مجلة الرسالة/العدد 632/عم يتساءلون؟
مجلة الرسالة/العدد 632/عم يتساءلون؟
للأستاذ أحمد رمزي
مشاكل العالم الجديد - التوازن بين الكتل الثلاث الكبرى التي تسيطر على العالم - نظرة شرقية. . .
حينما ندرس حالة العالم بعد هذه الحرب يتبين لنا بوضوح أن تاريخ الإنسانية لم يعرف عهداً مملوءاً بالانقلابات المتتابعة والتغييرات السريعة التي يتميز بخروجها عن كل قاعدة، ومخالفتها المألوف والمعهود مثل ما نراه أمام أعيننا اليوم
فهل بوسعنا أن نستخلص، بعض القواعد العامة، أو الاتجاهات؟ أو نضبط شيئاً من العلائق التي تربط بين الأسباب وبعضها، أو بين الأسباب والظواهر؟ أو نستبق الحوادث فنكتشف شيئا مما قد تأتي به الأيام المقبلة؟
يصعب ذلك علينا نظراً لتتابع الحوادث، ولكن الظروف التي مرت بالعالم بين حربين، والدروس التي ألقاها علينا تاريخ المائة سنة الماضية، قد تمهد لنا الطريق، وتسهل لنا السبل لتكوين فكرة تقرب من الصواب، بل يمكن أن تساعدنا على تحديد بعض النتائج التي حصلت عليها الإنسانية بعد خروجها من حربين عالميتين
كانت المائة سنة التي سبقت الحرب الماضية مملوءة بالحوادث الكبرى، فهذه الفترة التي تقع بين 1815 - 1914، أي بين مؤتمر فينا وإعلان الحرب العظمى الأولى، فترة فذة في تاريخ البشرية: لأنها بدأت بتأكيد مبدأ القوميات والمناداة بتحرير الشعوب واستقلالها، ثم خضعت لفكرة حفظ التوازن بين الدول الكبرى الأوربية، وكانت هذه المائة سنة فترة الثورات التي نقلت أوربا من عهد الإقطاع وبقايا القرون الوسطى، إلى عهد الصناعة الآلية وما يلازمها من تنازع الطبقات وتضخم المدن ونمو الرأسمالية وبروزها كعامل أساسي في حياة الشعوب الأوربية
كانت هذه الفترة كل هذا، ولكن ما هو أكبر مظهر لهذه المائة سنة؟
لا يتردد الآن أي مخلوق في أن يعترف أن هذه الفترة من الزمن كانت عصر التوسع الاستعماري الجارف
وما معنى هذا؟ الذي يبدو لنا في سنة 1914 ويمكن إبرازه ظاهراً ملموساً هو ما يأتي: إن الدول التي توسعت في أملاكها وازدادت علاقاتها بالأمم المحكومة، قد أخذت تتحول من دول أوربية إلى دول ذات صبغة عالمية!
