انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 608/هذه الشجرة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 608/هذه الشجرة

مجلة الرسالة - العدد 608 المؤلف عباس العقاد
هذه الشجرة
ملاحظات: بتاريخ: 26 - 02 - 1945


للأستاذ عباس محمود العقاد

للأستاذ محمد عبد الحليم أبو زيد

لم يكد الفكر يثب لإخضاع كل شيء من مظاهر الوجود للدرس؛ والتحليل؛ والتجلية؛ حتى اصطدم بأسوار الشخصية الإنسانية؛ فلقد لبث حيالها طويلا لاقتحام مجاهلها؛ وإضاءة جوانبها وكشف سراديبها، متخذا شوا ردها وظواهرها وما بند عنها وينبعث منها في سكونها واضطرابها؛ في تألقها، وانطفائها؛ في إقبالها وأدبارها؛ وسيلة إلى النفوذ إلى أعماقها؛ ومع أنه استطاع بفضل تسجيل هذه الظواهر؛ واستقراء هذه الأطوار أن يقدم إلى حد كبير معلومات قيمة عن هذا العالم؛ وكنه تلك الشخصية المحجبة؛ وإن كان الكثير منها لا يزال رهنا بما يدعم قوته في المستقبل أو يهدمه؛ ومع أن هذه الدراسات قد شارفت الاستواء العلمي في الغرب، فهي لا تزال محاولات أوليه في اللغة العربية؛ تقوم على الترجمة حينا و - الاختلاس - حينا آخر. فإذا ظفرت اللغة العربية بهذا البحث عن شخصية المرأة ومحاولة تحليل هذه الشخصية؛ وحل الكثير من عقدها؛ والغوص إلى مصدر تجاوبها الروحي والنفسي، واتصال ذلك بنظرتها في الحياة ودخله في تكييف نفسيتها وتكوين خلقها وإبانة مواضع سلوكها وما يتصل بعواطفها وأحاسيسها؛ فقد كان فوزاً عظيما للغة والأخلاق؛ أما اللغة فقد اكتسبت ثروة في ناحية لا تزال يعوزها الكثير منها؛ فلقد كان يطامن من شخصيتنا العلمية خواء المكتبة العربية من هذا اللون من الدراسات على كثرتها وعمقها في المكتبة الغربية؛ وأما الأخلاق فلا تخدم إلا بأمثال هذه الأبحاث؛ لأن المصلح الأخلاقي إذا أخطئه الوقوف على حقيقة الدوافع النفسية ومصادر هبوبها؛ والعوامل التي تعمل فيها حتى يتهيأ له قيادها حيث تجب القيادة، ويطب حيث يكمن داؤها؛ فشلت إلى حد كبير رسالته؛ لا أقول إن هذا البحث قد قال الكلمة الأخيرة في هذا الموضوع، أو أن كل ما فيه مبرأ من المآخذ التي يمكن أن تكون موضع جدل بين أساطين هذه الدراسات؛ بل ترجع قيمته إلى أنه أول بحث في اللغة العربية على ما أعلم - من نوعه؛ وأنه قد جمعت له من وسائل الفوز ما لا يظفر كثير بمثلها؛ فلقد تناوله ذهن منطقي بسليقته وطبعه؛ وقد نهل طويلا من أصفى مناهل المنطق؛ وعكوفه على هذه الدراسات العميقة الدقيقة؛ في هذا الجانب النفسي؛ وما يتصل به عكوفا متواصلا؛ وليس أدل على ذلك من هذا الثبت في آخر الكتاب يرشدك إلى أن هذا الموضوع ليس وليد المصادفات الغريبة؛ بل هو كمين في ذهن الكاتب من فجر حياته الفكرية؛ ووقوفه التام على ما تجود به الأقلام في هذه الناحية؛ ثم صياغته صياغة محكمة طلية؛ كل هذا يضع هذا البحث من القلوب موضع الإكبار والحب؛ لأنه الباكورة الأولى التي نرجو مخلصين أن تتابع؛ وقيمة الكتاب يجب ألا تقاس فقط بكثرة ما يحمل من نظريات لا يحوم حولها النقد؛ بل يجب أن تقاس أيضاً بما يثير من آراء؛ ويبعث من أفكار؛ وينير من جوانب؛ ولعل هذا النوع يكون أطول بقاء وأقوى على النفع بما يتولد عنه ويتجاوب معه؛ وحسبي ذلك في تقديم هذه الشجرة، فليقبل عليها القارئ ليجنى ثمرها؛ ويهدأ في ظلها.

محمد عبد الحليم أبو زيد