مجلة الرسالة/العدد 613/على هامش النقد:
مجلة الرسالة/العدد 613/على هامش النقد:
هذه الشجرة. . . للعقاد
للأستاذ سيد قطب
هذا كتاب يجئ في إبانه لتصحيح مقاييس كثيرة في عالم التفكير والشعور، وفي عالم الأخلاق والاجتماع، تجاه مسألة من أكبر مسائل الحياة، بل تجاه مسألة الحياة: مسألة الجنسين، وعلى أي أساس تقوم بينهما العلاقات.
هو كتاب يجئ في إبانة لأنه يرتفع بهذه المسألة فوق السفسطات الذهنية، وفوق تقاليد (الصالونات) وفوق الفتنة التافهة أو المغرضة بالمرأة (المسترجلة) التي كادت تصبح زياَّ من أزياء (المودة) يفتن بعض الرجال (المتأنثين) فتنة الأزياء الجديدة للمرأة في كل زمان!
يرتفع بها فوق هذا كله ليردها إلى منطق الحياة، وإرادة الطبيعة. ثم إلى وظائف المجتمع وقوانين الأخلاق، المستمدة من منطق الحياة ومن إرادة الطبيعة. وقد آن لنا أن نرد كثيراً من الأوضاع إلى هذا المنطق الأصيل، إذا شئنا أن نرجع إلى سواء الفطرة الخالدة، التي قد تفسد في بعض الأجيال لملابسات خاصة ولكنها تعود إلى الصلاح حتماً، لأن الحياة لا تستقيم طويلاً في عزلة عن هذه الفطرة الأصيلة.
والمسألة حين ترتفع إلى هذا المستوى، لا يعود الحديث فيها هو الحديث عن حقوق المرأة وحقوق الرجل، ولكن عن حقوق الحياة من وراء المرأة ووراء الرجل، ولا يعود المرجع فيها إلى إرادة هذا الجنس أو ذاك، ولكن إلى إرادة الطبيعة التي صاغت الجنسين، لتصل بهما جميعاً إلى تحقيق إغراضها وأغراض الحياة.
ومن هنا نصل إلى المنطق الفاصل، الذي يعود كل منطق سواه عبثاً وسفسطة، وتظرفاً يصلح (للصالونات) والمجتمعات؛ ولا يصلح لبناء الحياة وإقامة المجتمعات!
والعقاد هنا في ميدانه الأصيل: ميدان التحليل والتعليل، للبواعث النفسية والكوامن الفطرية، والسمات الشخصية. وهو الميدان الذي يقف فيه متفرداً في الشرق العربي الحديث.
ويجب أن نقف هنا وقفة قصيرة لتوضيح ما نعنيه بالتحليل والتعليل. فليس أكذب على العقاد من شبهة شائعة عنه عند من لا يفرقون بين ألوان المنطق الإنساني في الحياة والفنون.
تقوم هذه الشبهة على أساس أن المنطق الفكري هو الذي يغلب على كتابات العقاد. . . وهذا في الواقع هو مفرق الطريق في اعتقادي - بين من يفهمون ومن لا يفهمون. بل بين من يشعرون ومن لا يشعرون، حين يتذوقون الفنون!
أن للعقاد منطقاً قوياً جارفاً. . . هذا صحيح. . . ولكن أي منطق؟ إنه (المنطق الحيوي) كما عبرت عنه في مقالة سابقة في الرسالة منذ أكثر من عام. وذلك حيث أقول:
(مدرسة العقاد هي مدرسة المنطق الحيوي. والنسبة هنا إلى (الحياة) وإلى (الحيوية) جميعاً. . . إلى (الحياة) لأن مرد الحكم على كل قول وكل عمل هو ما تقوله الحياة وما تصنعه، ومنطقها هو المنطق المطاع في جميع الأحوال.
