مجلة الرسالة/العدد 631/النظام الزراعي في بلاد السوفييت
مجلة الرسالة/العدد 631/النظام الزراعي في بلاد السوفييت
للدكتور محمد مأمون عبد السلام
اتساع الروسيا وأثره في الزراعة
ليس في العالم دولة باتساع الروسيا، فمساحتها 8 , 764000 ميل مربع ممتدة من أواسط أوربا غربا إلى المحيط الهادي شرقا، ومن المنطقة المنجمدة الشمالية شمالا إلى البحر الأسود وبحر الخزر والقوقاز وإيران والصين جنوبا. فبلاد مثل هذه تختلف أجواؤها من البرد القارس في الشمال إلى الحر اللافح في الجنوب، ومن غزارة الأمطار وما يتبعها من الرطوبة إلى الجو الصحراوي الجاف ذي الرياح الحارة. فتكاد تكون روسيا سلسلة من السهول المتسعة الأرجاء تفصلها سلاسل من الجبال وعدة من الأنهار، فالزراعة فيها إذن تمثل زراعة المناطق شبه الحارة، وكذلك الزراعة الصحراوية الجافة، وزراعة المناطق المعتدلة الرطبة والمناطق الباردة الثلجية. وكان يسكن هذه البلاد نحو 170 مليون نسمة منهم نحو 80 % من الفلاحين المسخرين لأسيادهم من أسرة القياصرة والنبلاء والأشراف الذين كانوا وحدهم يمتلكون الأرض
حالة الفلاح قبل عهد السوفييت
نعم كان هؤلاء الفلاحون عبيدا أرقاء ينتقلون من سيد إلى سيد، وكان الفلاح يسمى (موجيك)، وهي تصغير كلمة (موج) أي الإنسان بالروسية. ومعنى ذلك أن الفلاح الروسي كان في نظر مستعبديه في عهد القياصرة مخلوقا أدنى من الإنسان كالمنبوذين في الهند، فلا عجب أن وصموه بما يوصم به الفلاح المستعبد في أي بلد آخر بالوحشية والقسوة والكسل واللصوصية والنفاق والغش وغير ذلك من الصفات المنفرة، ونسوا ما وضعه الله فيه من المحاسن الخلقية التي برزت في أوضح شكل بعد نيله حريته. فالفلاح الروسي كغيره من أبناء الطبيعة ماهر في الاستفادة من كل ما حوله فتراه في الغابات الشمالية الروسية يصنع قوارير السوائل من قلف الأشجار، ويجدل الألياف الداخلية لهذا القلف ويصنع منها أحذيته. وتراه في بلاد أوكرانيا، حيث تنعدم الأشجار الخشبية يبني أكواخه من قصب الغاب والطين. وترى الفلاح الروسي يصنع سروج خيله بنفسه من الجلود التي يدبغها، فه يترك من منتجات بيئته شيئا إلا استغله لمصلحته
حالة الفلاح في عهد السوفييت
فلما نشر السوفييت حكمهم في هذه الإمبراطورية الواسعة الأرجاء، حرروا الفلاح من عبوديته، وعاملوا كافة الشعوب والجنسيات التي كانت تحت حكم القياصرة على قدم المساواة، فجعلوا الإمبراطورية الروسية القديمة التي تضم 180 جنسية في إحدى عشرة جمهورية وطنية و22 جمهورية مستقلة لكل منها دستورها الخاص مع تمتعها بكامل استقلالها وحريتها ومساواتها مع كافة جمهوريات الاتحاد السوفيتي الأخرى، ولكل من هذه الجمهوريات مطلق الحرية في الانفصال عن الاتحاد السوفييتي متى شاءت. فالاتحاد السوفيتي إذن عبارة عن مجموعة من الأمم المستقلة المرتبطة برباط الثقافة والمصلحة الاقتصادية، وهذه الجمهوريات هي جمهوريات الاتحاد الروسي في أوربا ثم أكرانيا وبيلوروسيا وكاريليا الفلندية ومولدافيا ولتوانيا ولاتفيا والجمهوريات الاستونية واذربيجان وجورجستان واريفان أي أرمينيا وترمكنيان والأزبك والتادجيك والقازاق والكرغز، وذلك عدا المقاطعات المستقلة داخل هذه الجمهوريات التي تمثل نحو أربعين جنسية تتمتع كل منها بكامل حقوقها في إدارة نفسها بنفسها
