انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 62/سيدنا

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 62/سيدنا



للأستاذ أحمد أمين

كان لسيدنا الشيخ سيد عبد الرحمن كتاب في حي وطني في قسم الخليفة، أسلمني له أبي وأنا في السادسة من عمري.

كان هذا الكتاب بيتاً من بيوت الوقف، يتكون من طابقين، طابق أرضي فيه حجرتان أحدهما سبيل لسقي الماء كان قد هجر عندما ذهبت إليه، والأخرى لسيدنا ينام فيها أحياناً، وفي الطابق العلوي حجرتان كذلك، إحداهما لأولاد الكتاب يقرءون فيها، والأخرى لسيدنا أيضاً، وبين الحجرتين (فسحة) في أحد أركانها زير ماء لا تعرف لونه مما توالى عليه من أحداث الزمان، وعليه غطاء من خشب، قد كسر ولم يهتم أحد بإصلاحه، وعلى الغطاء كوز صفيح قد شد بحبل في مسمار في الحائط، حتى لا يذهب به الأولاد من مكان إلى مكان، وخشية أن يقع الكوز في أسفل الزير، فإذا كان مربوطاً ووقع استطعنا أن نشده بالحبل، والماء إن تلوث بوقوع الحبل فيه، فهو أقل ضرراً من مد اليد عارية وغوصها لاستخراجه.

وأدوات الكتابة: حصير فرش على البلاط، يبلى أحياناً فتتناثر عيدانه، ومع ذلك يبقى إلى أنيحنن الله على سيدنا فيشتري حصيراً جديداً، وصندوق من صناديق السكر أو الجاز وضع في زاوية من زوايا الحجرة، نضع فيه ألواحنا - وهذه الألواح أكثرها صفيح، تسود أحيانا ويذهب طلاؤها حتى لا نتبين الكتابة منه - وكيف يبين أسود من أسود؟ وأقلها خشب قد طلي بدهان أبيض، وله إطار لون بلون بني، وذلك خاص بأولاد الذوات وأشباههم.

هذا كل ما بالكتاب من أدوات، ومعاذ الله أن أنسى شيئاً أهم من ذلك كله، وهو مجموعة عصى من جريد النخل، تختلف طولاً وقصراً، أما القصيرة فيستعملها سيدنا لمن يسمع عليه اللوح أو (الماضي) فيخطئ فتدركه هذه العصا، وأما الطويلة فعندما يرى سيدنا طفلاً في آخر الحجرة لا يهتز وقت قراءته أو يتهاون في حفظه، فما يشعر إلا والعصا الطويلة نزلت عليه وصحبها من سيدنا (اهتز يا ولد) - وقد كان لهذه العصا ما طال منها وما قصر، أثر في نفوسنا لا ينكر، فكثيراً ما رعبنا لأن خيالنا صور لنا أن سيدنا يريد أ يهوي علينا بعصاه، وفي الواقع لم يكن شيء من ذلك، وإنما هو الرعب ملك نفوسنا، ويحصل هذا أحياناً حتى في البيت، فننسى أننا خرجنا من الكتاب، وأننا بين أهلينا، فنرتجف بغتة لحركة تشبه حركة سيدنا في الكتاب.

وإلى جانب هذه العصى (فلقة) وهي عصى غليظة من خشب متين قد ثقب في وسطها ثقبان يبعد ما بينهما نحو شبر، وركب في هذين الثقبين سير من جلد أو نحوه، فإذا شكا الولد أبوه أو غضب عليه سيدنا أدخل رجليه في هذا السير ولواه عليهما، وأمسك بطرفي الفلقة ولدان كبيران شديدان من أولاد الكتاب، فلم تستطع الرجلان حركة، وانهال عليه سيدنا ضرباً بالعصا والولد يصيح (في عرضك يا سيدنا) (حرمت) (أتوب)! ولست أنسى مرة أفرط فيها سيدنا فشق عقبي وسال منه الدم؛ وكان عزائي الوحيد أني مكثت بعيداً عن سيدنا نحو أسبوعين.

وهذا كل ما كان في الكتاب من (موبيليات).

