وقلدناهم فيما نجحوا فيه لكان لنا اليوم أن نفخر بنهر أصبحنا أسياده بعد ما كان سيدنا، وتحكمنا فيه بعد ما ظل أربعة آلاف من السنين أو يزيد يشمخ بتحكمه فينا.

وقد احتفلت مصر في الأسبوع الماضي بعيد وفاء النيل. وجدير بنا في هذه المناسبة أن نعرض صفحة مما نهضت به دولة زراعية، فرفعت مستوى المعيشة فيها وأصلحت أراضيها وتزعمت الأمم الزراعية قاطبة.

هذه قصة نهر عظيم في الولايات المتحدة يدعى نهر تنيسي استطاع الأمريكيون أن يتحكموا فيه بعد ما كان يكتسح المحصولات والغابات ويخرب البيوت، فأمكن الانتفاع به إلى أقصى حد ممكن ودرء خطره الذي كان يهدد الدور والحقول على ضفتيه.

يمتد نهر تنيسي من الشرق إلى الغرب في المنطقة الوسطى من الولايات المتحدة، وهو لا يبلغ في طوله مبلغ نهر النيل لأن طول النهر الرئيسي 104 كيلو متراً بينما يزيد طول النيل على ستة آلاف من الكيلو مترات. غير أن الأراضي الصالحة للزراعة في وادي تنيسي تبلغ مساحتها 105 , 000 كيلو متر مربع في حين أن مساحة الأراضي الصالحة للزراعة في مصر لا تزيد عن 13 , 600 ميل مربع. ونهر تنيسي، على النقيض من نهر النيل الذي يخلو مجراه في مسافة طولها1 , 600 كيلو متر من الأنهار الفرعية، غنى بمئات من الأنهار الصغيرة التي ترتفع في الجبال في هذه المنطقة من الولايات المتحدة.

وحينما يهطل المطر الغزير في الربيع، تمتلئ هذه الفروع وتفيض على شطآنها. وكما أن نهر النيل يخلف وراءه مقادير وافرة من الغرين يغذي التربة ويعززها، فإن أنهر وادي التنيسي تخلف وراءها كذلك غريناً يهب الحياة للنباتات والغابات.

وكان موضوع ضبط نهر تنيسي والروافد التي تصب فيه أساسا لمشروع كبير يعرف اليوم باسم (إدارة وادي تنيسي) وقد بلغ في مايو الماضي العام الثاني عشر من حياته. وفي الواقع أن (الإدارة) مصلحة تابعة لحكومة الاتحاد. غير أنها تختلف عن سواها من المصالح الحكومية في الولايات المتحدة لأن سلطتها تمتد إلى منطقة معينة من البلاد، لا إلى البلاد بأسرها. والوادي الذي يشق نهر تنيسي طريقه فيه يقع في أجزاء لسبع ولايات في الجزء الأوسط من ولايات أمريكا المتحدة. وتلك الولايات هي: نورث كارولينا وفرجينيا وجورجيا وآلاباما ومسيسبي وكنطكي وتنيسي. وما مشروع وادي تنيسي إلا لاستثمار موارد منطقة كانت الأمطار الغزيرة تفسدها وكانت الفيضانات الكثيرة لأنهر كثيرة تصب في وادي تنيسي فتخر به وتزيل معالمه.

وفي مستهل المدة الأولى لرياسة الرئيس الراحل المستر فرنكلن روزفلت. أثنى الرئيس على مشروع إنشاء إدارة وادي تنيسي وقال في رسالته إلى الكونجرس في 10 إبريل 1933: (إذا وفقنا في هذا، استطعنا أن نسير خطوة خطوة في سبيل تحسين الموارد الطبيعية الأخرى الكبيرة داخل حدود بلادنا). وبعد ثلاث سنوات من ذلك التاريخ، وضع المستر روزفلت ستة مشروعات مماثلة لمشروع وادي تنيسي.

وتقوم مشروعات روزفلت السبعة جميعا على مبدأ مشترك وإن اختلفت في كيفية تطبيق هذا المبدأ في المناطق المختلفة. ويتلخص المبدأ في أن يطبق على مجال واسع وتتولى إدارته هيئة عامة تهدف إلى استغلال الموارد البشرية والطبيعية دون أن تتأثر بالميول الحزبية.

