انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 623/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 623/القصص

ملاحظات: ناظرة المدرسة На подводе هي قصة قصيرة بقلم أنطون تشيخوف نشرت عام 1897. نشرت هذه الترجمة في العدد 623 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 11 يونيو 1945



ناظرة المدرسة

لأنطوان تشيكوف

بقلم الأستاذ محمد قطب

في منتصف الساعة التاسعة خرجت العربية من المدينة. وكان الطريق الجبلي جافاً وشمس أبريل الضاحية المشرقة تنشر الدفء والبهجة وإن كان الجليد ما زال باقياً في الحفر وفي ثنايا الغابات، فقد انتهى الشتاء المظلم الطويل ولما يكد، وطلع الربيع فجأة على غير انتظار. ولكن الدفء الجميل ومنظر الغابات الشفافة التي أنعشتها نسمات الربيع الدافئة، والطيور المحلقة في جماعات كبيرة فوق المستنقعات العظيمة التي تبدو كالبحيرات، والسماء الصافية الرائقة التي تبعث الرغبة في الانطلاق، وتخيل لإنسان أن يرتقي إليها صعدا فيوغل أرجائها الفسيحة. . . كل أولئك لم يكن ليبعث معنىً واحداً جديداً في نفس (ماريا فاسيلفينا) التي كانت تجلس في العربة. فهي ناظرة مدرسة منذ ثلاث عشر سنة، ولا يستطيع أحد أن يحصي عدد المرات التي ذهبت فيها إلى المدينة لتقبض راتبها. وسواء كان الوقت ربيعاً كما هو الحال اليوم، أو كان يوم خريف ممطر أو شتاء مظلم، فلا فرق لديها أبداً. وهو إحساس واحد يختلج في نفسها كل مرة: هو التطلع إلى إنهاء هذه الرحلة بأسرع ما يكون.

وخيل إليها أنها تعيش في هذا المكان منذ أجيال طويلة وآماد بعيدة، وخيل إليها أنها تعرف كل صخرة وكل شجرة في الطريق من المدينة إلى المدرسة، لقد كان هنا ماضيها وحاضرها. ولا تستطيع أن تتخيل لها مستقبلاً آخر غير المدرسة والطريق إلى المدينة والعودة إلى المدرسة وهكذا. . . إلى ما شاء الله.

وقد أقلعت عن التفكير في ماضي حياتها قبل أن تصبح ناظرة مدرسة بل كادت تنساه. . . لقد كان لها - ذات يوم - والد ووالدة وكانا يسكنان في موسكو في منزل فخم. ولكن لم يبق في ذاكرتها من هذا كله إلا أشياء غامضة باهتة كطائف الأحلام فقد مات أبوها وهي في العاشرة من عمرها وماتت أمها على أثره. وكان لها أخ ضابط في الجيش وكانا يتراسلان بين الحين والحين، ولكن أخاها قطع عنها مراسلاته ولم تعد تعلم عنه شيئاً. ولم يبق لها ما يربطها بالماضي البعيد إلا صورة لأمها. . . وحتى هذه قد بهجت معالمها من أثر الرطوبة في المدرسة ولم يبق منها إلا شعر الرأس والحاجبان.

كانت ماريا - في أثناء الطريق - تفكر في مدرستها وفي الامتحان الذي سيقع في القريب وفي البنت والأولاد الأربعة الذين سترسلهم إليه. وبينما هي مسترسلة في أفكار الامتحان أدركها أحد الجيران من كبار الملاك - رجل يدعي هانوف - في عربة تجرها أربعة جياد وكان بعينه الرجل الذي امتحن تلاميذها في العالم الفائت. فلما رآها عرفها وانحنى لها محيياً وهو يقول: (صباح الخير. أنت عائد إلى المدرسة فيما أظن)

كان هانوف هذا في الأربعين من عمره؛ رجلا بارد العاطفة يبدو في وجهه اثر الإجهاد وكان الهرم قد بدأ يدب غليه ولكنه مع ذلك وسيم محبوب من النساء.

