انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 605/على هامش النقد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 605/على هامش النقد

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 02 - 1945



قصص وأساطير

1 - أساطير الحب والجمال. . . . . دريني خشبة

2 - عشاق العرب. . . . . . . . . كامل عجلان

للأستاذ سيد قطب

- 1 -

ليس هذا الكتاب (ترجمة) بالمعنى الكامل وليس (تأليفاً) كذلك، فهو استعراض لهذه الأساطير عند الإغريق مطلق من التقليد النصوص. . . ولست أدري أكان من الخير أن يسلك المؤلف هذا الطريق، أم أن يسلك طريق الترجمة الدقيقة لأصل من أصول هذه الأساطير أو لبحث حولها أو لتفسير. ولكن وجودها في المكتبة العربية - على وضع من الأوضاع - هو بدون شك كسب لهذه المكتبة كبير. وقد تلقيتها بفرح، وعشت معها أسبوعين؛ كانا فرصة لأن أعاود قراءة ترجمة الإلياذة الإغريقية، والشاهنامة الفارسية، والرامايانا الهندية، وبعض الأساطير المصرية، لأعيش فترة من الزمن في هذا الجو الأسطوري الجميل، ولأصحاب الطفولة البشرية العذبة. بعض الوقت، ولتكون لدي الفرصة - على قدر الإمكان - لملاحظة الخصائص القومية في الأساطير والملاحم. وهي أصدق المعايير. لأنها من عمل الشعوب في الحقيقة لا من عمل الأفراد.

وقد أثار وجود هذه المجموعة في اللغة العربية، شوقي لأن يوجد لها نظير عن (الأساطير المصرية)، ومجموعة عن (الأساطير الهندية). وإن كنت قد سمعت - ولم أقرأ - عن مجموعة صدرت للأساطير الشرقية

أن مصر القديمة. مصر العريقة، مصر الضاربة في مجاهل الأبد، النابتة في جذور التاريخ. إن لمصر هذه أساطير راقية وحياة روحية رفيعة. وقد ثبت بما لاشك فيه أن الإغريق قد تناقلوا كثيراً من هذه الأساطير، وتسلفوا الكثيرين من الآلهة من هنا من مصر! وثقفوا ثقافة مصر الروحية والعلمية والاجتماعية والقانونية، ثم أقاموا عليها حضاراتهم ب ألف عام.

ولكننا نفتن عن هذا كله، فلا نلتفت إلى هذه الذخيرة الضخمة التي لا تزال العالم الحي يقبس منها. ففي عصرنا الحاضر يوجد في أوربا من النحاتين من يقيمون مذاهبهم على أساس الفن المصري القديم، ويوجد من رجال الآثار ومن رجال الأدب من يتعمق دراسة الآثار الروحية والدينية لمصر القديمة، ومن يحيل هذا الزاد طعاماً حاضراً شهياً، يزيد به ألوان المائدة العالمية

أما في مصر فلا شيء من هذا كله. إنما يكتب المفتونون منا بالحضارة الإغريقية، فيصورونها حضارة هبطت من سماء الأولمب، ولم تستق مرة واحدة من نبع النيل، اللهم إلا رجلاً عظيماً - عظيماً جداً لأنه نجا من هذه الفتنة - هو المرحوم عبد القادر حمزة باشا، ذلك الذي حاول في كتابه الخالد (على هامش التاريخ القديم) أن يكتشف لقراء العربية عن هذا الدين القديم!

وللشرق على وجه العموم - ولاسيما الهند - ثقافاته العريقة، ثقافاته الروحية والفكرية. ولكن المكتبة العربية منها خواء. وعندما عثرت على ترجمة مختصرة لرامايانا (مجازفات راما) من (مطبوعات مجلة النفير) أحسست أنني عثرت على شئ نادر! ليس من مثله إلا القليل. شيء نادر لأنه شرقي. ونحن المفتونين عن مصر وعن الشرق. لا نحفل من هذه الذخائر ما تحفله الأمم الحية في الغرب، التي تستنقذ كل ما خلفت البشرية من ثقافات فتحيله غذاء شهياً على مائدتها الحافلة بالشهي اللذيذ!

أفلم يئن لنا أن نعرف أنفسنا كما عرفها العالم المتحضر؟

إنني لأشعر بفيض من السعادة يوم أجد المكتبة العربية حافلة بالمترجمات من كل الثقافات العالم. على ألا يبقى ركن الثقافة المصرية وركن الثقافة الشرقية كما هما اليوم يعشش فيهما العنكبوت!!!

يحس القارئ للأساطير الإغريقية أن الحياة المتنزية الوثابة هي الحكم في هذا الكون العريض، بينما يحس في الأساطير المصرية أن العدل والخير والمبادئ الخلقية هي القانون أما الأساطير الهندية فتخيل إليه أن التضحية والصبر والتسامح هي محور الوجود. فإذا اجتازها إلى الأساطير الفارسية أحس أن القوة والمراسم والنظام هي دعائم الحياة (وذلك على تقارب الهند وفارس في الأصل الآري القديم).