استصلاح الأراضي والتوسع في الزراعة
مساحة الأراضي المزروعة
كانت مساحة الأراضي المزروعة في الروسيا القيصرية (في سنة 1913) 252 مليون فدان. فلما تولى السوفييت الحكم رأوا أن السكان في الروسيا يزيدون سنة عن سنة حتى أن تعدادهم بلغ في يونيو (سنة 1941) 190 مليون نسمة فعملوا على استعمار الموات من الأراضي باستصلاحها ونشر الزراعة شمالا وشرقا في مساحات هائلة لم تمسها يد المزارع من قبل فبلغت مساحة الأراضي الزراعية بجهودهم (في سنة 1929) 783 مليون فدان وبلغت 317 مليون فدان في سنة 1935 أي بزيادة قدرها نحو 65 مليون فدان. وقد استصلح السوفييت في ثلاث سنوات من سنة 1933 إلى سنة 1935 خمسة ملايين فدان كانت من قبل مستنقعات، وأربعة ملايين فدان أخرى في سنة 1936. وقد استمروا في التوسع في الزراعة في المناطق الشمالية النائية، وفي الشرق في الأراضي شبه الجافة حتى بلغت مساحة الأراضي الزراعية في سنة 1937 (428 مليون فدان) أي أن مساحة الأراضي الزراعية زادت في حكمهم عما كانت عليه في سنة 1913 (179 مليون) فدان أي بزيادة نحو 70 % وقد ازدادت المحصولات بهذه النسبة وكانت الزيادة واضحة بصفة خاصة في المحصولات الصناعية كحاصلات الألياف مثل القطن والكتان والقنب والرامي وغيرها، وفي حاصلات الزيت كالسمسم والفول السوداني وعباد الشمس والسلجم والخروع وبذر الكتان والقرطم وغيرها وفي بنجر السكر. وقد اهتموا بصفة خاصة بالتوسع في الخضروات فزادوا مساحتها بنحو ضعفين ونصف، وبمحصولات العلف إذ ازدادت مساحتها بنحو أربعين أضعاف، وأدخلوا محصولات منها جديدة مثل حشيشة السودان وأنواع من الحندقوق والقصب (البرسيم الحجازي) والفصفصة والجلبان وحشيشة التيف وأنواع مختلفة من البرسيم والحشائش النجيلية.
إلغاء الزراعة القروية وإنشاء الزراعة التجمعية
وقد وضع السوفيت نظامهم الزراعي على أساس جعل موارد الإنتاج ملكا للدولة، وهم ينفذون إصلاحاتهم طبقا لمشروعات موضوعة لصالح الشعب عامة لا لمصلحة طبقة خاصة على حساب باقي الطبقات؛ وبرامجهم موضوعة بحسب الأصول العلمية الحديثة؛ ولكن مشروعاتهم تتبدل وتتغير طبقا لتبدل الظروف والأحوال. كما أنهم لا يتقيدون لإتمامها بميعاد خاص، فهم بذلك يتبعون تعاليم زعيمهم لينين الذي قال: (ليست تعاليمنا قانونا ثابتا فستعلمنا الحياة والتجربة لنهتدي إلى الطريق المستقيم، فخبرة الملايين من الناس وهم يسعون ويعملون تنير لنا الطريق).
وقد وضعوا نظامهم الزراعي على أساس إلغاء الزراعة الفردية لأنها لا تتفق مع التقدم الميكانيكي الحديث ولا تصلح لبلاد متسعة الأرجاء مترامية الأطراف مختلفة الأجواء كالروسيا وعلى إحلال نظام الزراعة الواسعة بالآلات الميكانيكية الحديثة محلها.