وكان يعيش في منزله الكبير بمفرده - ولم يكن موظفاً - وكان الناس يقولون عنه إنه لا يصنع شيئاً في المنزل إلا أن يروح ويجئ في الغرفة وهو يصفر بفمه أو يلعب الشطرنج مع سائق عربته ويقولون كذلك إنه مدمن للشراب، وهذا حق، فقد كانت الأوراق التي أحضرها معه في الامتحان تفوح برائحة الخمور. . . وقد كان في ذلك مرتدياً ملابسه الجديدة وبدا في عيني ماريا وجيهاً جذاباً، وكانت طوال جلستها إلى جانبه في غمرة من الانفعالات والأحاسيس. لقد تعودت أن ترى ممتحنين غلاظاً حفاة، وآخرين معقولين معتدلين، ولكن هذا كان نموذجاً فريداً فلم يكن يدري في أي موضوع يسأل! ولم يكن يعطي التلاميذ أقل من الدرجة النهائية!

قال موجهاً كلامه إلى ماريا فاسيلفينا: (إنني ذاهب لزيارة باكفست ولكني أخبرت أنه ليس في المنزل)

ثم انحرفوا عن الطريق الصاعد في الجبل إلى طريق جانبي يؤدي إلى القرية، وكان هانوف في المقدمة يليه سيميون. وكانت الجياد الأربعة تتحول بسرعة ضئيلة وهي تجر وراءها العربة الثقيلة وسط الأوحال، أما سيميون فقد كان يتأرجح من جانب إلى جانب في الطريق وكثيراً ما كان ينزل من العربة ليساعد حصانه الهزيل

كانت ماريا فاسيلفينا ما تزال تفكر في المدرسة وفيما إذا كانت أسئلة الحساب ستأتي مناسبة لمستوى التلاميذ أو صعبة على أفهامهم.

وأحست في هذه اللحظة بالغضب والاستياء من رجال المنطقة الذين لم تجد أحداً منهم في اليوم الفائت. ما أبعدهم عن الشعور بمسئولية العمل! لقد مر عامان وهي تطلب تغيير البواب الذي لا يقوم بأداء عمل ما يعاملها معاملة خشنة ويضرب التلاميذ؛ ولكن أحدا لم يعرها التفاتاً. وكان من المتعذر عليها أن تجد حضرة المراقب في مكتبه، فإذا وجدته بعد لأي أجابها والدموع في عينيه إنه لا يجد لحظة فراغ واحدة يبحث فيها الطلب!

أما المفتش فهو يزور المدرسة مرة كل ثلاثة أعوام! ولم يكن يعرف عن طبيعة عمله شيئاً. فقد كان موظفاً في مصلحة الضرائب وحصل على وظيفة التفتيش بطريق الوساطة والاستثناء!

وكان راعي المدرسة مزارعاً يكاد يكون أمياً، وكانت به جلافة وضيق عقل، وكان صديقاً حميماً للبواب يحميه من كل سوء.

فلمن تتقدم بشكواها وقد أوصدت أمامها الأبواب؟

قالت لنفسه وهي تنظر إلى هانوف (إنه حقيقة وسيم)

وزاد الطريق سوءاً. وكانت العجلات تغرق في الماء وتثير رشاشاً حاداً يضربهم في وجوههم. فقال هانوف وهو يضحك: (يا له من طريق!).

وتأملته الناظرة حيناً فلم يستطع أن تدرك لماذا يعيش هذا الرجل العجيب هنا. وكيف يتناسب جاهه ووسامته وابهة منظره مع هذا المكان المظلم القاتم الغارق في الطين؟ ليست له أية مصلحة. في الحياة هنا، وها هو ذا يقود جياده في ذلك الطريق المتعب كما يفعل سيميون ويلاقي ما يلاقيه هذا النصبوعنت. . . لماذا يبقى الإنسان هنا ما دام يستطيع أن يعيش في بطرسبورج أو في مدن القارة الكبرى؟

لقد كان من الواضح أن هانوف لم يكن يحس وطأة هذه الحياة أو يرغب في احسن منها. لقد كان عطوفاً، لينا، ساذخاً، لا يدرك غلطة هذه الحياة؛ كما كان - أثناء الامتحان - لا يعرف موضوعات الامتحان.

