مجلة الرسالة/العدد 621/القصص
مجلة الرسالة/العدد 621/القصص
آل بونتبي. . .
للكاتب الأمريكي ستيفن فنسنت بنيت
تتكون عائلة بونتبي من تسعة أفراد: أم، وأب، وستة أولاد، ثم خادم متقدمة السن. وهم يعيشون في مجاهل الغابة حيث يقتطعون الأخشاب ويتجرون فيها، وبذلك اعتزلوا البلدة وأهلها فسرت تلك الإشاعات الهامسة التي كان يتناقلها أهل البلدة عنهم وذلك الشعور المبهم الذي كان يساورهم كلما رأوهم قادمين بين كل فترة طويلة وأخرى لتبادل المحاصيل بالمواد الغذائية اللازمة، أو حين يتوجهون إلى الكنيسة في أيام الآحاد، حتى لقد قيل عنهم إنهم يضربون في مجاهل تلك الغابات المخيفة حتى ائتلفوا مع حيواناتها المفترسة وأصبحت تربطهم بها صلة صداقة وثيقة.
شاء القدر أن يتوفى عميد العائلة، ثم تلحق به زوجه، وسرعان ما توفيت الخادم العجوز كذلك، وتركوا الأبناء وحدهم وقد شعروا بنتائج تلك الوفيات المتلاحقة، فها هي ذي الأتربة بدأت تتراكم على النوافذ والجدران، وها هم أولاء يطهون طعامهم بأيديهم، طعامهم الذي فقد نكهته الأولى التي تعودوها في حياة والدتهم.
ولما تشاوروا فيما لم يجدوا مخرجاً من ذلك المأزق الحرج وبديلاً لتلك الحياة الشاقة سوى أن يتزوج أحدهم حتى ترعى امرأته المنزل بما لها من حنكة النساء ودرايتهن بتدبيره. ولما اختاروا أكبرهم ويدعى هاري لقيام بتلك المهمة التي سبق أن أجمعوا على صعوبتها، حاول أن يتهرب منها وأن يلقي بالعبء على أخيه الذي يليه؛ ولكن هذا حاول أن يسند الأمر إلى من يصغره. . . وهكذا. . . حتى وجد هوب الأصغر أنه هو المكلف بالأمر فمانع واعتذر
واقترح أن يقترعوا فيما بينهم وكانت نتيجة الاقتراع أن اختير هاري الأكبر.
وفي اليوم التالي ألبسوه أنظف لباس ثم أرسلوه إلى المدينة ليبحث عن زوجة له.
سار مشتت الفكر مبلبل الخاطر وقد قرر أن يفاتح أول فتاة تقابله في أمر الزواج به. ولكن كانت أول من قابلته امرأة متزوجة، ثم التقى بطفلة صغيرة، وأخيراً ابنة الحاكم التي ما أن رأته حتى فرت هاربة.
فغمره اليأس ودخل حانة صغيرة وجلس بقرب النافذة ليشرب كوباً من الخمر. وبينما هو يرسل نظرة تائهة نحو الخارج رآها، وكانت في ملابس الخادمات، ريانة العود، عذبة الملامح. ولم يشعر بنفسه إلا وهو يسرع إليها ويبتدرها قائلاً:
- ما أبهج الصباح، وما أسعدني بلقائك، يا له من يوم جميل يصلح لأن يكون يوم زواج.
فنظرت إليه طويلاً ثم ابتسمت قائلة: هو كذلك.
فتشجع وقال في حماسة: أتتزوجنني. . . أنا أدعى هاري بونتبي وأسكن الغابة واصلح لأن أكون زوجاً طيباً.
فتمنعت قليلاً في بادئ الأمر ولكنها سرعان ما وافقت. فأخذها من يدها مسرعاً إلى الحاكم ليعقد عليها ثم أشترى لها ملابس جديدة وعاد بها إلى منزله عودة الظافر المنتصر.
ولما رأت اخوته الخمسة قالت - لماذا لم تخبرني بذلك يا هاري من قبل؟
فقال: لعل سعادة لحظة الزواج أنستني كل شيء عداها.
