مجلة الرسالة/العدد 63/الأدب الإنجليزي في القرن التاسع عشر
مجلة الرسالة/العدد 63/الأدب الإنجليزي في القرن التاسع عشر
للأستاذ بشير الشريقي
اطلعت في عدد الرسالة التاسع والخمسين على كلمة موجزة للأستاذ محمود الخفيف في نقد كتاب (الأدب الإنجليزي الحديث) الذي قدمه الأستاذ سلامه موسى للجمهور مؤخراً، وقد ظهر لي من هذه الكلمة.
أولا - إن الأستاذ مصنف الكتاب أو مؤلفه قد نعت العصر الفيكتوري ما بين 1830 - 1900 بأنه عصر خمول في الأخلاق والأدب، بينما يرى الأستاذ محمود الخفيف هذا العصر من أرقى عصور الأدب الإنجليزي وأحفلها بالحركات والاتجاهات الأدبية الجديدة.
ثانيا - إن الأستاذ سلامه يشير في كتابه إلى تجديد في الأدب الإنجليزي ظهر عام 1900 فيوافقه الأستاذ محمود على ظهور هذا التجديد ويذكر أنه ثمرة من ثمار العصر الفيكتوري الناهض.
وأنا بدوري أود أن أقول كلمة في الموضوع أختلف فيها مع الأستاذين الفاضلين في مسائل، وأتفق معهما في أخرى، فأرجو أن توسع مجلة الرسالة الغراء صدرها لهذه الكلمة:
1 - إن مؤرخي الأدب الإنجليزي الحديث لا يوافقون الأستاذ سلامه موسى على قوله: (إن الأدب الإنجليزي قد اتجه طول مدة القرن التاسع عشر نحو الصياغة اللفظية دون التفكير والاقتحام) ويرونه قد حاد كثيراً حين رمى الأدب الإنجليزي في القرن التاسع عشر بالضعف والقبح والفساد لأن هذا العصر الذي يمتد من عام 1798 إلى عام 1892 من أزهى عصور الأدب عندهم اشتهر بمذاهبه الأدبية الجديدة وبتنوع شعرائه وكتابه الذين خرجوا فيما ينظمون ويكتبون عن أساليب القدماء. وإلى القارئ ما يذكره المؤلفان الإنجليزيان (وايت و (كلي عن الأدب الإنجليزي في القرن التاسع عشر في كتابهما (الأدب الإنجليزي الحديث. ص1 - 3:
إذا كان من أن نقع على تاريخ يحدد لنا نهاية عصر من عصور الأدب أو بدايته، وكان من النادر أن يتفق مثل ذلك التاريخ مع فسحة الزمان إلى قرون أو عصور أو أجيال، فان القرن التاسع عشر قد أمتاز بأنه كان ممثلاً أحسن تمثيل لدور انتقال بين في الأدب الإنجليزي. نشر (وردثورث) و (كوليردج) (قصائدهما الغنائية) قبل بزوغ التاسع عشر بعامين فقط في عام 1798، فكان ذلك النشر خدمة عظيمة للفن والأدب وعاملاً من أهم العوامل التي قلبت المذاهب الشعرية الأولى وهدمت النظريات الأدبية القديمة، وكأني بتلك القصائد قد أعلنت نهاية الطريقة الاتباعية في الشعر بإحياء الطريقة الابتداعية
إن الروح الرومانتيكية لم تكن حتى أيام (ورد ثورث) و (كوليردج) قد استيقظت والأساليب الشعرية القديمة لم تكن قد نسخت.
