انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 617/التطور الاجتماعي بعد الحرب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 617/التطور الاجتماعي بعد الحرب

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 04 - 1945



للأستاذ عبد القادر المغربي

إن اهتمام المفكرين في نتائج هذه الحرب وما تتركه وراءها من أثر في شؤون البشر قد تجاوز كل حد، وأصبح لا يقل عن اهتمامهم بأخبار وقائعها وأهوال ملامحها ولهم الحق في ذلك: لأن الحرب مهما طالت ظل متقلص وسحاب متقشع، أما نتائجها وما تتركه وراءها فهو على ما يظهر حكم مبرم باق إلى ما شاء الله.

وقد انتشر من جراء ذلك الذعر في قلوب قادة الأمم وكبار زعمائها، وأوجس كل منهم خيفة على مستقبل بلده وأوضاع وطنه.

وليس الشأن في هذا، وإنما الشأن في التطورات الاجتماعية التي سوف تقلب عادات الأمم وأخلاقها وقوانين حياتها رأساً على عقب، حتى زعموا أن التطور الاجتماعي سيشمل كل ما تقع عليه العين من مادة أو تحس به النفس من معنى - فالعالم بعد الحرب عالم آخر ينبغي أن يسمى منذ الآن (عالم ما بعد الحرب) - وحتى خشي الحريصون على أديانهم وتقاليدهم وآخرون على قومياتهم ولغاتهم، أن يعمل ناموس التطور عمله في تلك الأديان وهذه اللغات فيأخذ بهما ذات اليمين أو ذات الشمال.

نعم إن العقلية السياسية الديمقراطية التي تسيطر على البشر بعد هذه الحرب ستضمن للبشر سلماً دائماً يغمرهم، وأنظمة دولية ثابتة تصون استقلالهم وتحمي حدودهم وتنتزع العدوان الديكتاتوري من بينهم.

أجل قد يكون هذا كله، ولكن السلم الدائم المضمون شيء والتطور الاجتماعي المتوثب شيء آخر.

التطور الاجتماعي لا تقف في وجهه حدود ولا تصده حرس ولا إغلاق، هل سمعتم بالمظليات الجوية قط؟ وهكذا هبوط التطورات الاجتماعية.

العقلية السياسية المسيطرة تقدر على وقاية الإنسانية من كل شئ إلا شيئاً واحداً: هو سلطان التطور الاجتماعي وما يحمله على كفه من المبادئ الاشتراكية والنزعات المتطرفة.

التطور الاجتماعي ناموس طبيعي قوي الشكيمة ماضي العزيمة، ولم يكفه هذا حتى تقوم (الحريات الأربع) تحميه من ورائه وتنهض الدعاية بسحر دسائسها تمهد له من أمامه.

ونحن معشر المسلمين والعرب خاصة لا يمنعنا مانع أن تؤمن بكل ما يتكهن به المتكهنون عن نتائج هذه الحرب وتطور شؤون البشر بعدها، إذ أن التطور من قدر الله سبحانه له فيه حكمة ومصلحة لعباده، كما أن السلم الدائم من صنع أقطاب السياسة المسيطرة: لهم ولنا وللأمم كافة فيه الأمن والصلاح والإسعاد.

ولكن هل ننام معشر المسلمين والعرب على هذه الفكرة البراقة، ونتعلل بها مطمئنين مستسلمين؟

إذا لم يمكنا درء التطور غير الملائم لنا، أفلا يمكننا تلطيفه وتحويل مجراه إلى ما فيه صلاحنا وسلامة إسلاميتنا ولغتنا؟

فكر ملوكنا وكبار زعمائنا بأمر الوحدة العربية، وتسييجنا بها، فنعما فعلوا، وإن فعلهم هذا من نوع تلطيف القضاء وتخفيف وقعه وتوجيهه إلى توفير مصلحة العرب السياسية والقومية

أفلا يفكر غيرهم من العاملين المسئولين فيلطفوا التطور المتوقع حصوله في الدين واللغة، ويوجهوا إبرة بوصلته إلى ما فيه حفظ لدينهم وسلامة للغتهم؟