وأيقظها سيميون من تفكيرها حين صاح بها (أمسكي بالعربة جيداً) فقد قفزت العربة فجأة وكادت تنقلب وأحست ماريا بشيء ثقيل يقع على قدميها فإذا هو حقيبتها وبداخلها ما ابتاعته من المدينة في الصباح. كان الطريق يصعد راسياً في الجبل والأوحال تغطيه من كل جانب وكانت الخيل المجهدة تلهث من التعب فنزل هانوف وسار بجانب العربة يمسح عرقه قائلاً (ياله من طريق!) وضحك مرة أخرى وهو يقول. (إنه كفيل بأن يحطم العربة).

فرد سيميون بلهجة أدبي إلى التوقح (إلا أحد يضطرك إلى الركوب في يوم كهذا. كان الأجدر بك أن تبقى في المنزل)

فقال (إنني أضيق بالمنزل يا جدي ولا أحب البقاء فيه)

وكان يبدو بجانب سيميون العجوز رشيقاً متوفزاً ومع ذلك فقد كان في مشيته شيء خفي يكشف عن بيان بدأ يدب فيه الضعف والانحلال. وأحست ماريا بشعور يملؤها بالخوف والعطف على هذا الرجل الذي يسير في طريقه إلى الانحلال لغير ما سبب مفهوم. وخيل إليها أن لو كانت هي زوجته أو أخته لجعلت حياتها كلها وقفاً على إنقاذه مما هو فيه. زوجته! لقد شاءت الظروف أن تجعله يعيش في بيته الفسيح منفردا وتعيش هي هذه القرية اللعينة بمفردها ومع ذلك فإن مجرد التفكير في أن يكون كلاهما بجوار الآخر مساوياً له يبدو أمراً مستحيل الوقوع.

في الحق إن ظروف الحياة وملابسات بني الإنسان قد ركبت تركيباً عجيباً يقف الإنسان أمامه حائراً عاجزاً عن تفهمه فإذا لم يجد له حيلة عاد مثقل الفؤاد.

قالت لنفسها وهي تفكر في ذلك (إنه لمن أخفى الأمور وأصعبها فهما أن يعطي الله هذا الجمال وهذه الرشاقة وتلك العيون الحزينة الجميلة لقوم ضعفاء تعست حظوظهم فلا يصلحون لشيء لماذا. . . لماذا يجعل الله فيهم كل تلك الفتنة الجذابة؟)

قال لها هانوف وهو يستقل العربة (هنا يجب أن أنحفر إلى الشرق. وداعا! أرجو لك كل شيء حسن!)

وعادت تفكر في التلاميذ وفي الامتحان وفي البواب وحين نقلت الريح إلى سمعها صوت العجلات المبتعدة اختلطت أفكارها تلك بأفكار أخرى. وأحست بالشوق إلى التفكير في العين الجميلتين، وفي الحب، وفي السعادة التي لن تكون. . . زوجته؟

لقد كانت تحيا حياة قاسية. الجو بارد في الصباح، ولا أحد يوقد الموقد، وقد اختفى البواب، والتلاميذ يتوافدون بمجرد ظهور الضوء يحملون قطعاً من الثلج والطين ويتصايحون في ضجة عظيمة. كل شيء متعب مقلق للأعصاب. وكان مسكنها يتكون من غرفة واحدة صغيرة يتبعها المطبخ. وكانت تشعر بالصداع بعد انتهاء العمل ويصيبها الالتهاب بعد كل أكلة. وكان عليها أن تجمع النقود من الأطفال للخشب وللبواب وأن تعطيها لراعي المدرسة ثم ترجوه - وهو ذلك الفلاح الفظ الغليظ - أن يرسل إليها الخشب. وفي الليل كانت تحلم بالامتحان والفلاحين والعواطف الثلجية. . . ما أقسى هذه الحياة التي تسرع بها إلى الهرم وتجعلها تبدو قبيحة محدودبة ثقيلة كأنما خلقت من رصاص.

لقد كانت أبدا خائفة قلقة. وكانت تنتفض واقفة ولا تجسر على الجلوس في حضرة أحد موظفي المراقبة أو راعي المدرسة. وتستعمل العبارات الرسمية والتحيات المبجلة في حديثها معهم.

ولم يكن أحد يظنها جذابة. وكانت حياتها تمر جافة مزعجة بغير عاطفة حية ولا إحساس صداقة ولا معارف يشاركونها بعض هموم الحياة.

