انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 609/سياسة التعليم ووحدة الأمة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 609/سياسة التعليم ووحدة الأمة

مجلة الرسالة - العدد 609
سياسة التعليم ووحدة الأمة
ملاحظات: بتاريخ: 05 - 03 - 1945



للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر

يجد الناشئ في مصر اليوم أبواباً مختلفة للدخول إلى الحياة التعليمية. فالوالد يرى أمام عينيه لابنه أنواعاً من المدارس متعددة: المدرسة الإلزامية، والمدرسة الأولية، والمدرسة الابتدائية، ومدرسة تحفيظ القرآن الكريم، وأخيراً المدرسة الريفية التي ظهرت حديثاً. فإلى أيها يتجه الولد وفي أيها يستمر؟

وبجانب هذه الحيرة من الوالد تجد السور من المواطن الذي لم ينظر إلا نظرة سطحية إلى هذه الأنواع الكثيرة من المدارس فسره تعددها معتقداً أن ذلك يفسح المجال أمام الناشئ للسير قدماً في حياته التعليمية وأن التعليم الشعبي في بلادنا قد تدرج في مدارج الرقي وتقدم سريعاً في تطوره وتنوعه في سبيل إنشاء جيل جديد مغامر مجاهد في نواحي الحياة المختلفة، غير أن نظرة أعمق من تلك النظرة السطحية كفيلة بأن توحي إليه بشعور آخر خصوصاً إذا درس تاريخ تلك الأنواع. فهذه المدارس البدائية في التعليم، لم تنشأ نتيجة تجارب وأبحاث علمية كما هو الحال في غير هذه البلاد، ولكنها نشأت كما نشأ غيره أحياناً في مراحل التعليم الأخرى نتيجة أفكار وآراء ارتجالية بحتة من أشخاص وأتاهم النفوذ والسلطان ردحاً من الزمن تبين لهم في خلاله شيء من العيب أو النقص في نوع ما من أنواع التعليم، فلم يفكر جدياً في إصلاحه وتركوه جانباً يتخبط في عيوبه حيث هو واتجهوا إلى خلق نوع جديد خال كما ظنوا من ذلك العيب أو النقص الذي تبينوه، وأطلقوا على مولودهم اسماً جديداً ليتميز عن قديم غيرهم. كما حدث أخيراً في المدارس الريفية التي تكاد تطغى الآن على المدارس الإلزامية والأولية. وفي المدارس الثانوية الزراعية، والتجارية والصناعية التي حلت محل المدارس الفنية المتوسطة. وكما حدث قديماً في قيام معهد التربية العالي والابتدائي على أنقاض مدرسة المعلمين العليا والمتوسطة وفي قيام كليات في الأزهر الشريف تناهض دار العلوم ومدرسة القضاء الشرعي، وكليات الجامعة تتبعها معاهد دينية ثانوية على غرار المدارس الثانوية المدنية تؤهل للكليات الأزهرية ومعاهد ابتدائية دينية على غرار المدارس الابتدائية تؤهل للمعاهد الدينية الثانوية الخ.

وكانت نتيجة وجود هذه التشكيلات المختلفة التي نشأت في دور التعليم أن خرج جماعات من أبناء البلاد الواحد مختلفة الثقافات متعددة الشهادات تعمل في مهنة واحدة مما حدا بوزارة المالية أن تكدح شهوراً طوالا في تقدير درجات تلك الوريقات وتقديم ما تستحقه حاملها من مرتبات وعلاوات في مختلف الوظائف الحكومية، وقامت بين تلك الطوائف المختلفة المشاحنات على ما تستحقه هذه الطائفة أو تلك من مرتبات ودرجات. ويا ليت الأمر اقتصر على ذلك فإنا نجد أن كل وحدة من وحدات الطائفة الواحدة أو كل فئة من فئاتها تتعصب في نفسها لمدرستها وثقافتها عاملة على رفع شأن نفسها على أنقاض الفئة الأخرى مجدة في تأليف النقابات لمناهضة غيرها والفوز عليه مقدمة في تأليف النقابات لمناهضة غيرها والفوز عليها مقدمة ذلك كله على الصالح العام المشترك.