والتطور الفكري في الدين وإصلاحه أمر خطر وخطير في آن واحد، ولا يمكن التعرض له في موقفنا هذا بأكثر من قولنا: إن في المتطرفين من المثقفين المسلمين من يرى ضرورة تقضي بفصل الدين عن الدنيا، وآخرون منهم لا يرون هذا الرأي وإنما هم حريصون على العمل بالاجتهاد في الدين كما كان يجتهد الأولون من السلف عندما تتوفر فيهم شروط الاجتهاد، ويزعمون أن هذه الشروط اليوم ممكنة الوجود في مجموعة من الأفراد، لا في الفرد الواحد. وهذا الفريق لا يبعد عن روح الدين الإسلامي كما بعد الفريق الأول وإن كان معظم رجال الدين اليوم لا يرون فتح باب الاجتهاد.

وهناك فريق ثالث يرى التعجيل بعملية (التصفية) وخلاصة ما يقال في وصف هذه العملية أن ينحى إلى جانب من مسائل الدين وأحكامه ودراساته ما لا يمكن تطبيق نصوصه ولا العمل به في عصرنا الحاضر، فهو مرجأ إلى أن يأذن الله بعودته، مثل معظم أحكام الجهاد والرق والعتق وإقامة الحدود إلى غير ذلك مما أصبح عبئاً على عاتق الثقافة الإسلامية التي تضطرها الظروف القاهرة إلى التخفف منه كي تنشط وتتمكن من لحاق من سبقها في ميادين الحضارة والعزة والغلبة.

هذه خلاصة ما يحدث، أو ربما يحدث من توثب الفكر الديني - خيره وشره - بعد الحرب.

وما ذكرته أصول لها ذيول لا يمكن استيفاؤها إلا في مصنفات أو محاضرات تلقى في غير هذه الحفلة. أما حفلتنا هذه فيكفيها ما اجترأت به عليها مذ شغلتها بغير ما أعدت له: أعدت هذه الحفلة (بعد البيانات الرسمية) لبحوث اللغة وطرق وقايتها مما يهدد سلامتها.

ومهما ذكرت لكم من مهددات سلامة اللغة لا آتى بشيء تجهلونه بل سأعمد إلى عكس ذلك: فأذكر لكم أيها السادة من أسباب سلامة اللغة وضمانة أبديتها شيئاً جديداً، شيئاً فيه طرافة وفيه استجمام، وفيه استشفاف لما يأتي به الغد القريب من صنع الله العجيب.

يعود نشاط الآراء وتوثب الحرية في المسائل الاجتماعية بعد الحرب إلى أشد مما كانت عليه قبلها. ويعود الداعي فيدعو إلى الشيء النكر: إلى استبدال اللغة العامية باللغة الفصحى، ولا أطيل القول في هذه المسألة لما أنكم أيها السادة المصريون خاصة أعرف بها وبمبتدأ خبرها من كل أحد. فالدعوة إلى اللغة العامية أشأم ما يهدد لغتنا العربية، وهناك مسألة أخرى وهي استبدال الحروف اللاتينية بحروف كتابتنا العربية. . . وهذه الدعوة أيضاً قد علمتم من أمرها أكثر مما علمتم من أمر الدعوة الأولى، إذ لم تهدأ بعد هماهم الداعين إليها، وشقاشق الرادين عليها، وهي فلتة قام على أنقاضها نهضة مباركة تدعو إلى تيسير الكتابة العربية وتسهيل الإفادة والاستفادة منها، وذلك من طريق إضافة حركات أو نترات موصولة بأطراف الحروف العربية أو أوساطها، فتصبح الكتابة العربية (ونسميها الكتابة الميسرة) سهلة في القراءة، قريبة التناول في الطباعة، خفيفة الظل على المعلمين والمتعلمين، ولا شؤم في هذا المشروع ولا ضير، بل إن فيه الخير كل الخير.

