مجلة الرسالة/العدد 628/رسالة الفن
مجلة الرسالة/العدد 628/رسالة الفن
10 - الفن
للكاتب الفرنسي بول جيزيل
بقلم الدكتور محمد بهجت
الفصل السابع - عن الأمس وعن اليوم
منذ بضعة أيام صحبت أوجيست رودان إلى متحف اللوفر إذ كان ذاهبا لمعاينة تماثيل أودون النصفية مرة أخرى. ولم نلبث أن وقفنا أمام تمثال فولتير النصفي وعندئذ صاح رودان:
(يا له من أعجوبة! إنه الخبث والدهاء بعينه. انظر! إن نظراته الشزراء لتبدو كأنها ترقب خصماً. أما أنفه فأقنى مستدق كأنه أنف ثعلب ليخيل إليك إنه يتشمم المثالب والمعائب من كل ناحية. ولتستطيع أن تراه بدمع. . . والفم! يا له من فوز عظيم! لقد خد بخطين من القذع والهجاء، ويلوح كأنه يغمغم بالتهكم والسخرية. ولا يسعك وأنت تنظر إلى فولتير هذا الذي يفيض نشاطاً وحيوية، ويغص سقاماً، والذي يعوزه الكثير من سمات الرجال - لا يسعك إلا أن تقول عنه إنه محدث بارع عجوز). وبعد فترة من التأمل عاود حديثه قائلا:
والعينان! إني لأرجع دواماً لمشاهدتهما. إنهما شفافتان، مضيئتان.
(ولكنك تستطيع أن تقول مثل هذا عن كل تماثيل أودون لقد أدرك هذا المثال كيف يجعل حدق العيون أكثر شفافية من أي مصور. إنه يخرقها ويثقبها ويبرزها، ويجعل بها معالي ومواطي بحيث تحدث تأثيراً فذاً عندما يقع عليها الضوء أو ينحرف عنها، ويقلد تلك اللمعة الحية التي بإنسان العين. وما أعظم ما تختلف التعابير التي بعيون كل هذه الوجوه! إنها تدل على الخبث من فولتير، وعلى الصداقة الطيبة في فرانكلن، والرقة المبهجة في السيدة هودون، وعلى المكر في ابنته وفي طفلتي برونيار الجميلتين. ولقد تعدل اللمحة عند هذا المثال أكثر من نصف التعبير، فهو يقرأ الأرواح من الأعين التي لا تخفى عليه سراً. ولهذا فلا داعي للتساؤل عما إذا كانت تماثيله مشابهة لأصحابها مشتبهة تامة).
وهنا استوقفت رودان سائلاً: (إذا أنت ترى أن المشابهة صفة هامة لازمة؟).
(لا ريب في ذلك فلا غنية عنها).
ومع ذلك يزعم كثير من الفنانين أن بعض التماثيل والصور يمكن أن تبلغ حداً كبيراً من الجمال من غير أن يتوفر فيها شبه قوي. وأذكر بهذه المناسبة حادثاً نسب إلى المصر إينر الذي شكت إليه سيدة من أن صورتها لم تأت شبهها. فأجابها بلهجته الإلزاسية:
(هيه يا سيدتي! بعد ما تموتين سوف يحسب ورثتك أنفسهم سعداء لأنهم يقتنون لوحة طيبة من ريشة إينر، ولكنهم سوف لا يجهدون أنفسهم البتة ليتحققوا مما إذا كانت تشبهك).
فقال رودان:
من المحتمل أن يكون المصور قال ذلك. وأغلب الظن أن هذا تسرع منه لا يمثل حقيقة أفكاره لأني لا أعتقد أن له مثل هذه الآراء الخاطئة في فن أبدى فيه براعة عظيمة وألمعية نادرة.
ولكن دعنا نتفهم أولاً مدى التشابه المطلوب توفره في تمثال أو صورة ما.