كلُّ ما تَصنعُ الحياة يُرجَّى ... من بنيها قبولُه واغتفارهُ
فإذا أنكروا قبيحاً ففي القب ... ح من الموت لونُه أو شعاره
وإلى (الحيوية) لأن مرد الحكم على كل قول وكل عمل هو باعثه، ومدى الحيوية في هذا الباعث. وقد تتشابه مظاهر الأعمال والأقوال، ولكنها تتفق في (الرصيد) المكنون لها من الباعث الحيوي، فيتوحد الحكم عليها. وقد تتفق مظاهرها، ولكنها تختلف في الرصيد، فيكون ذلك مناط الاختلاف). إلى أن جاء في ذلك المقال نفسه:
(ولقد كان العقاد - بما فيه من يقظة الحس وقوة الحواس - وشيكا أن يبذل إعجابه كله للحياة المحسوسة الظاهرة، وللحيوية المتدفقة في الحس والغريزة، لولا قسط من (الصوفية) - ولا يعجب أحد لهذه الكلمة - ففي العقاد إيمان عميق بقوة مجهولة تصرف الحياة والناس، وتسيطر على أقدار الفرد والنوع (والصوفية في أساسها البسيط هي هذا الإيمان بالمجهول). ولكن هذه القوة المجهولة التي يؤمن بها العقاد إنما تصرف الحياة والناس، وتسيطر على أقدار الفرد والنوع لمصلحة هذه الحياة نفسها، وللرقي بالإنسانية في معارج الكمال، لا لغرض آخر من الأغراض التائهة المجهولة. وهذا القسط من الصوفية - بهذا المعنى - يمتزج بالحيوية الحسية، فيخرج منهما مزاج جديد، فيه من هذه وفيه من تلك، على غير تحيز بينهما ولا انفصال.
(ولقد كان العقاد كذلك - بما فيه من صحو الذهن ويقظة الوعي - وشيكا أن يبذل قواه كلها للفكر والمنطق، لولا فيض من حيوية الطبع، يجرف قوى الذهن والوعي، فتستحيل جنوداً لهذا الطبع الحي، تضرب بسلاحه، وتستمد من القوة، وله عليها السيطرة في النهاية!)
في هذا الذي اقتبسناه إيضاح لطبيعة المنطق عند العقاد، ولأسس التحليل والتعليل التي نعنيها. وفيه كذلك تفسير لكل آراء العقاد في الكون والحياة، وفي الأدب والفن، على السواء.
وما لهذا أو ذلك وحده سقنا هذا الاقتباس. ولكن لأنه يصلح كذلك أساساً للحديث عن (هذه الشجرة)!
إنه يتحدث عن أسلحة المرأة وأسلحة الرجل في الحياة، فيردها إلى أهداف الحياة وإلى مصلحة النوع، وإلى إرادة الطبيعة. فسلاح المرأة هو الإغراء، وسلاح الرجل هو الإرادة. وتعليل ذلك فيما يلي:
(وليس للمرأة أن تريد غير هذا النوع من الإرادة، لأسباب عميقة في أصول التركيب والتكوين.
(وموقف الجنسين من الاستجابة لمطالب النوع يهدينا إلى حكمة هذا الفارق من طريق قريب.
فالذكور من جميع الحيوانات قد أعطيت القدرة - بتركيبها الجسدي - على إكراه الإناث لاستجابة مطالب النوع طائعات أو مقسورات. ولا يتأتى ذلك للإناث على حال من الحالات الجسدية، فغاية ما عندهن من وسيلة أن يهجن الرغبة في الذكور وأن يجعلنهم يريدون، ولا يستطيعون الامتناع عن الإرادة.
(فهذا الفارق ملحوظ في أعمق أعماق التركيب الجسدي من كلا الجنسين، منذ نشأ الفارق بين ذكر وأنثى في عالم الحيوان. وحكمته ظاهرة كل الظهور، لأنها هي الحكمة التي توافق بقاء النوع، وارتقاء الأفراد جيلا بعد جيل.
(فالإغواء كافٍ للأنثى، ولا حاجة بها إلى الإرادة القاسرة. بل العبث تزويدها بالإرادة التي تغلب بها الذكر عنوة؛ لأنها متى حملت كانت هذه الإرادة مُضيَّعة طوال مدة الحمل بغير جدوى: على حين أن الذكور قادرون إذا أدوا مطلب النوع مرة، أن يؤدوه مرات بلا عائق من التركيب والتكوين، وليس هذا في حالة الأنثى بميسور على وجه من الوجوه.
(وإكراه الأنثى على تلبية إرادة الذكر لا يضير النوع ولا يؤذي النسل الذي ينشأ من ذكر قادر على الإكراه وأنثى مزودة بفتنة الإغواء، فهنا تتم للزوجين أحسن الصفات الصالحة لإنجاز النسل: من قوة الأبوة، وجمال الأمومة، ويتم للنوع مقصد الطبيعة من غلبة الأقوياء الأصحاء القادرين على ضمان نسلهم في ميدان التنافس والبقاء. . .