ومثله مشروع إصلاح قواعد اللغة العربية والاقتصار من مسائلها على ما تمس إليه الحاجة وتتوقف عليه صناعة البيان وملكة الإفصاح. . . وهذان المشروعان (تيسير الكتابة، وإصلاح قواعد اللغة) أهم ما يعنى به مجمعنا في دورته التي نحن واقفون على عتبتها، غير أن بعض المتشائمين يعترضنا ويقول: إن ما عرض حتى الآن من نماذج الكتابة الميسرة لا يخرجها عن كونها كتابة مستقلة ذات طابع خاص وشكل خاص، لا يحسنه إلا من أعتاده وتمرن عليه، فإذا حذقت الأجيال الآتية من أبنائنا هذه الكتابة وأهملوا الكتابة بالحروف العربية القديمة نسوا هذه الأخيرة بالطبع وجهلوا قراءتها. فتنقطع صلتهم بثقافة ماضيهم والاستمتاع بآثار أسلافهم. ومثاله القريب حروف الكتابة المغربية الأفريقية اليوم فإنها عربية في أصلها، لكن طرأ عليها من الأشكال والأوضاع والنترات والتقوسات ما حولها عن شكل الخط العربي المشرقي إلى خط خلاسي حتى أصبحنا نحن المشارقة عاجزين عن قراءة خطوط المغاربة، وبذلك انقطعت صلتنا بثقافتهم وآثار علمائهم وهم إخواننا وأهلونا.

(وإنا نرى أقدامنا في نعالهم=وآنُفَنا بين اللِحَى والحواجب)

وكم مرة حملنا كتابات هؤلاء الأخوان ومصنفاتهم المخطوطة أو المطبوعة بحروفهم إلى من يقرؤها لنا منهم، وقد لا نجده، غير أن هذا كان قبل أن ينهض إخواننا فضلاء المغرب إلى تدارك هذه القطيعة بيننا وبينهم، أما اليوم فقد أخذوا يطبعون وينشرون آثارهم القلمية بحروفنا المشرقية، وبذلك عدنا إلى الوصل واجتماع الشمل، وإلى الانتفاع بآثار عملهم والارتواء من معين فضلهم.

هذا بعض ما يقال في لمز الكتابة الميسرة المتوقع اختيارها، فإذا كان ما يقوله هؤلاء العائبون لها حقاً، وكان ما قاله أولئك في لمز الحروف اللاتينية حقاً أيضاً، وقعنا في حيرة من أمرنا، وأركسنا في اليأس من تيسير كتابتنا، وتسهيل تناول العلم على أحداثنا.

هنا أسمع بعض الملهمين يقول مستبشراً: إنه لا ينجينا من هذه إلا إذا أصغينا إلى هاتف الأمل، يهتف بنا من وراء حجب المستقبل؛ فهو ينصح لنا - أولاً - بالبقاء على الثقة بكتابتنا العربية الجميلة التي ورثناها عن ابن مقلة. ويبشرنا - ثانياً - قائلاً: أنكم علمتم مبلغ التطور المتوقع حدوثه بعد هذه الحرب، وسيكون هذا التطور على أشده في الصناعات ومختلف آلاتها وأدواتها، ومن الصناعات التي سترتقي وتتطور إلى أقصى حد من الترقي والتحسن صناعة طبع الكتابة، أي تصويرها بالفوتوغراف بآلة خاصة، وطريقة خاصة، وقد ارتقت هذه الآلة، وطريقة التصوير بها في سنين قليلة إلى حد أن مجلة (المستمع العربي) التي تطبع في لندن باللغة العربية أصدرت منذ نحو شهرين عدداً قدمته إلى القراء بقولها: (قمنا في هذا العدد بتجربة جديدة، ذلك أننا قررنا جرياً على خطتنا في تحسين مجلتنا أن نستخدم طريقة الفوتوغرافير هي ليست من أحدث طرق الطباعة فحسب، بل هي من المستلزمات الضرورية لطبع الصحف الكبيرة المصورة، وقد اتبعت أمهات الصحف العالمية المصورة هذه الطريقة أهـ.

وطريقة الفتوغرافير الطفلة سوف لا تبقى على طفولتها ولا على حالتها التي طبعت بها مجلة المستمع، بل ستترقى وتتطور كما ترقت وتطورت مطبعة (يوحنا غوتمبرج) التي تدار باليد إلى المطبعة الحديثة التي تطبع مطبوعاتنا بتذويب الرصاص (لينوتيب) بل إن الطيارة التي قطعت المانش منذ خمس وثلاثين سنة لا نسبة بينها وبين طيارات هذه الحرب، ولا يعلم إلا الله ماذا يكون من مصير تطورها بعد خمس وثلاثين سنة أخرى.

