مجلة الرسالة/العدد 605/أبو العلاء المعري
مجلة الرسالة/العدد 605/أبو العلاء المعري
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
- 2 -
عبقرية عربية نثرت فبهرت، ونظمت فعجبت، وفكرت فحيرت، أبدعت وتفننت إذ قالت وألفت فأدهشت. وعلمها في كل فن من فنون اللغة علم إحاطة، علم ألحفي المحيط لا العالم النتفة. وإذا لم نر (الأيك والغصون) - وهو نحو من مائة جزء - وغير الأيك والغصون، ومؤلفات الشيخ كثير فقد رأينا المطبوعات المعروفات، واستدللنا بما حضر على ما غاب، ولم نستبعد ما روى ابن القارح في رسالته: (الشيخ بالنحو اعلم من سيبويه، وباللغة والعروض من الخليل) ووجدنا أبن القارح هذا من المقتصدين حين يقول:
(. . . لقد سمعت من رسائله غقائل لفظ، إن نعتها فقد عبتها، وإن وصفتها فما أنصفتها. وأطربتني (يشهد الله) إطراب السماع، وبالله لو صدرت عن صدر من خزانته وكتبه حوله يقلب طرفه في هذا، ويرجع إلى هذا. . . لكان عجيبًا صعباً شديداً. ووالله لقد رأيت علماء، منهم ابن خاوية، إذا قرأت عليهم الكتب ولاسيما الكبار رجعوا إلى أصولهم كالمقابلين يتحفظون من سهو وتصحيف وغلط. والعجب العجيب والنادر الغريب حفظه لأسماء الرجال والمنثور كحفظ غيره من الأذكياء المبرزين المنظوم. وهذا سهل بالقول، صعب بالفعل، من سمعه طمع فيه، ومن رامه امتنعت عليه معانيه ومبانيه)
وإني لأقول: إنه لمن النادر الغريب أن يختار الأديب عبقرية نثرية، وعبقرية شعرية، كما احتاز هذا الشيخ: وإذا كانت الإجادة لا تتفق في فني المنظوم والمنثور معاً إلا لأقل - كما قال ابن خلدون - فكيف حال العبقرية؟ وهذان الشاعران العبقريان أبو يمام والمتنبي لم ترو لنا كتب الأدب والسير من نثرهما إلا رسالة قصيرة للأول سطرها البديعي في (هبة الأيام)، ورسالة أقصر منها للثاني أوردها ابن خلكان في (وفيات الأعيان). وأما البحتري المسكين. فكان لا يستطيع أن يخط في النثر سطراً، وإذا خاطب أحداً في شأن وجه إليه شعراً. قال الشيخ في إحدى رسائله: (روى أن البحتري كان لا يقدر على كتب رقعة، فيجعل المنظوم عوضاً عن المنثور)
وآلية محلوفة بالقرآن وإعجازه، لو أن هؤلاء الشعراء الثلاثة، وهم عند ابن الأثير وغ ابن الأثير أشعر العرب (هؤلاء لات الشعر وعزاه ومناته، الذين ظهرت على أيديهم حسناته ومستحسناته) مشوا في عرض (العروض) المتشعبة، ومناحي (النحو) المتفرقة المتصعبة، كما مشى الشيخ، ونقبوا مثلما نقب، واستظهروا من مقالات الفلاسفة والمتكلمين ومصنفات الفقهاء، أهل النحل بعض ما استظهر - لأجبلوا إجبالاً أو غث كلامهم أو جاؤا في القريض قرازيم. لكن عبقرية الشيخ قوية جنية قد تسيطرت على كل فن، ولم يسيطر عليها فن، ولم ينزل نضيمها ونثيرها من عليائهما في وقت، ولم تتبدل لهما ديباجة أو بهجة.
إذا قال أبو الطيب:
ما به قتل أعاديه ولكن ... يتقي إخلاف ما ترجو الذئاب
فنط وشط وبدت (فأعلن) في العروض (فأعلاتن)
في حين أن المتنبي - كما قال الشيخ -: (كان شديداً التفقد لما ينطق به من الكلام؛ يغير الكلمة بعد أن تروى عنه، ويفر من الضرورة وإن جذبه إليها الوزن).
وإذا قال (الوليد) البحتري:
وكأن الأيام أوثر بالحسن عليها يوم المهرجان الكبير فكسر وجاء نقص من الزيادة.
وإذا قال حبيب بن أوس:
بالقائم الثامن المستخلف اتطأدت ... قواعد الملك ممتداً لها الطول
فتهور البيت في اللغة بـ (اتطأدت) ولم يتطد.
إذا جازف في اللغة المجازفون، وطفف المطففون (ويل للمطففين) فعند الشيخ الموازين القسط، عنده القسطاس المستقيم، وميزان الصيدلاني الحكيم.
(موازين صدق، كلها غير عائل)
نثر أبو العلاء مترسلاً ومسجعاً، فبذ الناثرين في وقته ومن بعده كلهم أجمعين، وشعر فتبدى في سماء القريض شمساً علائية لا تأفل ما كان القرآن، وكان هذا اللسان المبين.
ولقد أصاب الشيخ وأطاب حين حاش في رسائله ودواوينه وكتبه الكلمات الغريبات، فجمع نادات شاردات لم نر الكثير منهن في معجم من المعجمات. وإن عربيات قديمات نشأن في (الجزيرة) مع أخوات لهن - لحربات أن يظهرن وأن يعرفن. وقد برع أبو العلاء إذ نص تلك الغرائب في حلل عدنيات من العبارات كأنهن عرائس قعدن فوق منصات. ولأن تجتاف لفظة غريبة جملة أو بيتاً خير من أن توحد. ولكل لغوي في التصنيف نمط. وإذا أحسن المعري فقد أجاد ابن سيده، وأجاد الجوهري وابن دريد.