ثم دخلت ذلك المنزل الكبير واستعرضت ما فيه فهالت الأتربة المتراكمة والكميات الوافرة من الطعام التي تكفي لإشباع بطون كثيرة، وأكوام الملابس القذرة التي في أشد الحاجة إلى أيد تغسلها وتتعهدها. فشمرت عن ساعديها وأقدمت على العمل مجتهدة وتناول الفتيان ليلتئذ أول عشاء جيد لم يسبق أن تذوقوه منذ شهور.
كرت الشهور تتلوها الأيام واحتلت ميلي في نفوسهم جميعاً مكانة عظمى فأصبحوا رهن إشارتها يضحون بكل ما تطلبه منهم كما تغيرت وجهة نظرها الأولى التي كانت تحفظها عنهم وهي في البلدة إذ وجدت فيهم أناساً يتحلون بأنبل السجايا وعجيب كيف يختلف أهل القرية تلك الإشاعات المفتراة عنهم.
ويوما، لاحظ عليها زوجها أنها تكد وتجتهد وتكافح في سبيلهم حتى هزل جسدها ونال الضعف من قوتها فقال لها - يجب أن تنالي راحتك ولو قليلاً يا عزيزتي.
فنظرت إليه في ابتسامة وقالت - وبخاصة وأنا أشعر بذلك الجنين الذي بدأ يتحرك في أحشائي.
فاجتمعت العائلة وقررت أن يتزوج هلبرت الأخ التالي حتى تمد زوجته يد المساعدة إلى ميلي في إدارة المنزل.
وفي صباح اليوم التالي توجه هلبرت إلى البلدة وانتظره أخوته ولكنه عاد فاشلاً، فما من فتاة قبلت الزواج منه. وهن يتعجبن كيف تسنى لميلي أن تحتمل أعباء المعيشة معهم. فأرسلوا هوسيا الذي يصغره في اليوم التالي ليجرب حظه. . . ثم الأصغر. . . ثم الأصغر. . . إلا أنهم أخفقوا جميعاً في مساعيهم. وأخيراً لم تجد ميلي مفراً من أن تقف فيهم قائلة:
(يا اخوتي الأعزاء، يجب أن تسلكوا طرقاً أخرى تمكنكم من نيل مآربكم، فلقد رفضت هؤلاء الفتيات الزواج منكم بعد أن سألتموهن، فلنجرب طريقة أخرى. لم لا تتزوجهن أولا ثم تسألوهن الموافقة بعدئذ!.)
فهتفوا في صوت واحد - وكيف ذلك؟
فقالت - لقد قرأت يوماً في كتاب التاريخ أن جماعة من الرومان تقدموا للزواج من فتيات بلدة من البلدان ولكن لسوء حظهم رفضت الفتيات أن يرتبطن معهن بتلك الرابطة، فما كان منهم إلا أن أغاروا على البلدة ليلاً وعادوا بنسائهم اللاتي اختاروهن عنوة معهم. فإذا لم تفعلوا أنتم مثلهم فلن أكون لكم أختاً بعدئذ، ولن تتقدم يدي إلى طعامكم أو ملابسكم، بل عليكم أنت أن تفعلوا كل شيء بأيديكم كسابق عهدكم.
فساد الصمت بينهم ولكن عاد صوتها يقول - أرجو ألا ينفذ اليأس إلى قلوبكم، فأن ما يجعلهن يحجمن عن الزواج بكم إنما هي تلك الإشاعات الكاذبة التي يفترونها القوم عليكم هناك، ولكني أؤكد أنه إذا ما قبلت إحداهن الزواج فسرعان ما تتقاطر الأخريات عليكم.
وبقيت صامتة فترة إلى أن خطر لها أن تسأل.
- هل هناك من يحرر عقوداً سوى الحاكم؟
فأجابوها - هناك قسيس فقير في الغابة.
- حسناً لقد انتهى الأمر.
كان اليوم أحد أيام الأعياد الوطنية، وقد اعتاد الأهالي، أن يتركوا أسلحتهم في منازلهم في مثل تلك الأعياد. وفي المساء وأهل البلدة في هرجهم ومرجهم إذ بهم يفاجئون بالأخوة بونتبي وقد أشهروا أسلحتهم مهددين. . . وسرعان ما انطلقوا هاربين بعد أن حملوا صفوة الفتيات التي اختاروهن ولم ينسوا أن يغلقوا أبواب البلدة خلفهم جيداً حتى وصلوا إلى منزلهم في الغابة سالمين.