كيف تم هذا التحول؟ وكيف دخلت الدول الكبرى ميدان الاستعمار فأصبحت غير قادرة على التراجع والانكماش بعد أن ذاقت طعم حلاوته؟ كل هذا يمكن درسه وبحثه إذا عرفنا شيئا عن أثر المائة سنة الماضية وتطوراتها
فمن المسلم به أن بعض الدول كانت تملك المستعمرات، وكانت تعرف طريقة الاستغلال - قبل المائة سنة التي أشرنا إليها - ولكن نشاطها كان محدودا، وفي دائرة ضيقة، ولم يكن اتصال هذه الدول بمستعمراتها أو اعتمادها عليها بالقدر الذي وصلت إليه في الفترة الأخيرة، بل حصل ما هو أكثر من ذلك، إن البشرية لم تعرف زمناً، في كل عصورها السالفة بلا استثناء. خضعت فيه شعوب العالم المختلفة بمدنياتها وتقاليدها، بل وبمعاشها لحكم الأوربيين مثل العهد الذي جاء بين ابتداء القرن التاسع عشر وابتداء القرن العشرين
ففي هذه اللفتة من الزمن، اشتد التنافس والتسابق والتزاحم بين دول أوربا الكبيرة والصغيرة، القديمة منها والناشئة، لدرجة أن وصل إلى المناطق المتجمدة والصحارى القاحلة، فأصبح الجليد والصخر والرمال ميداناً لكل هذا
فكل بحث أو دراسة لشئون العالم، وكل قاعدة نستخلصها يجب أن يسبقها تعرف هذا التوسع وأثره وأهميته، ولكي تعرف بالضبط العلاقة بين الشعوب المحكومة والحاكمة، ولكي يحدد مركزنا وموقف الأجيال القادمة من هذه السيطرة وعلاقتها بآمال الشعوب ومقدراتها ومستقبلها
فلنتساءل عن أول أثر لهذا التحول أو التطور العالمي الذي أوجد أمماً قوية سائدة وأمماً ضعيفة خاضعة؟
كان من أثر هذه السيطرة الأوربية أن فنيت بقايا المدنيات القديمة التي حملتها أراضي الشرق الأوسط والأدنى والأقصى، بل اندثرت وتلاشت أمام مدنية الأوربيين وتفوقهم المادي والعسكري
هذا هو الأثر السلبي، أما الإيجابي، فقد كان من أثر هذه السيادة أن ازداد سكان المعمورة، لأن سكان المستعمرات قد تكاثروا وتناسلوا فكثر عددهم وأصبحت هذه الزيادة في السكان مظهرا من مظاهر هذا الاستعمار الأوربي، والذي يدعو للدهشة أن هذه الزيادة في السكان لم تعرفها الإنسانية من قبل في أي عصر من عصورها السالفة
ثم كان من نتيجة هذه السيطرة وما تبعها من تنافس وتصادم أن ارتبطت أنحاء العالم بطرق مواصلات سهلة تعذر القيام بالثورات، كما أثر على علاقات الشعوب المحكومة، لأن هذه الأمم التي جهلت نفسها، وجدت أمام سهولة الانتقال والتعارف في مركز يسمح لها أن تستعيد العلاقات والروابط التي كانت قائمة بينها ثم انقطعت
ولما استقرت سيادة الأوربيين وسيطرتهم على أنحاء الدنيا وأمنوا أن تقوم الشعوب ضدهم، وظهر التفوق العسكري، وعرفوا طريقة تجنيد المرتزقة وكتائب الجنود الملونة، فألقى عليها عبء القتال واستتباب الأمن، انتقل الاستعمار من ميدان الفتح واستعمال العنف إلى ميدان جديد: نعم اتجهت في النصف الثاني من القرن الماضي إرادة الدول المستعمرة إلى الاستعانة بالعلم والاقتصاد على تنظيم استغلال ثروات ومرافق هذا الكوكب الأرضي، واقترن ذلك باندفاع نحو السير بهذا التطور الجديد نحو أهداف عالمية، أي اتجهت هذه الحكومات وهيئاتها الاستعمارية إلى تحقيق فكرة سيطرة الإنسان على أفق الحياة وإخضاع الطبيعة لسلطانه وإرادته بكل ما في العلم من قوة ثائرة، وما في الاقتصاد من قوة منتجة
أما من الناحية السياسية، فقد اخرج القرن الماضي لدى الدول التي تقدم لديها الوعي الاستعماري نشاطا أشد خطراً وأعمق أثراً وهو الدراسات العلمية والنفسية وتطبيقها على إدارة المستعمرات وفي حكم الشعوب المغلوبة على أمرها
لقد أصبحت هذه الدراسات أقوى دعامات سيطرة الأوربيين ودليل تفوقهم، بل برهان تمكنهم من قيادة الشعوب التي يحكمونها، أو كإحدى مظاهر الطبيعة التي ألانوا قناتها وأخضعوها لمشيئتهم في عالم الجماد والحيوان
(للكلام بقية)
أحمد رمزي
-