وقد دخل السوفييت في تجارب قاسية لبلوغ هذه الغاية كلفت البلاد الروسية عشرات الملايين من الضحايا وأموالا لا تحصى. فبنوا سياستهم الزراعية على إلغاء الملكية الفردية واستبدالها بإنتاج تجمعي لكيلا يضيعوا المجهود الآدمي من غير مبرر في الزراعات الفردية الصغيرة. فأنشئوا المزارع الحكومية الواسعة والمزارع التجمعية ومحطات للجرارات والآلات الزراعية لتقوم بجميع العمليات الزراعية.
المزارع الحكومية (مزارع السوفهوز)
رأى السوفييت أن ازدياد مساحة الأراضي وامتداد الزراعة في المناطق النائية لا يتأتى بإنشاء المزارع الحكومية الواسعة التي سموها باسم (سوفهوز)، وقد بدءوا إنشاءها من مبدأ حكمهم فبلغ عددها في سنة 1922 ألف مزرعة تقريبا. ومن سياستهم أن يعمل فيها العمال الزراعيون كموظفين بمرتب ثابت، وكونت حكومة السوفييت لجنة للحبوب غرضها تنمية مزارع الحبوب الحكومية للحصول على كميات من الحبوب تزيد قليلا في السنة عن مليون ونصف طن، فأنشئوا 150 مزرعة حكومية جديدة مساحة أراضيها 12 مليون فدان في جمهورية قراقستان، وفي الفولجا الأوسط والسفلى وفي ألأورال وشمال القوقاز وأوكرانيا وجمهورية البشكير وأنشأوا بعض المزارع الكبيرة في المناطق الجافة وشبه الجافة، وكانت أراضي هذه المزارع قبل الانقلاب الزراعي الميكانيكي في الروسيا لا يمكن الانتفاع بها في الزراعة
وتعتبر هذه المزارع محاولة من حكومة السوفييت لاستعمار هذه المناطق التي كانت فيما سبق مراعي طبيعية للخيل والأغنام، ولكي ينتفع بهذه المساحات الهائلة من الأراضي التي طردت منها الأغنام والخيل اعتمد السوفييت اعتمادا كليا على استعمال الآلات في الزراعة ليتجنبوا بذلك فعل الرياح الحارة الجافة المحرقة للمحصولات. ولا جدال في أن ري هذه الأراضي إذا أمكن يأتي بالفائدة المطلوبة، ولكن هناك صعوبات تجعل ريها باهظ التكاليف، لذلك اعتمد السوفييت في سقيها على ثلوج الشتاء، فهم يحرثونها بعد إزالة المحصول الصيفي، ثم يزرعونها في الربيع بعد ذوبان الثلج زراعات متعاقبة من القمح. وقد أنتجت هذه الأراضي البكر محصولا فاق كل متوسط في الأراضي الروسية الأخرى.
وقد بلغ عدد العمال الزراعيين في هذه المزارع الحكومية في موسم سنة 1934 ثلاثة ملايين نسمة فيما يزيد قليلا عن أربعين مليون فدان زرع ثلاثة أرباعها حبوبا. وبلغ عدد المزارع عشرة آلاف مزرعة مساحتها 28 مليون فدان منها مساحات كبيرة لم تزرع بل تركت للرعي وتتبع المزارع الحكومية أكثر من عشر من الإدارات الحكومية المختلفة؛ لذلك اختلفت طرق إدارتها والنتائج المتحصلة منها، فكانت مصلحة المزارع الحكومية تدير 173 مليون فدان لا يزرع غير تسعها فقط، وتدير قومسيرية الزراعة 531 مزرعة مساحتها 17 مليون فدان يستغل ثلثاها في تربية الخيل وكذلك لإكثار التقاوي ولزراعة القطن والكتان والقنب والحاصلات البقولية والأرز ونباتات المناطق شبه الاستوائية وتربية الحرير والماشية والأغنام والماعز، ويتبع قومسيريات مزرعة في جمهوريات الاتحاد السوفيتي المختلفة 600 مزرعة للخضروات والدجاج والفواكه وكروم العنب؛ ولقومسيرية صناعات الأغذية نحو هذا العدد من مزارع بنجر السكر والخضروات والبطاطس والدخان والدجاج والخنازير والزيوت العطرية عدا مساحات هائلة من الصوبات الزجاجية. وقد أعطى السوفييت عناية خاصة لصناعة الزيوت العطرية التي تستعمل في الروائح العطرية فخصص لزراعة محصولاتها 6000 فدان في سنة 1936 ولا يقوم بهذه الزراعة والصناعة إلا النساء.