(إذا قصر الفنان نفسه على إظهار القسمات السطحية كما هو الحال في الفوتغرافية، أو إذا نسج معالم الوجه تماماً كما هي من غير ما رجوع إلى الخلق أو اعتباره فهو لا يستحق أي ثناء أو إعجاب. أما الشبه الذي يتحتم عليه إظهاره فهو شبه الروح. وهذا وحده بيت القصيد. وهو ما يجب على المثّال أو المصور أن يبحث عنه تحت ستار القسمات. وقصارى القول يجب أن تكون كل القسمات حافلة بالتعبير أو بمعنى آخر تكون ذات فائدة في الإفصاح عن شعور باطن).
(ولكن ألا يحدث في بعض الأحوال أن يكون الوجه مناقضاً للروح؟).
(وهل نسيت نصيحة لافونتين التي تقول: (لا تحكموا على الناس من ظواهرهم؟).
إن هذه النصيحة موجهة لأولئك الذين لا يتعمقون الأشياء، إذ كثيراً ما تخدع الظواهر نظراتهم العجلى. ويكتب لنا لافونتين أيضاً عن الفأر الصغير الذي حسب الهرة أعظم الحيوان حدباً وعطفاً. ولكنه يتكلم عن فأر صغير أي عقل غر ضعيف تعوزه القدرة على التمييز. ولا يسع من يدرس الهرة بإمعان إلا أن يجد في ظاهرها ما يحذره من القسوة التي تستتر وراء تناومها وتكمن في وداعتها.
وفي مقدور من يستطيع قراءة الوجه أن يميز بين من يصطنع الحنان وبين من طبع عليه، وانه لمن أخص واجبات الفنان أن يكشف عن الحقيقة ولو من المظاهر الخادعة.
ولتقرير الحقيقة أقول إنه لا يوجد عمل فني يحتاج إلى كثير من التعمق مثلما يحتاجه التمثال النصفي والصورة الإنسانية. وقد يقال أحياناً إن حرفة الفنان تتطلب مهارة يدوية أكثر مما تتطلب فطنة وذكاء. وما عليك إلا أن تدرس تمثالا نصفياً طيباً حتى تستطيع أن تدحض هذا القول وتصحح هذه الأغلوطة. إن عملا كهذا خليق بأن يترجم له. وأنت حين ترى تماثيل أودون مثلاً تخالك تقرأ فصولاً من مذكرات مدونة، فترى فيها العصر الذي عاشت فيه، والحرف التي احترفتها، والأجناس التي انتمت إليها وأخلاقها الشخصية، ترى كل ذلك فيها واضحاً جلياً.
وهاهو روسو قبالة فولتير. ترى في نظراته حذقاً وذكا وفطانة بالغة. وهذه ميزة عامة امتازت بها شخصيات القرن الثامن عشر. كانوا نقده. كانوا يناقشون ويجادلون في كل المبادئ والمعتقدات التي كان مسلماً بها من قبل من غير ما تحقيق وتمحيص. كانت لهم أعين فاحصة باحثة نفاذة.
أما عن نشأته من عامة السويسريين. كان سوقياً غير مثقف بقدر ما كان فولتير شريفاً نابهاً. وبينما ترى عظم وجنتيه البارز، وأنفه القصير، وذقنه المربعة تبين فيه ابن صانع الساعات والخادم الذي امتهن الخدمة من قبل.
وأما عن حرفته فهو الفيلسوف بجبهته المائلة المفكرة، ينتمي لطراز قديم يتجلى في العصابة التقليدية التي تدور حول رأسه. زري الهيئة بشكل ظاهر متعمد، أشعث أغبر مما يجعله قريب الشبه من ديوجنيس أو منيبس هو المبشر الذي يدعو للرجوع إلى الطبيعة وإلى الحياة البدائية الفطرية.
(وأما عن أخلاقه الشخصية فترى تجهما في وجهه ينم عن كراهية للنوع الإنساني، وحاجبيه المقطبين وجبهته المغضنة، ترى فيه الرجل الذي يشكو بحق ويتذمر من الظلم والاضطهاد).
