انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 621/صفحة من تاريخ الاستكشاف:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 621/صفحة من تاريخ الاستكشاف:

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 05 - 1945



فيتوس بيرنج

للأستاذ محمود عزت عرفة

بقية المنشور في العدد الماضي

الرحلة الثانية والأخيرة:

أمدت كترينا بيرنج بستمائة من الرجال بينهم لفيف من العلماء الأكفاء ذوي التخصص، وبمحمول تسع مركبات ضخمة من الأجهزة العلمية الهامة، بينها بعض المناظير المكبرة التي يبلغ طول واحدها خمس عشرة قدماً. وصحت نية بيرنج على ابتيناء ثلاث سفن إحداها لكشف اليابان، والأخريان للبحث عن أمريكا. وقد تكررت في الرحلة الثانية متاعب السفر الأول ومشقاته، وإن كان بيرنج قد حاول تخفيف ذلك بإنشاء مصهر للحديد في ياكتسك يستعين به على تجهيز سفنه وتيسير إعدادها.

وانطوت ثلاثة أعوام قبل أن تبحر السفينتان الأوليان، وكانت مخازن الذخيرة ومراكز التموين قد أنشئت على امتداد الطريق البرية. وفي عام 1736 م تناهي الأنباء بأن الجليد قد حصر إحدى الفرق المتقدمة، وأن أفرادها يهلكون جوعاً وبرداً. وبادر بيرنج بإرسال النجدات الممكنة، ولكن لم له أن ينقذ من أفراد الفرقة البالغ عددهم ستين رجلاً أكثر من ثمانية. .

وبالرغم من هذه العوائق الموبقة تمكن سبانجنرج - وكان قد عهد إليه أمر البحث عن اليابان - من استكشاف جزائر كوريل وتصوير سواحلها. وكان بهذا قد بلغ اليابان حقيقة، ولكنه لم يجد - ويا للأسف - من يصدق منه هذه الدعوى!

وشحت الأقوات لدى البعث حتى لم يجد بيرنج بداً من استجلاب المزيد منها من بطرسبرج على مسافة ألف ميل عبر اليابسة ذهاباً ومثلها إياباً، يضاف إلى ذلك عبور بحر كامتشاتكا إلى حيث تقوم السفن بعملياتها الاستكشافية.

وأنشأ بيرنج سفينتان أخريين ليقودهما بنفسه بحثاً عن أمريكا ثم انطلق بهما عبر المحيط يناضل نضاله الأخير. وكان ذلك في شهر يونية من عام 1741، أي بعد انطواء أكث سبعة أعوام على خروجه الثاني من بطرسبرج.

وقد خلد بيرنج ذكر سفينتيه سنت بيتر وسنت بول حين صاغ من اسميهما علماً للمدينة الجديدة التي أنشأها في كامتشاتكا ودعاها بتروبافلوفسك.

وكانت بسنت بيتر تقل سبعين رجلاً على رأسهم بيرنج، وفيهم العلامة الطبيعي المشهور جورج وليم ستللار وحملت السفينة الثانية ست وسبعين رجلاً. ثم انطلقت السفينتان صوب الشمال فيما يعرف اليوم باسم بحر بيرنج، وكان من شاطئ آسيا الشرقي إلى ميسرة القوم وإن لم يكن منهم بمرأى، وانقضت ثمانية أيام استدار بعدها بيرنج نحو الشرق، وسرعان ما هبت قواصف المحيط في عنف ففرقت ما بين السفينتين. ومضت سنت بول في تيه فسيح من البحر الخضم؛ فاضطر بيرنج كي لا يفقدها أن يتحرك في دائرة منداحة طيلة شهر كامل. ولكن لم يقدر مع ذلك أن يلتقي بها مرة أخرى. . . لقد فقدها إلى الأبد.

على أن بيرنج رأى عرضاً هدفه المقصود - أمريكا - حين كان يجد في البحث عن سنت بول، وكان ذلك في التاسع عشر من يولية سنة 1741؛ وبهذا تحقق الحلم الذي كان يتراءى له ويضنيه تحقيقه مدة ستة عشر عاماً.