ما أعجب حياتها لو وقعت في الحب وهي في حالتها تلك!

(أمسكي جيداً يا ماريا!)

مصعد آخر في الجبل.

لقد أصبحت ماريا ناظرة تحت ضغط الضرورة. ولم تكن تشعر بأي ميل لهذه المهنة. ولم تتجه قط إلى مهنة بعينها ولا كانت تفكر في خدمة ذلك الغرض النبيل: غرض التعليم والتثقيف. وكان يخيل إليها دائماً أن المهم في الأمر كله ليس هو التلاميذ ولا التعليم وإنما هو الامتحان.

ومن أين لها الوقت لتفكير في شرف المهنة وفي خدمة الثقافة؟

إن المدرسين والأطباء ضئال الأجور، بما يرزحون تحته من أعباء مرهقة عنيفة، لا يجدون ما يخفف عنهم، ولا حتى الاعتقاد بأنهم يخدمون فكرة عليا أو يخدمون الناس، ما دامت رؤوسهم دائماً مشغولة بالتفكير في أمر القوت اليومي وفي المرض وفي سوء حالة الموصلات. . .

إنها حياة شاقة مملة، لا يستطيع احتمالها طويلاً إلا (حمير الشغل) من أمثال ماريا فاسيلفينا. أما أولئك المتوفزون الذين تتدفق الحياة في جنوبهم والذين يتحدثون عن شرف المهنة وعن خدمة الأغراض النبيلة فسرعان ما يدركهم الملل من التدريس فينفضون أيديهم منه.

كان سيميون يجعل باله دائماً إلى اختيار أقصر الطرق وأكثرها استقامة ولكنه كان يجد العراقيل دائماً في الطريق، فهنا أحد الفلاحين لا يسمح له بالمرور، وهناك أرض القسيس لا يخترقها أحد، وفي جهة ثالثة قد اشترى بعضهم قطعة أرض وحفر حولها حفرة فلا سبيل إلى عبورها، وهكذا كان يضطر بين الحين والحين إلى تغيير طريقه ووجهته.

ومروا في أثناء الطريق على قرية (نيز هناي جورود ينشى) فقال سيمون (لقد كانوا يبنون مدرسة هنا أخيراً. وكان هذا فقال سيميون (لقد كانوا يبنون مدرسة هنا أخيراً. وكان هذا عملاً سيئاً جداً!).

فقالت ماريا باستغراب (لماذا؟)

(يقولون إن المراقب أخذ ألف جنيه في جيبه وأخذ راعي المدرسة ألفاً أخرى وأخذ المدرس خمسمائة)

(لقد تكلف المدرسة كلها ألف جنيه. فمن الخطأ يا جدي أن تفتري على الناس مثل هذه الأكاذيب)

لا أدري. . . وإنما أخبرتك بما سمعت من الناس)

ولكن كان من الواضح أن سيميون لم يصدق الناظرة. ولم يكن الفلاحون يصدقونها كذلك. فقد كانوا يعتقدون أنها تأخذ راتباً ضخماً: عشرين روبل (وكان يكفيها خمسة) وأنها كانت تأخذ لنفسها معظم المال الذي تجمعه من التلاميذ باسم الخشب وباسم البواب، وكان راعي المدرسة يعتقد ذلك أيضاً، وكان هو يدوره يجعل لنفسه ربحاً من المال المجموع للخشب، وكان يأخذ هبات من الفلاحين بصفة كونه راعي المدرسة بدون علم السلطات المختصة. .

وأخيراً خرجوا من الغابة إلى الطريق المستوي الذي يؤدي إلى فيازوفيا، وكان عليهم أن يعبروا النهر ثم خط السكة الحديد فيصبحوا على مرأى البصر من فيازوفيا.