عالج أهل البلدة فتح الأبواب فلم يتمكنوا من ذلك إلا في الفجر، وكانت الثلوج تتساقط في غزارة حتى عجزوا عن تمييز أي شيء. وبقيت الحال على ذلك عدة أيام طويلة بعدئذ حتى دب اليأس إلى قلوبهم خوفاً من الذهاب إلى منزل آل بونتبي مخترقين تلك الطريق المظلمة الخطرة ولم يجدوا بداً من الانتظار حتى الربيع.
أمسكت الفتيات في بادئ الأمر عن تناول الطعام وتمسكن بأهداب الفكرة التي كانت تحوم برؤوسهن دائماً عن العودة إلى أهلهن. ولما لاحظت ميلي ذلك الامتناع البغيض، جعلت تدبر الأمر في سياسة، فأول ما فعلت أن جهزت لهن الشاي وجعلت تقنعهن حتى تناولته. ولما سرى الدفء في أجسادهن بدأت تقول. (أنه لمن دواعي أسفي حقاً يا آنساتي أن أجدكن على تلك الحال التعسة بعد أن اختطفكن هؤلاء الوحوش. ولو أني عملت أن تلك هي نواياهم لنصحتهم بالعدول عنها. بودي لو تعدْن جميعاً إلى بلدتكن، ولكن ما حيلتي الآن. . . والثلوج متراكمة في الطريق. . . علينا إذن أن ننتظر حتى الربيع. ولكني أؤكد لكن أني سأحرص دائماً على بقائكن في أمان ودعة).
ثم أخرجت مجموعة كبيرة من المفاتيح وعادت تقول (سنبقي نحن هنا، ونغلق علينا أبواب المنزل جيداً، وأما هؤلاء الحمقى فليتناولوا طعامهم في حظيرة البهائم حتى تخزهم ضمائرهم ويندموا على هذه الفعلة الشنعاء).
فأشرقت وجوه الفتيات لذلك، وقادتهم ميلي إلى حجراتهن وهن يشعرن بصداقتها الحقة.
ظلت الحال على ذلك أسبوعاً كاملاً، فالفتيات داخل المنزل المغلقة أبوابه وقد تحققت أحلامهن القديمة عن حياة خالصة من شوائب الرجال. يا للسعادة حينئذ. . . جعلت ميلي تحبذ تلك الفكرة فتقول: (أترين يا صديقاتي أن الحياة بدون رجال جنة من جنات النعيم والخلد) وكن يوافقنها في حماسة في بادئ الأمر.
إلا أن الملل بدا يتسرب إلى نفوسهن على مر الأيام وبدأن يسأمن ذلك الحديث، ولاحظت ميلي أنهن يحاولن بقدر المستطاع رؤية أحد الفتيان من النوافذ أو من خلف الستائر كما بدأت تقوم بينهن المنازعات. . . وحينئذ. . . قررت ميلي أن تخطو خطوتها الثانية
جمعتهن يوماً في حجرة واسعة بطرف المنزل فاستعرض الفتيات ما فيها من أثاث وإذا بابنة الحاكم تتح صندوقاً وقعت عليه عينها فوجدت فيه ثوب عرس فأفلتت منها صيحة إعجاب جعلت الباقيات يتجمعن حولها ويتحسسن الثوب في رغبة خفية.
فقالت ميلي في حزم - دعن الثوب. . . لقد صنعته لما حاول أحدهم الزواج بإحداكن. . . دعنه. . . ولكنهن تجاهلن كلماتها وأسرعت ابنة الحاكم ترتديه وهي تقول:
- أن هوب الصغير له شعر مجعد، كم هو مغرٍ
فقالت ابنة المحامي - ليس لهوب ما لهلبرت من جمال
فقالت الثالثة - أرأيت عيني هارفي، إنهما فاتنتان بنظراتهما الهادئة الوديعة.
وقالت الرابعة: ما اجمل اسم هوارد وما ألطف وقعه على الأذن!
فقالت ميلي وهي تتظاهر بالخوف - ما هذا يا فتياتي. . أأصابكن الجنون؟
فرمقنها بنظرات التحدي والثورة حتى اضطرت إلى أن تخبرهن بأن هناك أربعة أثواب أخرى غير هذا الثوب.