(قل لي بربك. أليس هذا التعليق على الرجل بأحسن وأدق من اعترافاته؟
(ثم هاهو ميرايو إنه عصر بأكمله. يبدو بحالة تحد. شعره المستعار مشوش غير مصفف، بزته غير حسنة، وهيئته زرية، وكأن ريحاً من عاصفة ثائرة تمر على هذا الوحش الكاسر الذي يهم بالزئير أو يرعد بجواب على سؤال يلقى إليه.
(ولنتقص نشأته الآن: نتوسم في طلعته المهيبة، وحاجبيه الدقيقين المقوسين، وجبهته المرتفعة المتعجرفة شريفا كان في زمرة الأشراف، ولكن ديمقراطية خديه الثقيلين المجدورين ورقبته الغائرة بين كتفيه جعلت الكونت دي ريكتي - ميرابو - يجوز على تيير ويفوز بعطفه ومراحمه ومن ثم أخذ يدافع عنه.
(ولننتقل إلى حرفته: إنه القاضي، يبرز فمه إلى الأمام كأنه بوق على وشك أن ينفجر منه الصوت مجلجلا. يرفع رأسه عالياً لأنه قصير كما هو شأن جمهرة الخطباء. ونرى في مثل هذا الطراز من الرجال أن الطبيعة تزيد في قوة الصدر والأضالع على حساب الطول. أما العينان فلا تثبتان على شيء معين وإنما تدوران على جم غفير. يا لها من نظرة عظيمة غامضة! ناشدتك الله خبرني أليس من أجل الأعمال وتمام الفوز أن يمثل في هذا الرأس وحده جمعاً حاشداً بل أمة بأسرها تصغي وتستمع؟
ولنبحث بعد ذلك عن أخلاقه: لاحظ الشفتين الحساستين، والذقن المزدوجة، والمنخر المرتعد فترى الآثام والانغماس في الشهوات وطلب الملذات مرتسمة عليها جميعاً. نعم تراها كلها هناك. وإني لمخبرك بذلك.
وإنه لمن السهل الهين أن نقرأ في كل تماثيل أودون مختلف الأخلاق على هذا النمط.
وهنا أيضا تمثال فرانكلن: ترى فيه هيئة عظيمة، وخدين ثقيلين متدليين فتقول هذا هو الصانع السابق، ثم الشعر الرجل الطويل الذي يشبه شعر الرسل، وحب الخير والمعروف مرتسما فتقول هذا هو، ريتشارد المهذب الطيب القلب.
ثم إن جبهته العالية المائلة إلى الأمام تتسم بالعدد وتنم عن الثبات والصبر الذي أظهره فرانكلن في تحصيل علومه، وفي السمو بنفسه حتى أصبح معلماً نابهاً يشار إليه بالبنان. وأخيراً إلى تحرير وطنه. ذكاء جم تفيض به العينان ويكمن في زوايا الفم. على أن أودون لم ينخدع بجسامته فابان فيه مادية الرجل المالي الذي جمع مالا فأخلده، ودهاء السياسي الذي استظهر بواطن السياسة الإنجليزية. فها هنا نرى أحد أسلاف أمريكا الحديثة على قيد الحياة (عجباً! ألا ترى في تلك التماثيل البديعة أخباراً متقطعة عن نصف قرن؟ وأن أكثر ما يسر النفس من تلك المذكرات المتخذة من الصلصال والرخام والشبه كما هو الحال في أجمل القصص المكتوبة - هو جمال أسلوبها الناصع، ورشاقة اليد التي دونتها وفيض تلك الشخصية الساحرة - الفرنسية لحما ودما - التي خلقتها، إن أودون هو سنت سيمون لكن تنقصه نزعاته الأرستقراطية. هو في ذكاء سنت سيمون ولكنه أسمى منه عاطفة. آه يا له من فنان مقدس!).
دكتور محمد بهجت
قسم البساتين