(وعلى نقيض ذلك لو أعطيت الأنثى القدرة على الإرادة والإكراه لكان من جراء ذلك أن يضمحل النوع ويضارّ النسل، لأنه قد ينشأ في هذه الحالة من أضعف الذكور الذين ينهزمون للإناث. . .!
(وكيفما نظرنا إلى مصلحة النوع وجدنا من الخير له أبداً أن يتكفل الذكور بالإرادة والقوة، وأن تتكفل الإناث بالإغواء والتلبية، بل وجدنا أن فوارق البنية قد جعلت السرور في كل من الجنسين قائماً على هذا الأساس العميق في الطباع. فلا سرور للرجل في إكراهه على مطلب النوع، بل هو منغص له، مضعف من لذة حسه. أما المرأة فقد يكون استسلامها لغلبة الرجل عليها باعثاً من أكبر بواعث سرورها، ولعله أن يكون مطلوباً لذاته كأنه غرض مقصود. بل هو في الواقع غرض مقصود لما فيه من الدلالة على توفق الأنثى إلى إغواء أقوى الذكور. ومن البداهات الفطرية أن تتظاهر المرأة بالألم والانكسار في استجابتها للنوع، لأنها تفطن ببداهتها الأنثوية إلى هذا الفارق الأصيل في خصائص الجنسين)
بمثل هذا المنطق المستلهم مباشرة من الحياة يسير العقاد في (هذه الشجرة) فيتحدث عن: (غواية المرأة، وجمال المرأة، وتفاوت الجنسين، وتناقض المرأة، وحب المرأة، وأخلاق المرأة، وحقوق المرأة، والجنس، والحب، ومعاملة المرأة) وهي الفصول التي تضمنها كتابه، ثم يختمها (بمقتطفات عن المرأة من كتب المؤلف) تتساوق مع آرائه التي أبداها في الكتاب، وتدل على عمق هذه الآراء في نفسه، وأصالتها في طبيعته، وأنها ليست وليدة الاطلاع وحده، ولا وليدة التجربة وحدها، ولكنها قبل هذا وذلك وليدة الطبع المستقيم، والفطرة السليمة، التي تستمد عناصر شعورها وتفكيرها من صميم الحياة والطبيعة.
ولولا أننا معجلون - لضيق الفراغ - لاقتبست هنا كثيراً من الفقرات الدالة على هذا كله في ذلك الكتاب، الذي أعده من أعظم ما كتب العقاد ولكن هنا ملاحظة جديرة بالتسجيل. ذلك أن العقاد في كتابه هذا إنما يتحدث عن (الأنثى الخالدة) وراء أوضاع المجتمع، ووراء أزياء الحضارة، الأنثى التي طعمت من الشجرة المحرمة - لأنها ممنوعة - وأغوت رجلها فأكل، والتي لن تزال تطعم من كل شجرة محرمة - لأنها ممنوعة - وتغوي رجلها فيأكل! وتأويل هذه الفتنة بالممنوع، وتأويل قدرتها كذلك على الإغواء هو الذي تكفل به بعض فصول الكتاب!
والعقاد مهيأ بطبيعته، لأن تتكشف له (الأنثى الخالدة) من وراء المرأة المتجملة، والأوضاع الطارئة. وهو القائل في كتابه (شاعر الغزل) عن طبيعة عمر بن أبي ربيعة:
(إنما تأتي خبرة ظرفاء المجالس من تقارب الإحساس بين المرأة وبين هذه الطائفة من اللاهين والمتغزلين، فهم يحسون كما تحس، أو على نحو قريب مما تحس، وهم يشبهونها بعض الشبه فيصدقون في الحكاية عنها، والتحدث بخوالج نفسها. وفرق بعيد بين هذا وبين الرجل الذي يعلم طبع المرأة وهو يخالفها في طبعها، ويستجيش ضمائرها، لأن هذه الضمائر تجاوبه مجاوبة الأنثى للذكر، فيعرف من مجاوبتها كيف تضطرب نفسها، وتتقلب هواجسها وخواطرها)
الرجل الأول هو عمر بن ربيعة، والرجل الثاني هو العقاد.
وإن هذه الاستجاشة وتلك الخبرة الناشئة عنها لواضحتان كل الوضوح في هذا الكتاب!
سيد قطب