مجلة الرسالة/العدد 613/السيد جمال الدين الأفغاني
مجلة الرسالة/العدد 613/السيد جمال الدين الأفغاني
أستاذ الوحدة الإسلامية
للأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف
تمهيد تاريخي
كان السيد جمال الدين الأفغاني أستاذ (الوحدة الإسلامية)، الذي أقامها مذهباً، وأوضحها منهجاً، وخلفها في العقول وفي القلوب عقيدة اجتماعية وفكرة سياسية لها أشياع وأتباع، فتردد صداها في كل مصر من أمصار العربية، وظهر أثرها في كل قطر من الأقطار الإسلامية، حتى أصبح اسم ذلك المصلح العظيم لا يذكر إلا مقروناً بالدعوة لتلك الوحدة، مميزاً بالجهاد في ميدان هذه الفكرة.
كان جمال الدين الأفغاني أستاذ (الوحدة الإسلامية) الذي رفع لواءها، على أنه لم يكن أول من فكر فيها أو أقترح الرأي بها، فهم يقولون إن صلاح الدين الأيوبي قد دعا هذه الدعوة، وأراد أن يجمع دول الإسلام وولاياته عندما رأى دول الصليب قد تجمعت واحتشدت لتتخطف مجد الهلال من كل جانب، وعلى أي حال فقد طويت دعوة صلاح الدين بظروفها وملابساتها، وانتهت حملة الصليب على الهلال إلى غمرة شاملة، قضاها الشرق العربي مخدور الأعصاب، مجزور الأسباب، مهدوم الكيان والبنيان، بعد أن خذلته أمراض الفرقة، وفرقته أغراض الطمع، وقتله الجمود والخمود، فكان له ماض وكأنه لا يمت إليه، وكان له حاضر ولكنه لا ينتفع به، وكان أمامه مستقبل ولكنه ليس له.
هذه حقيقة لم يختلف في تقريرها أحد من الباحثين الذين عنوا بشؤون الشرق واهتموا بتشخيص دائه المزمن سواء أكانوا من الغربيين أم من الشرقيين، وإن اختلفوا في التعليل لهذه الحقيقة والتماس الأسباب التي أدت إليها، على أن هناك إلى جانب هذه الحقيقة حقيقة أخرى لا بد أن نذكرها في المقام، وهي التي شهد بها البحاثة الاجتماعي المعروف الدكتور جوستاف لوبون إذ يقول في هذا الصدد: (ولئن كانت دولة العرب لم تعد ترى إلا في كتب التاريخ فإن المعنى الديني الذي هو أساس تلك الدولة قد ظل حياً ذائعاً، وبقي محمد (ﷺ) من أعماق قبره يسود تلك الملايين العديدة الساكنة أفريقية وآسيا المترامية بين مراكش والصين والمنثورة بين البحر الأبيض وخط الاستواء. .).
غير أن هذا المعنى الذي يشير إليه جوستاف لوبون، والذي بقي حياً في قلوب أمم الشرق، وظل يربط نفوسهم برباط الوحدة، استحال آخر الأمر في قلوبهم وفي نفوسهم وفي تفكيرهم إلى وضع معكوس مقلوب عما كان عليه آباؤهم من قبل، وليس لباساً ملفقاً من الأوهام والأضاليل والترهات، أجل! فقد كان الدين في قلوب الآباء قوة تتدفق بالحياة والحركة فأصبح في قلوب الأبناء إشارة ضعف وجمود، وكان في نفوس السابقين مظهر عزة وفخار، فصار في نفوس أولئك اللاحقين دلالة ذلة وانكسار، وكان في تفكير السلف صلة تصلهم بما في الدنيا من أرقى معاني الحرية والاستقلال فانعكس في تفكير ذلك الخلف إلى بلادة تفيض بالخضوع والاستسلام، حتى كنت لا تلمس في ذلك الجسم الطويل الممدود في أفريقية وآسيا من معاني الدين إلا الحسرة على مجد كان لهم، والبكاء على سلطانٍ ضاع من أيديهم، وإنهم لفي يأس من رجعة ذلك إليهم، كأن ما ذهب قد ذهب الأيام بحقيقته، فكان هذا مما فتح الباب لبعض المستشرقين في اتهام الدين الإسلامي في طبيعته وتعاليمه، فقرروا أنه هو الذي أفضى بالشعوب الإسلامية في الشرق إلى ما هم فيه من الانحطاط، وأن عقيدة القضاء والقدر هي التي أدت بهم إلى البلادة والخمول والاستسلام، ومن العجيب أن هذه التهمة الباطلة المغرضة قد راجت في الغرب، وجازت على بعض أبناء الشرق، على الرغم من أنها ظاهرة البطلان، واضحة البهتان. . .