قالت ماريا (إلى أين أنت ذاهب يا سيميمون؟ خذ الطريق الأيمن إلى الجسر؟

(نستطيع أن نذهب من هذا الطريق أيضاً. وليس النهر عميقاً هنا)، (وأحذر أن تغرق الحصان) (ماذا؟) فقالت: ماريا وقد رأت الجياد الأربعة عند بعد: (أنظر إن هانوف في طريقه إلى الجسر إنه هو، أليس كذلك؟) (نعم: فهو إذن لم يجد باكفست في منزله. ألا ما أغباه! لأي شيء قاد عربته إلى هناك وكان يستطيع أن يجئ من هنا فيوفر على نفسه ميلين كاملين)

ثم وصلوا إلى النهر. وهذا النهر يصبح في الصيف جدولا صغيراً يسهل عبوره ويجف عادة في شهر أغسطس، أما الآن بعد ذوبان الثلوج فإن عرضه يصل إلى أربعين قدماً وهو سريع الجريان كثير الوحل بارد المياه

صاح سيميون في حصانه وهو يجذب اللجام بحدة وعنف (هلم! أسرع!) فنزل الحصان في الماء حتى بطنه ثم وقف؛ ولكنه ما لبث أن تحرك بجهد عظيم، وأحست ماريا بالصقيع في قدميها فصاحت هي الأخرى (أسرع! أسرع!).

وحين وصلوا إلى الضفة الأخرى كان حذاؤها قد امتلأ بالماء وابتل اسفل ردائها وأخذ أكمامها يقطر ماء. واختلط الماء بالسكر وبالدقيق اللذين اشترتهما من المدينة، وكان هذا فوق ما تطيقه ماريا ولكنها لم تجد لها حيلة إلا أن تشبك أصابع يديها في يأس وتصحيح (إنك متعب، متعب يا سيميون. كم أنت متعب!)

وكان الحاجز الذي يغلق الممر قد انزل قبل أن يجئ القطار من المحطة فوقف ماريا تنتظر مروره وجسمها كله يرتعد من البرد. وكان أمامها على مدى النظر قرية فيازوفيا والمدرسة بسقفها الأخضر والكنيسة بصلبانها اللامعة في ضوء الشمس الغاربة وكانت نوافذ المحطة تلمع كذلك في الضوء والدخان الأسود يرتفع من مدخنة القاطرة. . . وخيل إليها أن كل شيء يرتعد من البرد!

وأخيراً جاء القطار. وكانت نوافذه تعكس النور في عينيها فتعشهما. وبينما هي تحدق في العربات السائرة أمامها على مهل أبصرت بين عربتين من عربات الدرجة الأولى سيدة واقفة فتأملتها وهي تمر بها. يا لعجب! أمها! ما أشبهها بها! لقد كان لأمها مثل هذا الشعر الفخم ومثل هذين الحاجبين وكانت ثنيات وجهها تشبه هذا الوجه إلى حد كبير.

ولأول مرة منذ ثلاثة عشر عاماً برزت أمام مخيلتها بوضوح عجيب ودقة تامة صورة أمها، وأبيها وأختها، ومنزلهم في موسكو وكل شيء من الماضي بتفاصيله الدقيقة. وسمعت من أعماق ذلك الماضي نغمات البيانو تنبعث في الفضاء وصوت أبيها يناديها وأحست - كما كانت تحس إذ ذاك - أنها شابة جميلة، رشيقة، وخيل إليها أنها جالسة في غرفتها الدافئة على كرسي وثير وحولها أقاربها وغمرها شعور مفاجئ بالبشر والسعادة فغمرت خديها بيدها في نشوة عارمة ونادت هامشه في ضراعة (أماه!)

وطفقت تبكي. لا تدري لم؟ وفي تلك اللحظة ذاتها وصل هانوف بعربته وجياده الأربعة. وما أن رأته حتى أحست بالسعادة كما لم تحس من قبل أبداً. وابتسمت وهزت رأسها محيية له باعتباره صديقاً ونداً لها. وخيل إليها أن سعادتها بل انتصارها يملأ الفضاء من كل جانب ويلمع في النوافذ وفي الأشجار وعلى أوراق الزهور! وأن أباها وأمها لم يموتا أبداً وأنها لم تكن قط ناظرة مدرسة. وأن هذا كله كان حلماً مزعجاً طويلاً أفاقت منه هذه اللحظة.

(أركبي يا ماريا!)

وفجأة انتهى كل شيء. . . ورفع الحاجز ببطء وصعدت ماريا إلى العربة وعي ترتعش من الصقيع. وعبرت العربة ذات الجياد الربعة خط السكة الحديد وتلاها سيميون. ورفع عامل الإشارة قبعته محيياً). (ها هي فيازوفيا. وها نحن أولاء).

قطب