وكان أول ما بدا له من أرض القارة الجديدة جبل شامخ البناء رفيع السمك أسماه (سنت إيليا). . . إذ كان بيرنج رجلاً تقياً متديناً كأكثر أولئك المغامرين البواسل من أبطال التاريخ.

حقائق جغرافية:

لزم بيرنج ساحل القارة الجديدة ستة أسابيع على أمل أن يلتقي بالسفينة المفقودة؛ وكان بجولته هذه قد عبر المضيق المعروف باسمه ورأى رأى العين كيف تنتهي آسيا وتبدأ أمريكا.

ويبلغ عرض هذا المضيق في أضيق أجزائه ستة وثلاثين ميلاً وهو مرصع الصفحة بعدد من الجزائر يقوم سكانها منذ كانوا بمهمة الربط بين القارتين عن طريق التجارة وتبادل السلع.

والحق أن بيرنج كان قد بلغ موضعاً من الأرض ينطق بأروع ما تتكشف عنه غرائب الطبيعة. . . فثمة تبدو مظاهر الانخساف الهائل في اليابسة بكيفية نشأ عنها انهيار تلك القنطرة التي كانت تصل في يوم ما بين العالمين القديم والجديد؛ وثمة كان يمتد الطريق التاريخ الذي اجتازته طوائف البشر والحيوان قديماً منتقلة من آسيا إلى أمريكا، وهو الطريق الذي يعلل وجودُه نشوءَ الأمريكيين كسليلين لجديهما المهاجرين من العالم القديم، والذي مكُّن كذلك للجمل الأسيوي القديم من أن ينشئ حفدته على سفوح جبال أمريكا باسم. . .

ويقول العارفون من علماء الجغرافيا إن جو هذه المناطق كان استوائياً شديد الحرارة في الزمن القديم؛ وهم قد وجدوا تأييداً لدعواهم - في أكثر الجزائر التي أرسى عليها بيرنج - عظاماً نخرة وبقايا هياكل مطمورة لحيوان الماموث والكركدن والخرتيت والنمر والوعل وغيرها من تلك الأحياء التي لا تألف اليوم إلا أشد الأقاليم حرارة. . .

وكان من غريب ما جرى لبيرنج أن انقطعت أخبار الرواد الأوائل العشرة الذين أرسلهم ليستطلعوا طِلع العالم الجديد، وكذلك كان مصير الأربعة الآخرين الذي تعقبوهم باحثين عنهم!

خاتمة بيرنج:

زحف الشتاء بخيله ورجله فلم يجد بيرنج بدأ من أن يهُرع إلى الجنوب الغربي ناجياً بنفسه من ويلاته. وهبت قواصف المحيط من شدة وعنف ولجَّت في العبث بالسفينة حتى أضلتها الطريق سبعة عشر يوماً. وقد دهم هذا الزمهرير القوم ودهم بين سماء وماء يتلمسون عبثاً طريقهم إلى ساحل كامتشاتكا؛ وكانت أبدانهم قد نحلت وضوت من سوء التغذية ففشا بينهم داء (الأسكربوط). وأنفقوا أياماً طويلة في أحضان المحيط وهم يتخبطون بين منهال الجليد ومنهل المطر، في حين كان الثلج المتساقط من أمراس السفينة يرض أجسامهم ويكاد يفضخ منهم الرءوس. وازدادت الأطعمة شحاً في مقدارها وقلة في غنائها حتى نهكت القومَ الأدواء، وعلَّ الموت فيهم ونهِل.

وقد شلت ساقا النوتي على سكان السفينة، وبدأ أكثر البحارة يعجزون عن الاضطلاع بأعباء عملهم يوماً بعد يوم. وكان من سخرية القدر أن يعجز الرجل الذي استكشف قارة بأكملها عن أن يجد ذراعاً من الأرض يريح فوقها أجساد رجاله المتهالكين. . .