وكان لقومسارية التجارة الخارجية 28 مزرعة مساحتها 7 , 000 , 000 مليون فدان خصصت لتربية الثعالب الفضية والأغنام الفارسية والأرانب وحيوانات الفراء المختلفة.
وكانت قومسارية الصناعات الثقيلة تزرع المحصولات التي يستخرج منها المطاط في مساحة 130 ألف فدان موزعة في مناطق واسعة وخاصة في مناطق قازاقستان وبحر أزوف والبحر الأسود.
وكان 13 مليون فدان تتبع ست قومسريات مختلفة لتمد هيئات مختلفة تعاونية وغير تعاونية مثل مطاعم المصانع والحوانيت ولتزويد المصالح الحكومية الأخرى المختلفة باحتياجاتها من المواد الخام، ولم تتعد مساحة الأرض المزروعة في المزرعة الواحدة ألفي فدان
وقد راعت حكومة السوفييت أن تجعل مساحة المزارع الحكومية (السوفهوز) كبيرة جدا لتخفض بذلك نفقات الإنتاج فكانت تتراوح مساحة المزرعة بين 80 - 160 ألف فدان ولكن منها ما كان أكبر من ذلك كثيرا مثال ذلك المزرعة المسماة أي الضخمة ومساحتها 600 , 000 فدان.
ولكن نظام مزارع السوفهوز أخذ يظهر عيوبه ابتداء من سنة 1931 فقد اتضحت خطورة الاعتماد على نظام زراعة محصول واحد والتمسك به تمسكا شديدا ولذلك عدل باتباع دورة زراعية منظمة. وقد اتضح أيضاً أن مزارع الحبوب متسعة جدا لدرجة يصعب معها إدارتها إدارة ناجحة. لذلك خفضت مساحة المزرعة الواحدة منها في سنة 1932 بحيث لا تزيد عن 108 , 000 فدان على أن تقسم داخليا إلى عدة مزارع صغيرة يدير كل منها مساعد مدير. وقد نتج عن إنشاء مزارع تربية الحيوان العظيمة الاتساع أن الحيوانات كانت تتجمع في قطعان كبيرة مما ساعد على انتشار الأوبئة بينها، فقد كانت مساحة تربية الماشية 63 ألف ميل مربع ومزرعة تربية الأغنام تزيد عن 46 ألف ميل مربع فقسمت هذه المساحات الهائلة إلى مساحات أصغر منها لتسهل إدارتها. وكان من أكبر الأخطاء التي ارتكبت أن استولى عمال الحكومة على الماشية قبل أن تنشأ لها الحظائر اللازمة لإيوائها ويعين لها الكلافون اللازمون للعناية بها. وقد عاقبت حكومة السوفييت الموظفين المسؤولين عن هذه الأخطاء بإعدام ثلاثين منهم.
وقد اتضح في النهاية أن تجربة إقامة مزارع السوفهوز قد فشلت تماما فأعلن ستالين في سنة 1933 أنها لا تغطي نفقاتها فيما عدا بضع عشرات منها. وفي نهاية سنة 1935 أعلنت الحكومة السوفيتية حل عدد كبير منها وإضافة أراضيها إلى المزارع التجمعية، ولم يستبق من مزارع السوفهوز غير التي رأوا ضرورة إبقائها للاستغلال على أساس تجاري، وقد وضعت تحت إدارة ثلاث قومسيريات هي: قومسيرية المزارع الحكومية، وقومسيرية صناعة الأغذية وقومسيرية الزراعة.
(البقية في العدد القادم)
دكتور محمد مأمون عبد السلام
وكيل قسم أمراض النباتات بوزارة الزراعة المصرية