ولما بدأن يهرعن لرؤيتها أوقفتهن وهي تقول - إن أردتن الزواج من آل بونتبي، فليس هناك أي مانع، ولكن أعلمني أني لا أزال مسئولة عنكن أمام آبائكن، فبمجرد زواجكن يجب أن يعود كل إلى مكانه، أنتن إلى هنا، وهم إلى حظيرتهم، ولا يمكنني أن أجمع بينكن وبينهم إلا بعد الحصول على موافقة آبائكن.
قام القسيس الفقير بصوغ العقود الخمسة، وعاد الرجال إلى حظيرتهم، كما أغلقت أبواب المنزل على الفتيات.
ولكن حدث في ذلك المساء أن هبت ابنة الحاكم صارخة:
- أنا لا أفهم كيف تقوي فتاة متزوجة لها شرعية الوجود مع زوجها دائماً على أن لا تراه إلا من النوافذ خلسة!
وحينئذ ارتضت ميلي أن تسن لهن قانوناً خاصاً، فسمحت للرجال بزيارة زوجاتهم ثلاث مرات في الأسبوع، على أن يتناولوا العشاء معهن تحت مراقبتها.
كان النفور هو الشعور السائد بين الفتيان والفتيات في أول الأمر، ولكنه سرعان ما اختفى، فهاهي ذي أبنة الحاكم وقد سمحت لهوب أن يضغط يدها في غفلة عن ميلي، كما خاطت ابنة المحامي زراء في ثوب هلبرت وهكذا بدأت الأحوال في التحسن والانتعاش ولو أن ميلي كانت تتظاهر دائماً بالحذر في رقابتها.
وفي صباح يوم من أيام يناير استيقظت ميلي ونظرت من النافذة فابتسمت ابتسامة عريضة. لقد ضربن برقابتها عرض الحائط. فها هن يمرحن مع أزواجهن، تلك تحدث زوجها والأخرى تقبله، والثالثة تعدو أمامه. فشعرت بالسرور يملأ قلبها وخطر لها خاطر لم يزعجها، إذ هي تذكرت أهلهن ولكنها وهي المدبرة قد احتاطت للأمر من مبدئه إذ أوصت الفتيان أن يتركوا خطاباً بإمضاءاتهم هم الخمسة ويذكروا فيه حسن نواياهم ونبلها ويطمئنوا الرجال على فتياتهم.
وفي ذات يوم بعد أن وضعت ميلي طفلها بستة أسابيع، جاءها هوب وهو يلهث ويقول:
- لقد جاء يا ميلي كل رجال المدينة مدججين بالسلاح، تبدو على وجوههم معاني التحدي والشراسة. ماذا نفعل؟
قامت ميلي فجمعت الفتيات وأصدرت إليهن أوامرها كما أخفت الفتيان في مكان أمين، ونظرت أمامها فوجدت تلك الكتل البشرية القادمة صوب المنزل تحت قيادة الحاكم فلم تعرهم التفاتها.
ولما وصل القوم إلى المنزل عجبوا وتولتهم الدهشة، إذ وجدوا أبوابه مفتوحة على مصراعيها، فما كان من الحاكم إلا أن قرع الباب مرتين فظهرت ميلي تحمل طفلها فبادرته قائلة
- لقد جئت في الوقت المناسب يا جناب الحاكم فأنا أود أن أعمّد طفلي. . . هل جئت بذلك السلاح لتعمده به؟
فخجل الرجال وألقى سلاحه ثم قال في حدة - ليس لي شأن بولدك. . . أين ابنتي؟
فقالت في هدوء - أصغ جيداً. .
أرهف الكل سمعهم فطرقت آذانهم صوت آلة غزل تدور وصوت آخر يجاريها وهو يتعالى بنشيد في مرح وسرور. وقالت ميلي: ها هي ذي ابنتك يا جناب الحاكم. . أتراها سعيدة أم شقية؟ فتمهل الحاكم ثم قال - إنها سعيدة. .
وسرعان ما تعالت أصوات الباقين يتساءلون عن فتياتهم، ولما أصاخوا السمع كانت هناك إحداهن تنشد أغنية عذبة، وأخرى تغسل في حبور، وثالثة تطهي الطعام.
وخاطبتهم ميلي أخيراً (هاهن بناتكم، ألسن سعيدات، نحن جميعاً ندعوكم لتناول الغذاء معنا) وأخيراً ظهرت الفتيات فهرع آباؤهن إليهن، وتم التعارف بين الأزواج والأصهار
حسن فتحي خليل