وأوضح الأمثلة على هذه الملاحظات أساطير هرقل، وأوزريس، وراما، ورستم.

فمجازفات هرقل كلها تنفيذ لقضاء أعمى مبعثه نزوة شخصية لبعض الآلهة. ومأساة أوزريس هي تغليب للعدل والخير على الظلم والشر، وقد وقفت قوى الآلهة في صفه تحقيقاً لهذه المثل العالية.

ومجازفات راما كلها تنفيذ لعهد واجب الوفاء مهما يكن في سبيله من تضحيات فوق الطاقة البشرية المحدودة، ووقائع رستم كلها تمجيد للقوة الخارقة التي تخضع مع هذا النظام وتعترف بمراسيم السلطان!

تجمع آلهة الإغريق إلى قدرة الآلهة حماقات البشر. قانونها شهواتها. تحبط كيفما قادتها البدوات والنزوات. ويقع الخير في أعمالها كما يقع الشر كأنما هو اندفاع من اندفاعات الحيوية النابضة في الوجود. أما آلهة المصريين فتهدف في تصرفاتها إلى تحقيق مبادئ خلقية وإنسانية قوامها الخير والعدل والفضيلة. . .

ألا ما أحوجنا إلى أن تكون أساطير العالم كله بين أيدينا لنعرف حقائق الشعوب! إن غاندي وصبره وسماحته مثلاً، لا يفهم كما لا يفهم تاجور إلا بمدد من الأساطير الهندية تشرح عناصر النفس الهندية وتفسرها خير تفسير.

وشيء آخر يحسه القارئ الأساطير الإغريقية. يحس بالعبادة للطبيعة، والفتنة بالجمال، والنشوة بالحركة. الحركة العنيفة. التي لا تقرا ولا تهدا في اللذة والألم. وفي السعادة والشقاء. والحب والبغضاء، ويعيش في ذلك الجو المرفرف الطليق الذي هو مزاج من العرائس والجنيات؛ ومن المفاتن والشهوات، ومن المكائد والمجازفات. ومن الطبيعة الساحرة الفاتنة الحية الفائضة بالحياة المتجاوبة مع كل شيء في هذا الكون الكبير! إنها حياة تشوق وتعجب وتثير الحس والوجدان.

ويجب أن أقول: إن الأستاذ دريني خشبة قد افلح في نقل هذا الجو الحي الفائض بالحيوية، وان أسلوبه قد اضطلع بتصوير الحركة التي لا تهدأ في هذه الأساطير. وإن هذا وحده لشيء رائع في حد ذاته.

ولكن! - ووددت ألا أجد مكاناً فيما أقول.! لقد قادته رغبة التجويد في التعبير، والتفخيم في الأسلوب إلى أشياء أود لو تنبه لها كل مؤلف. ومترجم على وجه خاص:

إن المطلوب في الترجمة - خاصة - ليس هو نقل المعاني والأفكار فحسب، ولكن نقل الجو الذي تعيش فيه هذه المعاني والأفكار. هذا الجو رهن بطريقة الأداء وبألفاظ الأداء. وفي كل لغة بعض الاصطلاحات وبعض الألفاظ. تعد بضاعة محلية. لا سبيل إلى نقلها من بيئتها إلى أية بيئة أخرى. ذلك أنها تشع جواً إقليمياً أو قومياً خاصاً يتمثله الخيال بمجرد نطقها في أي مجال.

هذه الألفاظ وهذه التعبيرات موجودة في اللغة العربية.

وهي تصور جوها بمجرد ورودها. - وهي لحسن الحظ قليلة نسبياً بالقياس إلى معجم اللغة اللغوي والفني - وهي لا تصلح للاستخدام في الترجمة على وجه خاص، لأنها تعارض الجو الذي يجب نقله؛ وتعترض الخيال المستغرق في جو خاص بقطعة من الجو العربي البحث الذي لا انسجام بينه وبين ذلك الجو الخاص

إن للألفاظ والتراكيب أرواحاً كما لأفراد الإنسان. وكثيراً ما خيل إلي وأنا أقرأ بعض المترجمات، أن المترجم يقذف برجل بدوي في زيه الخاص على المسرح بين جماعة من الأوربيين، فيخيل بكل انسجام!

وفي أساطير الحب والجمال شيء من هذا: يتمثل في بعضه استعباد النصوص للمؤلف، كما تتمثل في بعضه الفتنة بالأغراب. ولا يتسع المجال لاستعراض جميع هذه المواضع فنكتفي ببعض الأمثال:

1 - من الأمثلة على استعباد النصوص، أن يرد في أسطورة إغريقية وثنية قول أبوللو لابنه: (فسر دربها تصل إن شاء الله) فطريف هنا ذكر (إن شاء الله) من إلهي إغريقي ودع عنك (سر على دربها) وما تمثله من بيئة صحراوية. وأن يرد كذلك في كلام هذا الإله نفسه: (ولا تنس السماء التي تجري فوقي لمستقر لها) وما فيه من جو قرآني ينقل القارئ من أساطير الإغريق إلى القرآن الكريم. ومثله وصف شارون حارس الجحيم كما وصفها القرآن: (لا تبقي ولا تذر، وإنها أبداً ترمى بشرر كالقصر)