خذ لذلك مثلا طائفة رجال التعليم والمعلمين وهي تلك الطائفة الكبيرة التي بلغ عددها آلافا مؤلفة والتي كان يجب أن تحمل لواء النهضة في البلاد لمركزها العلمي من جهة ولتغلغلها في القرى والمدن من جهة أخرى إذ تجد منها العشرات في القرية الواحدة موزعين على المدارس الإلزامية والأولية والريفية كما تجد منها المئات في المدينة الواحدة موزعين على المدارس الإلزامية والأولية والريفية كما تجد منها المئات في المدينة الواحدة بين جدران المدارس الابتدائية والثانوية والصناعية والزراعية والتجارية، هل ترى بين رجالها شيئاً من التآلف والتعاون على الصالح العام في سبيل النهوض بأبناء البلاد ورجال مستقبلها! وهل تجد تلك الوحدات من رجال التعليم في إقليم ما يجتمعون اجتماعاً جدياً للبحث في حالة التعليم في إقليمهم؟ إنهم مع الأسف لا يجتمعون إلا لتكريم زيد أو بكر الذي سيساعدهم في الحصول على الدرجات والعلاوات.

والأدهى والأمر من ذلك ما تجده في المدرسة الواحدة من تنافر بين الوحدات المختلفة الثقافة المتباينة التفكير! فقد تجد في المدرسة الواحدة الابتدائية أو الثانوية واحداً أو أكثر من رجال البعثات، وآخر من خريجي جامعة فؤاد، وثالثاً من خريجي المعلمين العليا، ورابعاً من خريجي دار العلوم، وخامساً من خريجي الجامعة الأزهرية، وسادساً من خريجي المعلمين الثانوية، وسابعاً من خريجي الفنون الجميلة العليا، وثامناً من خريجي الفنون والصنائع، وتاسعاً من خريجي المعلمين المتوسطة، وعاشراً من خريجي الفنون التطبيقية، وغيرهم وغيرهم من خريجي معهد التربية العليا، ومعهد التربية الابتدائي، وحملة البكالوريا وغيرهم، وإني أذكر أنه قد اجتمع لدي لما كنت ناظر لإحدى المدارس الابتدائية تسعة أنواع من هؤلاء، فكان لا يمر يوم واحد بدون مشاحنة بين بعضهم البعض، فكيف يظن متفائل أن عدداً من هؤلاء إذا اجتمعوا في مدرسة يمكن لهم أن يتفقوا ويتفاهموا في سبيل صالحها! فما بالك بما ينشده كل معهد علمي من التضافر والتعاون في سبيل النهوض به وبأبنائه! إن التعاون في مثل هذه المدرسة مستحيل لأن كل ضعيف من هؤلاء يفكر في الدفاع عن نفسه أو هاجمه غيره وأظهر امتهانه لثقافته، ولأن كل قوي منهم يحاول أن يهاجم غيره ويقلل من أهميته، ومصلحة التعليم ضائعة بين الكر والفر والهجوم والدفاع! لا يفكر فيها مفكر وليس الأمر في هذا التنافر قاصراً على التعليم وحده، ولكنه يتعداه إلى غيره من مرافق البلاد الحيوية خصوصاً تلك التي تسيطر عليها عناصر مختلفة الدراسات والثقافات. فهذه الحال نجدها بين رجال القضاء الأهلي والشرعي في المجالس الحسبية خاصة. كما نجدها بين رجال القضاء الشرعي فيما بينهم من طائفتي خريجي الجامعة الأزهرية، وخريجي مدرسة القضاء الشرعي! وهذه الحال نجدها بين طوائف المهندسين من خريجي كلية الهندسة وخريجي المدرسة التطبيقية وخريجي الفنون الجميلة العليا وخريجي الفنون والصنائع على النظام القديم والحديث! ثم إن هذه الحال نفسها نجدها مع الأسف في قادة الرأي والزعماء المشرفين على مصالح البلاد العامة كلها! فياله من انقسام وانحلال يكاد يهوي بنا! وكان للتشعب والتنوع في التعليم الواحد أثره الفعال فيه! لقد نبهنا من سنين عدة إلى ضرورة رسم سياسة تعليمية عليا توجه التعليم في البلاد توجيهاً صالحاً في سبيل التوحيد والتعاون ولكننا مع الأسف لم نجد سميعاً! فكان ما تراه من تخاصم وتنافر وتناحر!

وإذا كان اليوم قد تولى أمور التعليم رجل عالم واسع الفكر فانا نهيب به أن يعمل جاهداً في سبيل الوحدة بوضع التعلم والثقافة في هذا البلد على أسس قويمة تكفل الوحدة وتدفع إلى التعاون والتآزر بدلا من التخاصم والتنافر. إن ثمرة ذلك لا تأتي إلا بعد زمن طويل ولكن الفخر للوزير العامل الذي سيضع إن شاء الله بذور ثقافة موحدة تنمو وتزدهر في مستقبل الأيام وتستمر على مدى الأيام حاملة اسمه في سجل العاملين الخالدين.

عبد الحميد فهمي مطر