كان سيدنا يحفظ القرآن حفظاً جيداً، ويكتب كتابة عاجزة، وهذا كل ما له من ثقافة، كان يطوف في الصباح على البيوت يقرأ فيها ما تيسر من القرآن، ويخرج من بيت إلى بيت حتى يتم دورته، وكان موظفاً في مسجد يؤذن فيه، فإذا حان وقت الظهر أو العصر خرج من الكتاب للآذان والصلاة - وفي غيابه صباحاً أو ظهراً أو عصراً يتركنا لعريف يقوم مقامه، ولكن كان العريف ولله الحمد أهون علينا من سيدنا. فكنا نتنفس الصعداء إذا خرج، ونصاب بالرعشة إذا حضر. وكان برنامج الكتاب ينحصر في كلمة هي (تحفيظ القرآن) فيبتدئ بتعليم حروف الهجاء على طريقة غريبة، فأول درس كان هو (أألف) وهي كلمة حفظتها ولم أفهمها إلا وأنا طالب في مدرسة القضاء. إذ فهمت أننا لو تهجينا كلمة ألف لكانت ألفاً ولاماً وفاءً، وما أدري ما السر في هذا البدء على هذا الوضع - حتى إذا عرف الولد شيئاً من القراءة والكتابة بدأ بكتابة جزأ من القرآن في اللوح يحفظه كل يوم وهو في أثناء ذلك (يثبت الماضي) ويمضي النهار كله في هذا الباب، فلا إملاء ولا حساب، ولا يعرف سيدنا شيئاً من ذلك، ولا نستريح من هذا العمل إلا وقت الغداء

فإذا حان الظهر جمع (سيدنا) من كل ولد مليمين أو ثلاثة أو خمسة ثم بعث بولد كبير فأتى له بماجورين مملوءين، أحدهما فيه قليل من فول نابت وكثير من مرق، والآخر مملوء مخللاً بمائه وخله، وتحلق الأولاد حلقة، وأخرج كل رغيفه، وكان قد أحضره معه في الصباح تحت إبطه، وضربوا بأيديهم في الماجورين وأكلوا هنيئاً مريئاً - وقد رحمني الله من تمثيل هذا الفصل إذ كان بيتنا بجوار الكتاب أستطيع أن آكل فيه وأعود - وبين هؤلاء المريض والقذر ومن تلوثت يداه بالحبر.

لا تعجبن من هالك كيف توى ... بل فاعجبن من سالم كيف نجا

كان (سيدنا) غريب الأطوار عرف في الحي باسم الشيخ سيد المجذوب، يلبس المرقع من الثياب فلم أره يوماً لبس (مركوباً) جديداً ولا عمة نظيفة ولا قباء ولا عباءة جديدين، فكأنه كان يتحرى القديم من كل شيء ويشتريه، كان يتزهد في أكله ولبسه وحديثه، ويهزأ بالناس ولا يعيرهم التفاتاً. فهو يمشي مسرعاً مشياً يشبه الجري، ويأكل في الشارع وهو على هذه الحال، وإذا ناداه منادٍ لا يلتفت إليه، فكان بذلك يلفت أنظار الناس والأطفال، ويعجب منه بعضهم، ويتبرك به بعضهم، وكان في المجالس العامة غريباً ينتحي ناحية وحده ويفر من الناس ويستوحش منهم، وفي مجالسه الخاصة واعياً أنيساً لطيفاً.

لم أره يقرأ في كتاب، وما أظنه كان يعرف ذلك، ولكني مع هذا اذكر له حادثة حيرتني حقاً - فقد خرجت من كتابه، وأتممت التعليم في مدرسة ابتدائية، ثم قطعت مرحلة بعدها في التعليم - ثم ذهبت إلى مدرسة القضاء ومكثت فيها نحو أربع سنوات، ثم لقيت سيدنا في الطريق فسلمت عليه في احترام وإجلال اعترافاً بفضله عليّ في أول مراحل التعليم، ولكني أطوي بين جنبي إدلالاً بنفسي عليه، فأين هو الآن مني؟