هذا ما يذكره المؤلفان العالمان عن أهمية عام 1798 بالنسبة لتاريخ الأدب الإنجليزي، فلنصغ إلى حديثهما عن وحدة الأدب في القرن التاسع عشر:
(فعام 1798 إذن يكاد ينفرد في إنه يعين بوضوح ابتداء عصر جديد للأدب، عصر إصلاح وتجديد أطلق الشعر فيه من قيود (الاتباعيين) والقرن التاسع عشر يبدو لنا ذا وحدة تامة كما كان عصر الياصابات 1660 - 1798 فلم يفقد فيه الشعر الروح الابتداعية. التي أمده بها (ورد ثورث) ومعاصروه، وقد ظلت رواياته النثرية في تقدم مطرد. إن أدب العلم والتاريخ والفلسفة قد امتاز في هذا العصر بطريقته الجديدة التي أدنت مسائله وأوضحتها، والتي اختلفت عن طريقة القرن الثامن عشر اختلاف (دارون) عن (لوك)
قد ترى الأجيال المقبلة في مذاهب (ماثيو أرنولد) الاتباعية أو في الطريقة (الابتداعية) الجديدة التي دعا إليها (روسيتي) و (موريس) ما لم نره نحن من خطورة وأهمية، غير أن ما يمكننا قوله الآن هو أنه لم يقم حتى العهد الذي ظهر فيه (ورد ثورث) و (كوليردج) ثورة تهدم الطرق القديمة وتكون جديرة بأن تعتبر فاتحة عصر جديد.
لا ينبغي أن نطنب - طبعا - في وحدة أدب القرن التاسع عشر أو بالفروق التي كانت بينه وبين أدب القرن الثامن عشر، إن كل ما ننوي التحدث عنه هنا هو أن نظهر أن الوحدة الأدبية كانت فيه تامة، وأن الفارق الذي يدعونا إلى درس أدبه كأدب عصر خاص كان ظاهراً جلياً. ولقد تظهر فوارق الشعر أكثر وضوحاً في هذا العصر، يرجع ذلك إلى النزاع العنيف الذي قام بين شعراء المدرسة القديمة في القرن الثامن عشر وبين شعراء الطريقة الابتداعية في فجر القرن التاسع عشر؛ أما الروايات النثرية فمن المؤكد أنه لم يدخلها تبدل ظاهر، لأن روائي القرن التاسع عشر كان يرضيهم بوجه عام ان ينشروا فن أساتذتهم فحسب - أساتذة القرن الثامن عشر.
ولو تتبعنا حقل النقد الأدبي الآن لأمكننا أن نقع على تغير واضح في طرقه وأساليبه وقواعده، وهذا التغير يظهر بارزا جليا منذ اليوم الذي تفتحت فيه عبقرية (كارليل) ودفعت بالنقد في طريق جديدة. كان النقد في الربع الأول من هذا القرن يتفق في أصوله وأساليبه مع نقد القرن الثامن عشر، وكان الناقد هو من يحسن وضع الخلاصات، ويجيد المديح والهجاء، حتى إذا جاء (كارليل) كان أول مبشر بطريقة النقد الحديثة الصحيحة، التي يهمها الشرح والتفسير والإيضاح الأصولي للمبادئ الجديدة.)
دور 1798 - 1832. وخطره.
ويقول المؤلفان الفاضلان:
مات (اسكوت، وكريب، وبنتام) عام 1832 وعاش من بعدهم (ورد ثورث) ثمانية عشر عاماً أيضاً، و (كوليردج ولامب) عامين، و (مور) عشرين، و (سواسي) أحد عشر، و (كامبيل) اثنى عشر، لقد أدى كل واحد من هؤلاء الأعلام رسالته قبل عام 1832، أما (كارليل) و (ماكولي)، و (تنسون) و (هود) و (بالوير) و (ليتون) والسيدة (براوننك) من مشاهير الكتاب فلم يكونوا قد نشروا حتى عام 1832 سوى خواطر صباهم. وفي عام 1798 كان عمر كيتس وشيلي وبيرون يتراوح بين الثالثة والعاشرة، ثم لم يأت عام 1832 حتى كان قد مضى على وفاة الثلاثة ثماني سنوات أو أكثر، وهكذا تظهر لنا أهمية الخمسة والثلاثين عاما التي بين 1798، 1832 من الناحية الفنية الشعرية.
وفي الحق أنه ما من عصر من عصور الأدب الإنجليزي حتى عصر الملكة الياصابات يستطيع مناظرة هذا الدور 1798 - 1832 في سمو التصوير وسرعة الانتاج، فقد بذ ببدائعه الفنية الرائعة عصر الملكة الزاهر.