كانت تركيا تحمل لواء الخلافة الإسلامية، وتبسط جناح السيادة على أقطار الشرق العربي فيما تحكم من الأقطار والإمارات، ولكن تركيا كانت تعني بأملاكها في أوربا أكثر مما تعني بشؤون الشرق العربي وشؤون أقطاره، ولم تكن لها صلات صحيحة تقوم على المودة بين أبناء العروبة، ولم تكن ترعى حقوق الرابطة الإسلامية كما يجب أن تكون الرعاية، بل لقد صارت سياستها في الشرق آخر الأمر مثلا شروداً في الظلم وخنق روح القومية بين أبناء الأقطار العربية، والاستبداد في القضاء على كل مظهر من مظاهر الاستقلال والتعاون بينهم، وعندما تنمر الاستعمار الأوربي وأخذ يتطلع لافتراس ممتلكات تركيا أو الشيخ المريض كما كانوا يقولون، لم تبادر تلك الإمبراطورية المتداعية إلى تدارك هذا الأمر برأب الصدع وإقامة جبهة إسلامية قوية في الشرق لمواجه هذا الخطر، ولقد أراد السلطان عبد الحميد أن يحقق هذه الغاية استجابة لدعوة السيد جمال الدين، كما سنشرح ذلك فيما بعد، ولكنه أخفق، لأنه أراد أن يقيم هذه الوحدة لا من حول تركيا ولا من حول الفكرة الإسلامية، بل من حول شخصه هو، فالتاث عليه الأمر، وجرت الأحوال في طريقها المحتوم، وانطلقت الدولة في سياسة الأقطار العربية على أساليبها الفاسدة، وخطتها الجامدة، فكان ذلك مما عجّل بتقليص ظلها عن الشرق، فاحتل الفرنسيون تونس في سنة 1881، واحتل الإنجليز مصر سنة 1882، ثم أغارت إيطاليا على طرابلس في سنة 1911، ثم وثبت فرنسا مرة أخرى فاستولت على المغرب في سنة 1912، ثم قامت الحرب الماضية فكانت نهايتها نهاية تركيا في حكم الشرق العربي جميعه. . .
الهمزة الأولى. . .
ولعل حملة نابليون على مصر كانت أول هزة هزت أقطار الشرق العربي، وحركت من وجدانات أبنائه، فإن تلك الحملة كانت كما يقول (كلوت بك) أشبه شيء بصاعقة هوت من السماء على الشرق، فأيقضته منزعجاً من سباته الطويل العميق، إذ كانت الأساليب العتيقة فيه قد بقيت إلى ذلك العهد على حالها لم يتناولها تغيير ولا تبديل، وكانت الدولة العثمانية قائمة بحروب طويلة ضد الروسيا والنمسا، ففازت بالنصر تارة وباءت بالخذلان أخرى، لكن هذه الحروب لم تغير شيئاً من أفكارها العتيقة، وكانت الشعوب الخاضعة للدولة العثمانية تعتقد أنها بعيدة المنال على من يرومها بفتح أو قهر، وأنه لا يمكن أن يوجد على سطح الأرض دولة تبلغ مبلغها عزاً ومنعة لأن ذكرى الفتوحات القديمة كانت لا تزال عالقة بأذهانهم. .)