وكثير من هذه النصوص القرآنية ومن مأثورات الشعر العربي والتعبيرات الإسلامية البحتة يتعارض في بعض الأحيان لا مع الجو الأسطوري فحسب ولكن مع الحقائق الموضوعية كذلك أو مع المشاهدات الواقعية. فلست أحسب أن (المنافقين في الدرك الأسفل من النار) تمت بصلة إلى أوضاع الجحيم الإغريقي! ولست أحسب أن الكبش حين يذبح (يتل للجبين) كما تل إبراهيم ولده للجبين في القرآن. فالكبش يتل للجنب، لأنه لا يذبح على طريقة ذبح الإنسان!. . . ولست أحسب أن عرائس الماء كانت تقول كما قالت نساء امرأة العزيز في القرآن: (ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم) أو أن عجوزاً أسطورية تقول لفتى إغريقي: (ألم تسمع من يقول: (وكم لظلام الليل عندي من يد) وتلك شطرة شعر عربي لم تكن قيلت بعد حتى يسمعها الفتى المسكين!. . . وهكذا وهكذا من هذه الأمثلة لاستعباد النصوص للمؤلف، واضطراب الجو الأسطوري الإغريقي بما يلقي فيه من ظلال عربية أو إسلامية خاصة لا تتفق مع هذا الجو بحال.

2 - وأما الفتنة بالأغراب فقد ظهرت كذلك في مواضع كثيرة: فلست ادري لم تنبذ كلمة المرآة ليوضع مكانها (السنجنجل) ولا كلمة نعش ليوضع مكانها (إران) ولا كلمة الظمأ ليوضع مكانها (الجواد) ولا كلمة المساند لتوضع مكانها (الحسبانات). كما لا أفهم أن تكون الفتاة الإغريقية (خدلجة)! ولا جماعة الفتيات (ربربا)

ولي من عاداتي أن أقف للأخطاء اللغوية البحتة ولكنني أنبه هنا إلى غلطات قليلة لعل معظمها من أخطاء المطبعة.

ولكم وددت أن يخلص كتاب الأستاذ دريني من هذا كله ليتم المتاع به في جوه الإغريقي الأصيل!

- 2 -

و (عشاق العرب) إنه هو الآخر ليس (ترجمة) وليس (تأليفاً)! ولكنه في هذه المرة مزاج بينهما عن أقاصيص الحب العربي. فلقد عمد الأستاذ (كامل عجلان) إلى بعض أخبار المحبين المبعثرة في المراجع العربية، التي لا يتيسر العثور عليها لشبان الجيل، أن معداتهم الرقيقة لا تستطيع هضم هذه المراجع الجافة. فصاغ منها قصصاً بأسلوب الحوار. وجعل من الخبر أو من مجموعة الأخبار رواية حب في فصل أو فصول. فكانت من ذلك روايات: حبابة مع يزيد بن عبد الملك. وزينب مع ابن سلام ومع يزيد ن معاوية. ولبنى مع قيس ثم غادة الهردج مع الآمر بأحكام الله ومع الشاعر ابن مياح (في أربعة فصول)

وأنا اعد هذا العمل خليطاً من الترجمة والتأليف فالواقع أننا حين نعرض بعض النصوص القديمة في أسلوبنا الحديث إنما نقوم بعملية ترجمة من معجم جيل إلى معجم جيل. ومن طريقة عرض قديمة إلى طريقة عرض جديدة. وقد كان هذا القسم من عمل الأستاذ كامل عجلان موفقاً ونافعاً. وهو طريقة من طرق الإحياء لتراث المكتبة العربية.

وأما القسم الثاني فلم يستكمل مداه. ذلك انه افرط في التقيد بالنصوص التاريخية، فلم يتسع أمامه المجال للخلق الفني. وإن يكن حين وسع على نفسه بعض الشيء قد رسم خطوطاً موفقة في ملامح بعض الشخصيات كشخصية (برغش) المهرج في غادة الهودج. وقد نص هو في المقدمة على أن قصده كان مجرد الإحياء والإمتاع بهذا القديم المهجور

فإذا كان معتزماً إخراج مجموعة أخرى كما قال في نهاية الكتاب فوصيتنا إليه أن يخطو خطوة أخرى فيعنى بتصوير الشخصيات الروائية، وتسجيل الانفعالات النفسية، وألا يكتفي بعرض الحادثة التاريخية، بطريقة حوارية. ولعله حين يفعل هذا يستغني عن كثير من الإشارات المسرحية التي كثرت في كتابه لتهيئة الجو للقارئ. فالحوار يجب أن يستقل برسم هذا الجو بطبيعة ألفاظه الموحية لا بالإشارات المسرحية الخارجية.

وبعد فقد استمتعت بهذه القصص. أنا الذي تستطيع معدتي الخشنة أن تهضم أصولها القديمة فما اجدر شبابنا الرقيق اللطيف أن يستمتع بها إذ لا مورد له سواها!

سيد قطب