وكان بيرنج شديد المنة قوى الاحتمال، ولكن مسَّا من داء (الأسكربوط) أطاف به كصخبه فتركه عليلاً لا يقدر على شيء. وثارت بالسفينة عواصف هوج كادت تحطمها على نواتىء بعض الصخور، حطما، ثم دفعت بها نحو مجموعة من الرضام حتى استقرت دون كبير أذى في أحضان بحيرة ضحلة من الجزيرة المعروفة اليوم باسم جزيرة بيرنج. وكان مجرد بروز القوم من غرفهم الخانقة الهواء كافياً لإزهاق أرواحهم على ظهر السفينة بتأثير البرودة القاسية. وقد اشتدت وطأة العلة على بيرنج فأضجعوه في فرائه، ثم احتملوه إلى قرموص أعدوه له على الشاطئ وهيئوا له منه شبه بيت مسقوف. ولاذ سائر البحارة بمواضع أخرى من الرمال احتفروها لأنفسهم. وهكذا نجا أكثرهم من الهلاك ثم عادوا بعد عام إلى أوطانهم على ظهر سفينة جديدة اصطنعوها من أنقاض (سنت بير) - أما بيرنج فقد كان يحتث الخطى نحو مصيره المحتوم. . . كان يموت! ولم يقد له، فوق هذا، أن يودَع حياته في جو من الهدوء والسلام إذ كانت قطعان من الثعالب القطبية تغير على المعسكر، وتنغص على القوم عيشهم بما تسلبهم من رمام موتاهم وطعام أحيائهم.

ورقد بيرنج مطموراً نصف جسده في الرمال؛ وكان يزعم أن هذا مما يخفف وطأة البرد عنه. والحق أن رجاله قاموا بأكثر مما في طوقهم لإنقاذ وتخفيف ألمه؛ وكان الطعام الطازج موفوراً لديهم بما يصطادونه من حيتان البحر وبقرة وكلابه وسائر أصناف سمكه، ولكن الرجل كان خالفاً لا يتشهى الطعام، ثم أصيب من الوهن بما عجز معه عن ازدراد لقيمة تقيم أوده! وكان لا ينفك يهيل على بدنه كثباناً من الرمل ويزداد غوصاً يف أعماق حفرته كل يوم، كأنما هو يقبر نفسه حياً. وفي صبيحة يوم مقرور ألفاه صحبة غائصاً في الرمل إلى ذقنه وقد اسلم الأنفاس. وهكذا مات بيرنج الرحالة المجاهد. . . ولكن بعد أن أنجز مهمته الخطيرة وشهد انتصاره بعيني رأسه.

بيرنج بعد موته:

كانت حوادث هذه الرحلة من الغرابة بحيث استحال على الكثيرين تصديقها. . . حتى جاء الرحالة الإنجليزي المشهور (كابتن جيمس كوك) فأزال قناع الريبة فيها عن وجه اليقين. وقد جاس في رحلته خلال مضيق بيرنج، وفحص الخرائط التي تركها الرحالة الذاهب، فتبين له مبلغ دقتها، وأمانته في تخطيطها. وهكذا اتضح للعالم أجمع المهمة التي اضطلع بها هذا المستكشف الدنمركي الجريء الذي لم يقابَل بغير السخرية والتكذيب من رجال عصره الجاثمين خلف جدران بيوتهم لا يعلمون ولا يدعون لغيرهم أن يعمل. وقد أقيم لبيرنج نصب تذكاري رائع في مدينة (بتروبافلوفسك) التي يرجع إليهفضل إنشائها، على أن ذكراه الحقة إنما تخلدت في الجزيرة والمضيق والبحر اللائى سُمَّين باسمه جميعاً.

ولم يكد ينقضي جيل على وفاة بيرنج حتى نهضت أعظم تجارة للفراء عبر المياه التي ذلل للعام سبيلها ومهد مسالكها. واكتسى ملوك أوربا وملكاتها وسائر أهل النبالة والثراء فيها من هذا الفراء الغوالي التي ترد عن طريق بحارٍ موخشة مقرورة جاد فيتوس بيرنج بحياته، غير ضنين، في سبيل أن يقرب قواصيها ويملك الناس نواصيها. .

(قوص)

محمود عزت عرفه