لهذا كله كانت تلك الحملة هزة هزت أعطاف الشرق العربي، واتجهت به وجهة جديدة مغايرة، ولم تكن تلك الحملة بما يكتنفها من الظروف والملابسات موجهة إلى مصر فحسب، ولكنها كانت تريد أن تتخذ من ذلك باباً إلى أقطار الشرق جميعها، وإذا كانت تلك الحملة قد فشلت من الناحية الحربية والسياسية، فإنها لا شك قد نجحت من الناحية العلمية والفكرية، وكانت الاتجاهات التي اتجه إليها نابليون في إنشاء المجالس النيابية والوطنية، مما فتح الأعين وهز النفوس بالتشوق إلى وضع جديد من أوضاع الحكم يقوم على الشورى والرأي، وأكثر من ذلك فقد وقف أبناء الشرق بواسطة هذه الحملة على ما دعت إليه الثورة الفرنسية من مبادئ سياسية وغايات اجتماعية في تحقيق العدالة والإخاء والمساواة، فكان لهذا كله اثر في الأفكار والميول ظهر فيما بعد. .
محمد على والوحدة. .
وتم الأمر لمحمد على باشا في حكم مصر والاستقلال بها عن الدولة العثمانية، وقد كانت لذلك العاهل العظيم مطامع وآمال كبار في إقامة إمبراطورية عربية شرقية تقوم على أطلال الإمبراطورية العثمانية المتداعية، أو على الأقل تقوم تجاهها في الشرق حفظاً للتوازن الذي يجب أن يقوم أمام الغرب الطامع، والتي كانت الحملة الفرنسية نية من نياته المتحفزة المتنمرة، وكان محمد علي يرى أن تحقيق آماله هذه منوط بشيئين أساسيين: سطوة السيف، وقوة العلم، ومن ثم فقد أرسل بجيوشه الفتية تحت قيادة ابنه إبراهيم لتحقيق هذه الغاية في ميادين الحرب، كما أرسل بالبعوث العلمية إلى أوربا لتكون سنادة لهذه الغاية، وتدعيما لسلطان السيف فيما يطويه من الممالك والأمصار، ولقد سئل إبراهيم باشا عندما شدد الحصار على عكا وأوشك حصنها أن ينهار أمام قواته: إلى أي مدى ستقف في فتوحك إذا ما تم لك الاستيلاء على عكا؟ فقال: إلى مدى ما يتكلم الناس وأتفاهم وإياهم باللسان العربي، ومما يؤثر عنه أنه كان يقول: أنا لست تركياً فإني جئت مصر صبياً، ومنذ ذلك الحين قد مصرتني شمسها وغيرت من دمي وجعلته دماً عربياً. . .
إذا كان محمد علي يقصد إلى إقامة إمبراطورية تقف حدودها عندما يتكلم الناس ويتفاهمون باللسان العربي، وإذن كان ذلك الرجل العظيم يرمي إلى هدف معلوم مفهوم، وهو إقامة وحدة بين الأقطار العربية بحد السيف وسلطان القوة، على نحو الإمبراطورية العظيمة التي أقامها الفتح الإسلامي، والإمبراطورية الممتدة التي أقامها الفتح العثماني، فهو لم يتنكب الوضع التاريخي السابق الذي اتخذه مثالا وقدوة في تحقيق مطامعه، وقد كاد الأمر يتم له، لولا يقظة الدول الأوربية وتألبها عليه، إذ تبينت حقيقة مطامعه وخطر قيام هذه الإمبراطورية العربية على أطماعها في الشرق، فتآمرت على تحطيم أسطوله في معركة (نافارين) ووقفت إلى جانب تركيا تتحداه في مطامعه، وتحتم عليه أن يعود أدراجه، فاستطاعت بذلك أن تغير وجه التاريخ، وأن تقلب أطماع محمد علي رأساً على عقب، وأن تقضي على آمال ذلك البطل العظيم في إقامة وحدة عربية أو على التحقيق في تأسيس إمبراطورية عربية إسلامية. .