لم يكن الشيخ من العبقريين الملهمين، بل كان من العبقريين الدارين المدركين، تعلم واستعلم فعلم، وسأل واستفهم ففهم. وللقائل الملهم حال، وللمدارس حال، ولذاك وحي، ولهذا مقال. والوحي لا يحصل، ولا يؤازيه مؤاز.
وقد استهام الشيخ بلغة العرب، وكان متمناه في دنياه أو مرجاه الأسمى أو مثله الأعلى أن ينبغ فيها وفي علوها فنبغ، وبلغ حيث بلغ. فهويه هو هذه اللغة، وفنون زمانه التي شاء عرفانها هن للمهوى تبع.
وإذا تمادى الشيخ في إعجابه بالعرب الأقدمين، وتطربه سجع محدثين مسجعين فقلد، فقد افتن في تقليده واجتهد، فعد في الشعراء والكتابين من المبدعين. وتذرع أبو العلاء بالله وتحاميده وتماجيده فنظم (اللزوميات) وصاغ أو حاك (الفصول والغايات) والمقاصد لغوية لا ألهانية لا دينية، وأن اشتعلت على أشياء منوعات، ملونات، مهولات قد بدت مثل (صندوق العجب. .) وما كان يغرب حين يغرب حتى يعمي مقالة، ولكن ليعلن قدرة وبراعة. وكيف يكفر معنى قصده وقد اصحبه شرح الغريب من ألفاظه؟
ومؤلفات الشيخ العبقرية هن بنات القصد والنكلف وبنات الأثرية.
(. . . وقد تكلفت في هذا التأليف - يعني الشيخ اللزوميات - ثلاث كلف، الأولى أن ينتظم حروف المعجم عن آخرها. والثانية أن يجيء رويه بالحركات الثلاث وبالسكون بعد ذلك والثالثة انه لزم مع كل روى فيه شيء لا يلزم من ياء أو ثاء أو غير ذلك من الحروف.
ولو لم يجب الشيخ داعي أثريته، ويحقق قوله في لاميته، ويقصد ويتكلف ما كانت أمثال (اللزوميات والفصول والغايات والأيك والغصون) مما عرفناه وحرمناه إياه جهل الجاهلين، وضلال الصلييبن، وتتربة التتر، وحوادث الأيام، وما كانت العربية ازدادت ثروة بباهرات عبقريات تباعت بها، وباعت غيرها من اللغات. وإذا هجن في العلم والأدب تكلف الضعفاء العاجزين حين يتكلفون، فتكلف العباقرة القادرين يجل عن كل تعقيب أو تهجين حرث أبو العلاء القرآن حرثاً عجباً، وسيط هواه بلحمه ودمه، واستهداه فهداه، وذهن أو أدرك من إلهية (الكتاب) وسماويته ومن عربيته الناصعة الصافية ذات الإعجاز، وبلاغته الخارقة العادة ما أدركه الفصحاء البلغاء من العرب في عهد النبي أو كاد يدرك ذلك. ولا تستقلن هذه الكيدودة. ومصنف الشيخ (تظمين الآي) (وهو إن لم نره فقد سمعنا خبره) يبين أنه بلغ في علم (الكتاب) المبالغ - كما يقول الزمخشري - ولا يضمن مثل ذلك التضمين الفائق البديع إلا من خرجه (القرآن) هذا التخريج العظيم البليغ.
(ومن يهد الله فهو المهتدي)
بصر الكتاب الإلهي المحمدي (أحمد بن عبد الله بن سليمان) بعجائبه وآياته فأستيقن واستبصر، وارتوى الشيخ من كوثر البلاغة القرآنية فأزهر الكلام العلائي ونور
نور القرآن قولاً فعلاً وسما صاحبه في القائلين
إنما القرآن هدى الناطقين، إنما القرآن نور العالمين
غث قول لم يهذبه (الكتاب)
والقرآن، القرآن ذلكم الكتاب العجيب المبين، إنه يراه نابغة الأوربيين الأديب العبقري العظيم (جان ولفغنغ غوت) قد أعطي فيه كل مقام حقه، وأخذ كل معنى من مقاصده لفظه، كما يراه قوياً، عظيماً، سامياً، متعالياً، رائعاً، مهيباً قد خرق العادة، فلا غرو أن يبلغ أثره في العالم - كما قال - حيث بلغ.
ألا إن القرآن في الكلام، مثل محمد في الأنام. فإن وجدت لمحمد خطيراً، ألفيت للقرآن نضيراً
(قل: لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً)
دعاكم إلى خير الأمور محمد ... وليس العوالي في القنا كالسوافل
حداكم على تعظيم من خلق الضحى ... وشهب الدجى من طالعات وآفل
وألزمكم ما ليس يعجز حمله ... أخا الضعف من فرض له ونوافل
وحث على تطهير جسم وملبس ... وعاقب في قذف النساء الغوافل
وحرم خمراً خلت ألباب شربها ... من الطيش ألباب النعام الجوافل فصلة عليه الله ما ذر شارق ... وما فت مسكاذ كره في المحافل
أبو العلاء (هو جوهرة جاءت إلى الدنيا وذهبت).