وعلى هذه النسبة سترتقي الكتابة العربية المصورة بطريقة (الفتوغرافير) ارتقاء مدهشاً نستخدمه معشر العرب في حفظ مكتبتنا والميراث الثقافي الذي تلقيناه من أسلافنا، وفي نشر العلم واللغة الصحيحة بين أبنائنا، وعندها نبقى على اتصالنا بماضينا والانتفاع بعلوم أسلافنا.

سيكتب الكاتب منا بعد خمس وثلاثين سنة - أو أقل - ما يريد كتابته من مقال أو خطاب أو رسالة أو مصنف، ويضطر الكاتب - بسبب أوامر الحكومة التي تجعل طبع الكتابة المعربة إجبارياً - يضطر أن يجود حروف ما يكتب، ويتحرى وضع النقط على الحروف وضبطها بالشكل الشامل لها، أو ما يلزم تشكيله منها، ثم يسلم أصول ما كتب إلى مدير مصنع الفتوغرافير فيطبع منه أو نقول يصور عنه ألوفاً وألوفاً من النسخ في ساعة من الزمن، فتجيء كلها طبق النسخة الأصلية المخطوطة بخط الكاتب أو المؤلف، وتنشر هذه الملايين من النسخ المحلاة بعلامات الإعراب بين أيدي القراء، فإذا مر على الجيل الآتي من أبنائنا نصف قرن، وهم لا يقرءون من الخطوط إلا ما كان مطبوعاً بطريقة الفوتوغرافير لا يعود أحد منهم يقرأ الكلام إلا معرباً، ولا يلفظه إلا معرباً، ولا يستظهره إلا معرباً، بل لا يفهمه إلا معرباً ويصبح إعراب الكلام سليقة لأبنائنا، وملكة راسخة في نفوسهم، وهذا كالشأن في أولاد عرب الجاهلية، قبل فساد اللغة بمخالطة الأعاجم، وإذ ذاك يصح للفتى العربي منا أن يتمثل بقول أبي الأسود.

ولستُ بنحويٍ بلوك لسانه ... ولكن سيُّلقى أقول فأعرب وإذا اتفق وأصدر مصنع الفوترغرافير كتابة عربية، لا هي بالمجودة، ولا بالمحررة ولا بالمعربة، بحيث لا يفهمها قارئوها، رفع الأمر إلى وزارة المعارف، فتصادر النسخ ذات الخطأ، وتحاكم مدير المصنع، وبهذه الصورة تقع المحافظة على سلامة اللغة العربية التي هي مبتغانا، ومن أهم أغراض مجمعنا، وسيكون من أثر انتشار هذه الطريقة (طريقة الفوتوغرافير) أن تهمل مطبعة (غوتمبرج) وتكسد صناعتها وصناعة ما يشبهها من آلات الطباعة، كما تبطل صناعة النحو إلا قليلاً.

أما صناعة الخط بالقلم (نون. والقلم وما يسطرون). (علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم) فتنتعش وتنتشر، ويعود سلطانها إلى سابق عهده، وسامي مكانته.

وإذا نسخ الكاتب العربي في المستقبل كتباً لطبعها وتصويرها سوف يكتبها معربة بسليقته وملكته السليمة لا بملكة قواعد قاسى عرق القربة في تعلمها، إلى غير ذلك من النتائج التي تحدثها صناعة (الفوتوغرافير) في ثقافتنا، وسهولة نشر العلم بين أحداثنا، وما يدرينا أن تقوم مجامعنا فتضع لصناعة الفوتوغرافير أسماء كالفغرفة مثلاً كما قالوا الفلسفة والفذلكة.

وإذ ذاك لا نعود نهدد بمشروع اللغة العامية ولا نروع بمشروع الحروف اللاتينية، بل ستهدأ فورة هؤلاء وتتحول إلى رضى واطمئنان وابتسام، ويضطر مجمع فؤاد الأول أن يعدل قوانينه وأنظمته تعديلاً كبيراً أو صغيراً حسب الحاجة، ويستبدل ببعض أغراضه أغراضاً أخرى اقتضاها التطور، وترتفع الأصوات بشكر الله وحمده على أن وفق البشر إلى هذا الاختراع العجيب فأنقذنا من الحيرة، ونجانا من المحنة.

عبد القادر المغربي