وأنت في الواقع لا تستطيع أن تجد فرقاً يذكر في تقدير محمد على بين العربية والإسلامية، فإن الرجل كان يتكلم بقوة السيف، والذي يتكلم بقوة السيف لا يعنيه غالباً البحث في الألفاظ والاهتمام بوضع الاصطلاحات والتدقيق في تحديد الفرق بينهما، كما يصنع الذين يجلسون على المكاتب فيرسمون الخطط، ويحسبون الخطوات، ويهتمون في حسابهم بالأصفار والفروق بين الأصفار، ويقدرون أن إنشاء الأمم وحياة الشعوب نظرية هندسية يقدر قياسها بالدرجة وأجزاء الدرجة، إنما كان قصد محمد علي كما قلنا إلى تأسيس إمبراطورية تقوم بين أجزائها وعناصرها على الوضع السابق في قيام الإمبراطورية العربية والإمبراطورية العثمانية، وأنت حر في نعتها بالعربية أو بالإسلامية أو بالعلوية، فهذه كلها ألفاظ مترادفة تؤدي إلى مدلول واحد، وغاية ما كان ينظر إليه محمد على هو وحدة اللسان العربي، وكأنه كان يريد بهذا إشعار الأقطار التي تدخل حوزته بأنه عربي لأنه يتكلم هذا اللسان، حتى لا يشعروا بأن حكمه عليهم صورة أخرى من الحكم العثماني، وأنه فرع من تلك الشجرة فيؤثروا أن يستمروا على العيش في ظلال الأصل بدل الفرع ما دام الوضع هو هو لم يتغير. .
إسماعيل والوحدة الأفريقية
ودالت دولة محمد علي، أو قل دالت أطماعه في إقامة الإمبراطورية التي كان يريدها، فلما كانت أيام إسماعيل باشا، كانت في نفس ذلك الخديوي نزعة طموح من نزعات محمد علي، وكانت تتخلله رغبة في الفتح، ولكنه كان يقف في هذه الرغبة عند إقامة وحدة أفريقية تشمل حوض نهر النيل من المنبع إلى المصب، وما يتصل بذلك من الأقطار القريبة والأمصار التي لا بد منها، وقد أرسل بعض الحملات الحربية في سبيل تحقيق هذه الرغبة، وقد استطاع إسماعيل أن يشغل الأذهان بعض الوقت بمسألة (الوحدة الأفريقية)، وأعاد سيرة محمد علي في بعث البعوث العلمية، واندفع في الأخذ بمظاهر المدنية الأوربية حتى يكون لمصر الصدارة في ذلك بين الأقطار المجاورة، ولكن شتان ما بين محمد علي وإسماعيل، فقد كان محمد علي يجند جميع مرافق البلاد لخدمة جيوشه والإنفاق عليها، وكانت هذه الجيوش تجلب له ما تجلب من المغانم والأسلاب، ولكن إسماعيل كان يستدين وينفق على حملاته، وكانت هذه الحملات تأخذ دائماً ولا تعطي شيئاً، وجرت الأمور معكوسة، وأثقلت الديون كاهل إسماعيل، وذهبت فكرة (الوحدة الأفريقية) كما يذهب أمس من اليوم، مضت وكأنها لم تكن. . .
فآمال محمد على، وآمال إسماعيل من بعده إنما كانت هزات سياسية، ونزعات إلى التآلف والوحدة في ظل القوة والفتح والاستعمار، فانتهت بانتهاء الظروف التي لابستها، ولم يكن لها أثر إيجابي في النفوس، ولم تنحدر إلى العقول والقلوب عقيدة لها أشياع وأتباع، ولكنها خلفت وراءها أثرين متقابلين، وتيارين متضادين، أحدهما في الشرق، وهو تنبه الأذهان، وتفتح الأفهام، والطموح إلى حياة المجد والاستقلال، والتميز الشخصي بين ممالك الإمبراطورية العثمانية، وثانيهما في الغرب، وهو تنبه المطامع ويقظة المآرب في نفوس الدول الغربية المتحفزة لوضع يدها على تركة الشيخ المريض، والقيام مقام الدولة العثمانية المتداعية على أقطارها في الشرق. . .
(للكلام بقية)
محمد فهمي عبد اللطيف