ويجري نهر تنيسي وكمبرلند في منطقة مساحتها 105 , 000 كيلو متر مربع، وعند المنبع في جبال سموكي وبلورج يصب نهر تنيسي من ارتفاع 900 متر عن سطح البحر في نقطة تنخفض إلى 90 مترا في ولاية كنطكي حيث يتصل بنهر أوهايو. ويصب نهر أوهايو بدوره في نهر المسيسبي. ويقدر معدل هطول الأمطار في السنة في الوادي بنحو 132 سنتيمترا ويبلغ الهبوط السنوي في بعض الجهات 200 سنتيمتر.

وفي يوم 10 إبريل 1933 ألقى الرئيس روزفلت خطابا في الكونجرس - وقد أسلفنا الإشارة إليه - لخص فيه المزايا المنتظرة لمشروع وادي تنيسي فقال: (إن المشروع إذا نفذ بكليته سيؤدي حتما إلى فوائد جمة؛ فتروى الحقول التي تصل إليها مياه الفيضان، ويمنع تآكل التربة وتعاد زراعة الغابات، ويؤدي إلى عدم إهمال زراعة الأراضي المتطرفة كما يؤدي إلى انتشار الصناعة وتنوعها. وبالإجمال فإنه يؤدي إلى استغلال جميع مرافق الولايات المتحدة لمصلحة الملايين من الأهالي في جميع الولايات. كما إنه يبعث الحياة في جميع مظاهر الحياة وكل ما يهم الإنسان)

واقترح الرئيس لإنشاء إدارة وادي تنيسي إصدار تشريع لتأليف (هيئة لها سلطة كسلطة الحكومة وتتمتع بميزتي المرونة والتوثب شأنها في ذلك شأن الهيئات الأهلية). وقد وافق الكونجرس على مشروع قانون تأليف إدارة وادي تنيسي يوم 17 مايو 1933 وذيله الرئيس روزفلت بإمضائه.

ونص في ديباجة قانون إدارة وادي تنيسي على أهداف المشروع. ومن تلك الأهداف تحسين حالة الأراضي الزراعية والتحكم في فيضان نهر تنيسي وإعادة زراعة الغابات واستغلال الأراضي المتطرفة في الوادي وتحسين حالة الزراعة والصناعة فيه. وخولت لها سلطة نزع ملكية الأراضي لبناء السدود والخزانات ومحطات توليد القوى وغيرها من المنشآت. وخول لإدارة وادي تنيسي الحق في بيع ما يفيض من القوة الكهربائية إلى الشركات والأفراد والهيئات المختلفة فضلا عن الولايات والمقاطعات ومجالس البلديات. وتكون الألوية في الشراء للولايات والمقاطعات ومجالس المديريات.

ويستخدم في الوقت الحالي 21 سدا لضبط الماء في نهر تنيسي. وقد نجحت تلك السدود في جعل المنطقة مقراً لثاني محطة لإنتاج القوة في الولايات المتحدة. وتتمتع 85 , 000 مزرعة بمزايا الكهرباء، أي بنسبة مزرعة واحدة تضاء بالكهرباء في كل خمس مزارع، وأصبح سكان الوادي يعيشون عيشة جديدة نسبة لاستعانتهم بالكهرباء. فأصبحت المزارع تستخدم المضخات الكهربائية بدلا من رافعات الماء الفطرية: (كالساقية والشادوف. . .) وأصبح السكان يتمتعون بمزايا آلات تجفيف الطعام والثلاجات وتوفرت لهم آلات قطع الخشب وطحن البقول للماشية. وأصبح اللبن يوضع في ثلاجات حديثة. وأضحى أعداد اللحوم وطهي الطعام لا يستغرق وقتا طويلا. وأصبحت ربات المنازل يستطعن استخدام المدفآت الكهربائية وآلات كي الملابس الكهربائية وغيرها من الأدوات التي توفر الوقت والجهد والمال.

