انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 623/قصة النمل الأبيض. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 623/قصة النمل الأبيض. . .

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 06 - 1945


قالت نملة حمقاء لجماعة من النمل الأبيض أنقذها الفرار من أخفاف الفيلة: لم لا نعمل كما عمل (تيتو) وقد صنع الحلفاء بنا ما صنعوه به، فجعلوا على جوانبنا أجنحة، ووضعوا في أفواهنا أسلحة؟

قالت لها الجماعة: وماذا تريدين أن نعمل يا ذات الأجنحة الأمريكية والأسلحة الإنجليزية؟

قالت: نهجم على هذه الجماعة البشرية وهي في نشوة من وعود النصر، وغفوة من عهود السلام، فنخرجها من دار أمية، أو ندفنها في أنقاضها وهي حية؟

وكان في الجماعة نملة متصوفة من أتباع (مسنيون) يكفر بخطب الحجاج، وتؤمن بطواسين الحلاج، فنهضت تقول وفي عينها رقراق من الدمع: ولم هذا البغي يا أختاه! أنسيت والعهد قريب، بطشة الجبارين بأرضنا العزيزة وأهلها يومئذ يتقلبون في النعمة ويتبسطون على الأنس؟ أنسيت والهول لا يزال يعصف بالقلوب، تلك الجبال التي كانت تسير فتنفجر منها الحمم، والقلاع التي كانت تطير فتنهمر منها الصواعق، ونحن نلوذ بأجواف الأرضين فلا يمنعنا ذلك دون أن نسحق أو نحرق؟ ولولا أن جاءنا النصر بطريق القرض، لبقينا كاليهود مشردين في الأرض؟ فهل يزكو بمن قاسى معرة الظلم أن يظلم، وبمن كابد مذلة الحرمان أن يحرم؟ ثم أسمعك تذكرين الأجنحة المستعارة، كأنك لا تذكرين الحكمة التي تقول: لا يزال النمل بخير ما لم تنبت له أجنحة؛ فإذا نبتت أجنحته وأخذ يطير، صادته العصافير. وهل في أمة النمل أحد ينسى قول أبي العتاهية شاعر الأنس:

وإذا استوت للنمل أجنحة ... حتى يطير فقد دنا عطبهْ

فما كان جواب النملة الحمقاء إلا أن قالت في ضحكة ساخرة ولهجة ماكرة: إنك لا تزالين يا صديقتي متأخرة، ومن العجيب أنك تنسبين إلى أمة متحضرة ودولة مستعمرة! على أننا لا نجادلك بوصايا سان فرنسسكو، ولا بنصائح وشنطون ولندرة وموسكو إنما، نجادلك ببرهان العمل وسلطان الواقع. وما هي إلا دمدمة كعزيف الجن حتى غامت السماء بالنمل، وسالت الأرض بالحشرات، وأخذت هذه الطير الأبابيل، ترمي الناس بحجارة من سجيل. ولم يغن عن العزل الأبرياء دعس النعال، في دفع هذه النمال؛ فاستحر القتل، وأثخنت الجراح، وانتشر النهب، وفشا الخراب، وكاد النصر المؤقت يتم لهذه الحشرة الباغية لولا أن صاح من الجانب الغربي صائح يقول وفي يده بوقه وعلى رأسه بنوده: (يا أيه ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده)! فلم تبق نملة سمعت هذا الصوت من ذلك البوق، إلا دخلت مذعورة في شق من الشقوق! وهيهات ألا يبعث الله من في القبور؛ إلا يوم ينفخ إسرافيل في الصور!

وحينئذ قالت النملة المتصوفة الحكيمة وهي تنفض رأسها استهزاء بالضعيف المغتر والذليل المعتز: أليس من خيبة الحكمة ألا ينفض مشكل، إلا بجن سليمان أو أسطول تشرشل؟!

ابن عبد الملك