لقد درست طبيعة وكيمياء، ودرست رياضة نظرية واسعة من حساب مثلثات وتوافيق وتراتيب ولوغارتمات، ودرست علوماً دينية مختلفة الأشكال والأنواع، وعلوماً مدنية من تاريخ وأصول قوانين ونظام إدارة وما إلى ذلك - فأين سيدنا من هذا كله فهو لا حظ له من علم إلا أن يحفظ القرآن، ولكن ما أدهشني حقاً أنه أخذ يسألني عن حالي وجرى من ذلك إلى الإدلاء برأيه في العالم وفلسفة الكون عن طريق صوفي، فإذا أنا أسير معه ملتذاً من حديثه معجباً بقوله إعجاباً يفوق ما كنت أضمره لأساتذتي في المدارس العالية، وإذا أنا أذهب معه حيث يذهب وأجلس معه حيث يجلس حتى أتم حديثه الممتع اللذيذ في ساعتين أو أكثر، ولوددت أنه طال أكثر مما كان - لست أذكر الآن حديثه وقوله، ولا أذكر ماذا كانت نظراته في الحياة، ولكني أذكر لذة حديثه وفائدة درسه.

ثم راحت أيام وجاءت أيام، وإذا لي ولد، وإذا بي أرسله إلى (روضة الأطفال)، وإذا مكان الكتاب ذي السبيل والحصر، بناء فسيح ذو حديقة غناء، وتخت وأدوات شتى، ومكان العصي و (الفلقة)، بيانو وآلات موسيقية، ومكان مواجير الفول والمخلل، لبن وبسكوت في الساعة العاشرة، وأكل نظيف يشرف عليه الطبيب في الظهر ومكان برنامج كتابنا الذي ليس فيه إلا حفظ القرآن برنامج دقيق مفصل محدود بالساعة والدقيقة فيه غناء وفيه لعب، وفيه مبادئ القراءة، وفيه ما شئت من تنوع واختلاف، ومكان سيدنا الشيخ سيد عبد الرحمن آنساتنا العزيزات.

وأتى ابني يوماً يقول أن (أبلة) فلانة علمتهم اليوم درساً جديداً، قالت هذه (ستي) أ، وهذه (ستي) ب، وستي ألا شيء عليها، وستي ب من تحتها نقطة، فقلت أين هذا مما كنا نتعلمه من أألف، بابا ليف، بوبا واو بي با يه).

ورأيته ينشد أناشيد (سمير الأطفال) ونحوها فقلت أين أنت من أبيك وقد كان ينشد في العصر قبل الذهاب إلى البيت الأناشيد الدينية.

ورأيته يزكم فيجلس في البيت ثم يذهب إلى المدرسة فتأبى عليه إلا أن يأتي بشهادة طبيب بأنه برئ ولم يكن مرضه معدياً، فقلت لحا الله زماناً لم نكن نعرف فيه طبيباً، وكان حولنا في الكتاب مرضى لا يعرفون أن الزكام مرض، وكان أصحاءهم ومرضاهم يشربون من زير واحد بكوز واحد.

ورأيته في سنه لا يحفظ شيئا، وكنت أنا في سنه أحفظ جزءا كبيراً من القرآن.

ورأيته يعرف من الأشغال اليدوية والرسم والتلوين ما لا أعرفه إلى اليوم.

ورأيته ورأيته؛ ورأيتني ورأيتني

أخشى أن نكون في كلا الحالين مفرطين ومفرطين، وأن نكون في (كتابنا) قد غلونا وفي (رياض أطفالنا) قد غلونا

أخشى أن يكون الكتاب قسا وأسرف في القسوة، ورياض الأطفال ماعت وأسرفت في الميوعة، أخشى أن نكون في كتابنا قد وضعنا أمام الطفل كل العقبات فلم يستطع أن يجتازها إلا القليل، ونحينا في (رياض الأطفال) كل العقبات فاجتازوها جميعاً، ولكنهم خرجوا لا يعرفون كيف يجتازون عقبة عرضت، ولا يصبرون على شدة ألمت، ولا يتحملون مشقات العلم ومعانات الدرس، ولا يعالجون ما يعن من مصاعب الحياة - وآية ذلك أن الجيل السابق - مع كثرة من تخلف - كانوا أصبر على الدرس وأحمل للمكاره والمشاق، وأن الجيل الحاضر أنعم وأظرف وألبق، ولكنهم لا يصبرون على مكروه حتى العلم.

أحمد أمين