ولم تتجل آثار إدارة وادي تنيسي في أي ميدان من ميادين الحياة كما تجلت في ميدان الزراعة. فقد أمكن للإدارة - بالتحكم في مياه الفيضان والتغلب على تآكل التربة وتوفير مواد الفوسفات للتسميد - أن تجعل المزارع في حالة رخاء لم يسبق لسكان الوادي عهد بها، وأخذت المحصولات التي تسمى في الولايات المتحدة (محصولات الزراعة) كالطباق والقطن والذرة مثلا أخذت تفسح المجال للبرسيم وفول الصويا وهما من المحصولات التي تكسب التربة غنى في المواد العضوية. وأصبح من المألوف حرث الأراضي بالآلات التي تحرثها حرثا منتظما يعمل على توقي تآكل التربة. وأخذ الفلاحون يقومون أفرادا بفلاحة سفوح التلال وإصلاح الأراضي البور. واستطاعت إدارة وادي تنيسي بمعاونة الهيئات الأخرى المتصلة بها أن تقنع الفلاحين في الوادي بالإكثار من زراعة أنواع شتى من الخضروات لزيادة دخلهم وتمكينهم من شراء مزيد من الملابس وغيرها من ضرورات الحياة. واستطاع الفلاحون في منطقة وادي تنيسي أن يستخدموا الكهرباء في إدارة الآلات التي توفر العمال والوقت والمال. وشرعوا يتعلمون كيف يستطيعون توليد سلالات أفضل من الماشية وإنتاج أنواع ممتازة من الفاكهة والخضروات، وهي جهود تهدف إلى إنتاج مواد منوعة غنية بالفيتامينات تقوّم صحة الفلاحين وعائلاتهم، وتكسبهم مناعة وجلداً.

وانتشرت الصناعة في الوادي بفضل إدارة وادي تنيسي. وزاد إنتاج الألمنيوم والمطاط والدقيق والمواد الكيميائية اللازمة للحرب كنترات النوشادر وهي مادة هامة في صناعة المفجرات القوية، واستغل في أثناء الحرب الأخيرة 75 في المائة من قوى إدارة وادي تنيسي في إنتاج المواد الحربية.

وأنشئت إلى جانب هذا المشروع الضخم مشروعات أخرى تتصل بالحياة اليومية لسكان هذه المنطقة فضلا عن مشروعات توفر قوى كهربائية رخيصة وتحسن وسائل الزراعة والإنتاج الصناعي، وشيدت آلاف من المنازل الرخيصة وانتشرت المعاهد واتخذت وسائل مكافحة الملاريا. ونظمت الهيئات الجماعية للتسلية، وأسست هيئة كبيرة للعناية بصحة سكان الوادي عناية تامة.

وأصبحت إدارة وادي تنيسي نموذجا حيا للتنظيم الإقليمي ولفتت أنظار العالم كله. فزارها رجال من جميع بلدان العالم من مزارعين ومهندسين جاءوا ليتخصصوا في أعمال الإدارة. وسعى مهندسو إدارة وادي تنيسي إلى بلدان أخرى ليقيوا فيها مشروعات مماثلة أو ليعاونوا في حل مشكلات الزراعة وتوليد الكهرباء فيها.

وفي يوليو 1943 كتب المستر جوليان هكسلي العالم البريطاني والكاتب المعروف مقالا قال فيه: (إن فكرة إدارة وادي تنيسي على أساس إقليمي - كاستغلال نهر في واد مثلا - أصبحت فكرة يدين بها العالم أجمع. وإن آراء الإدارة ووسائلها تعمل على إرشاد هيئات جديدة مماثلة ونموها. . . وأجريت دراسات ليمكن تنفيذ مشروع مماثل على نطاق دولي بدلا من النطاق الوطني الضيق، ومن شأن هذا المشروع الدولي أن يحد من سلطة دول العالم شأنه في ذلك شأن إدارة وادي تنيسي التي تحد من سلطة الولايات وخاصة فيما يختص بالحقوق والحدود).

وجاء في ختام تقرير خاص يبحث في موضوع الإدارة: (إن بيت القصيد في مشروع وادي تنيسي، أنه يوفر للرجال وسائل جديدة واقعية لاستخدام الموارد الطبيعية. كما إنه يهيئ لنا طريقة جديدة لمعالجة المشكلات المرتبطة بعضها ببعض الخاصة باستغلال الموارد الطبيعية التي تهم الجميع).

وديع فلسطين