إن في مجرد تعداد كتاب الطبقة الأولى والثانية شيئا من الغرابة والقوة والتأثير، يكفي أن نذكر من الشعراء (ورد ثورث) و (كوليردج) و (بيرون) و (شيلي) و (كيتس) و (لاندور) و (مور) و (ساوس)، ومن الكتاب (اسكوت) و (اوستن) و (هازت) و (ويلسن)، حتى نجعلك تؤمن بعظمة هذا الدور، ثم إليك نتاج عام واحد: في عام 1806 ظهرت رواية (ايما) لجان أوستن، و (تشايلد هارولد)، (وحصار كورنث) و (سجين تشيلون) لبيرون، و (الفناء القديم) لاسكوت، (وحاجتنا إلى الجحود) لشيلي، وكثير من المؤلفات القيمة.
بعد كل ما تقدم ما أحسب أن القارئ يشايع الأستاذ واضح كتاب (التجديد في الأدب الإنجليزي الحديث) في قوله: (إن الأدب الإنجليزي قد اتجه طول مدة القرن التاسع عشر نحو الصياغة اللفظية دون التفكير والاقتحام)، وفي قوله: (ان العصر الفيكتوري ما بين 1830 و1900 كان عصر خمول في الأخلاق والأدب. . الخ) بل أعتقد أنه يرى الصواب والحكمة في معارضة الأستاذ محمود الخفيف له في رأيه هذا.
أما هذا التجديد الذي أشار الأستاذ سلامة موسى إلى ظهوره في الأدب الإنجليزي عام 1900 ووافقه عليه الأستاذ محمود فانه في رأي (وايت) و (كلي) لم يوجد حقيقة، وان الشعر في هذا العام وما أعقبه من أعوام (من عام 1892 - 1919) قد سرى إليه الضعف، وجهل أربابه (روبرت بريدج، بلانت، وليام ونسون، ارثر سيمون، حنا دافيد سون، كبلنج، هاردي) الغرض منه، فمالوا إلى زخرف القول وتدبيج اللفظ بأنواع البديع وأوغلوا في ذلك حتى قبحت مبانيهم وسمجت معانيهم. وإلى القارئ ما يذكرانه في كتابهما المشار إليه ص211 - 212.
(يرينا الشعر في هذا الدور 1892 - 1919 ضعفا بينا؛ ليس في صور التعبير وآداب النظم، بل في النجابة واتساع أفق التفكير؛ لقد تجنب فيه معظم الشعراء السجايا النفسية وعواطف الحب وفتنة الجمال، فاكتفوا بمغازلة الوداد العائلي، وقراءة أفكار الرجل من غير أن يتعرضوا لخوالج نفسه؛ كانوا أطفالا في تفكيرهم ونظراتهم، قل أن يخوضوا في البحث والجدل والتفسير، بل كان مجرد (التبليغ) هو كل ما تصبو إليه نفوسهم؛ يطربهم الجمال الطبيعي (الفيزيكي) أو أن يكتشفوا في صورة اصطلح الناس على تقبيحها شيئا يدعونه جمالا حقا؛ تقيدوا بأوزان العروض وعانوا طول الدرس ليتمكنوا من تحسين عباراتهم وتطبيقها على ما يتخيلون من التشابيه والاستعارات؛ هم تلامذة (لورد ثورث) نبذوا مثله الأسلوب الشعري ونظموا معظم منظوماتهم غنائية، إنما كانوا يوقعونها على أوتار خرساء، نعم على أوتار خرساء لأنها تقف بمعزل عن الحياة ومسائلها، ولا تدعونا إلى التفكير في سر الوجود والعدم تفكيراً يجعلنا نرى بعين عقلنا العالم أكثر وضوحا. .).
هذا ما رأيت أن أثبته تعقيبا على كلمة الأستاذ محمود الخفيف التي انتقد فيها كتاب (التجديد في الأدب الإنجليزي) تأليف الأستاذ سلامة موسى.
شرق الأردن
بشير الشريقي