انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 601/العقل في القران والحديث

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 601/العقل في القران والحديث

مجلة الرسالة - العدد 601
العقل في القران والحديث
ملاحظات: بتاريخ: 08 - 01 - 1945



للأستاذ قدري حافظ طوقان

العقل أساس الدين ومنبع العلم ومطلعه، وهل تقدم علم وازدهر فن إلا على أساس العقل؟ وهل يستقيم بلا عقل؟ وهل يعرف إنسان ما أمر الله به وما نهى عنه إلا بالعقل؟

وعلى أساس العقل شرعت الشرائع وسنت القوانين وقامت الحضارات وامتدت المدنيات. لهذا لا عجب إذا ورد ذكره في كتاب الله وعلى لسان نبيه الكريم. فقد شرف الله العقل وأعلى مكانته، وعظم الرسول العقل وقدس حرمته. ومجده الفلاسفة والحكماء والعلماء فصرفوا جهودهم إلى إعلاء شانه بالبحث فيه والرجوع إليه

لقد احل القرآن العقل منزلاً سامياً وجعله نوراً يهدي به الناس وطالبهم باستعماله والتحاكم إليه وسماه نورا في قوله تعالى (الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة. . .) وسمى العلم المستفاد منه روحاً ووحياً فقال تعالى: (وأوحينا إليك روحاً من أمرنا. . .) وقال: (أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس. . .).

وحين يجادل القرآن الماديين والدهريين وأرباب الملل والنحل إنما يجادلهم بل البرهان ويدعوهم إلى إنعام النظر والفكر، يتجلى ذلك في قوله تعالى: (لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل. أولئك هم الغافلون.) وقد حمل القرآن على المقلدين الذين يعطون عقولهم ولا يستعملونها، فقال في موضع (إن شر الدواب عند الله الصم البكم العمى الذين لا يعقلون) وقال في موضع آخر. (أفأنت تهدى العمى ولو كانوا لا يبصرون) وكثيراً ما وردت آيات تنتهي بهذه الجوامع (بل أكثرهم لا يعقلون) (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين، أفلا تسمعون؟ إنما يتذكر أولوا الألباب، وفي أنفسكم أفلا تبصرون. . ولم يقف القرآن عند هذه الحدود، بل أمر بإحسان استعمال السمع والبصر والعقل حتى يهدي الإنسان عن طريقها إلى الحق والحقيقة، ويكون الحق واضحا عنده والحقيقة ثابتة لديه: قال تعالى (ولا تقف ما ليس لك من علم أو إن السمع والبصر والفؤاد، كل أولئك كان عنه مسؤولا. . .)

وفي هذه الآية الجامعة الكريمة أصول رئيسية في المتعبة في أصول النظر العلمي، فلقد أمر بالمشاهدة الصحيحة والتفكير الصحيح، وأن على الإنسان أن يتمسك بما يصل إليه م حق أو حقيقة عن هذين الطريقين، المشاهدة والتفكير.

ولسنا بحاجة إلى القول بأن الإسلام أكبر العقل إكباراً دونه أي إكبار، ودعا إلى تعظيم وجلاله والرجوع إليه دائما قال تعالى: (وآتيناه حكما وعلماً) أي فقها وعلما. وقال: (ولقد آتينا لقمان الحكمة) أي آتيناه الفقه والعقل وإصابة القول في غير نبوة. وقال: (فاتقون يا أولى الألباب. وإن في ذلك لعبرة لأولى الألباب) وقال: (واشهد ذوي عدل منكم) أي ذوي عقل. (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب) أي عقل، (لينذر من كان حيا. . .) أي عاقلا، (ولقد بيننا الآيات لقوم يعقلون، فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)

وهناك آيات جامعات تدعو الإنسان إلى النظر في الكون والبحث في روائعه، وإلى جعل العقل أساسا للتحكيم والتفكير في الطبيعة على جلالها وعظمتها تستحثه على إطلاق تفكيره في السموات والأرض والوجود وما على الأرض ومن عليها. ولفت إلى السماء كيف رفعها، وإلى الأرض كيف سطحها، والجبال كيف نصبها، وإلى الإنسان كيف خلقه، والأنعام كيف أوجدها، والى النباتات كيف أنبتها فقال تعالى: (وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهاراً ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون. وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل. إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) وقال جل وعلا (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت، والى السماء كيف رفعت، والى الجبال كيف نصبت، والى الأرض كيف سطحت) وقال: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) وقال (أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، وما انزل الله من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة، وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون). وقال (ألم نجعل الأرض مهاداً والجبال أوتادا وخلقناكم أزواجاً وجعلنا نومكم سباتاً وجعلنا النهار معاشاً وبنينا فوقكم سبعاً شداداً وجعلنا سراجاً وهاجاً وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجاً لنخرج به حباً ونباتاً وجنات ألفافاً. .) وقال (فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صباً، ثم شققنا الأرض شقاً، فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا، وفاكهة وأبا، متاعاً لكم ولأنعامكم. . .) وقال (أو لم يرى الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي) وقال (وآية لهم الأرض الميت وأحييناها وأخرجنا منها حباً فمنه يأكلون)

ولاشك أن هذا النمط من الآيات الجامعات والأقوال البينات مما يرشد الناس إلى التفكير من الكون وخبايا الأرض وأسرار الحياة والتطلع على خفايا الوجود. وبهذا ينطلق العقل البشري باحثاً منقباً متطلعاً مما يؤدي إلى الوصول دقائق الحقائق في الوقوف على نظام هذا الكون وموجوداته على تعددها وتبيانها وتعقدها. كذلك كان الرسول ينظر إلى العقل نظرة كلها تعظيم وإجلال، فقد رأى فيه أصل الدين وأساسه، وأن لا دين لمن لا عقل له قال عليه السلام حين يسأله على عن سنته: (. . . والعقل أصل ديني) وأمر بالتواصي بالعقل والرجوع إليه ففيه النجاة وفيه الآمان. قال عليه السلام: (اعقلوا عن ربكم وتواصوا بالعقل تعرفوا ما أمرتم به وما نهيتم عنه. واعلموا أنه ينجدكم عنده ربكم (وبين أن الله يأخذ بالعقل ويعطي بالعقل ويثيب به ويعاقب على أساسه، وما تم دين أحد بالا بالعقل، وما عبد الله بشيء أحب إليه من العقل وبمثل العقل.

روى لقمان بن أبي عامر عن أبي الدرداء أن رسول الله قال: (يا عويمر ازدد عقلاً تزدد من ربك قرباً، قلت: بأبي أنت وأمي ومن لي بالعقل؟ قال اجتنب محارم الله وأد فرائض الله تكن عاقلاً، ثم تنفل بصالحات الأعمال تزدد بالدنيا عقلا وتزدد مع من ربك قرباً وبه عزاً. . .) وروى أنس ابن مالك رضي الله عنه قال: (أثني على رجل عند رسول الله بخير فقال كيف عقله؟ قالوا يا رسول الله إن من عبادته. . . إن من خلقه. . . إن من فضله. . . إن من أدبه. . فقال كيف عقله؟ قالوا يا رسول الله نثني عليه بالعبادة وتسألنا عن عقله، فقال رسول الله: (إن الأحمق العابد يصيب بجهله أعظم من فجور الفاجر، وإنما يقرب الناس من ربهم بالزلف على قدر عقولهم) ويرى الرسول لن الحياة من مستلزمات العقل فلا يكونان إلا مع العقل ولا يسيران إلا في كنفه.

والعقل نور جعله الله للدين أصلا وللدنيا عماداً به ميز الحق من الباطل وتعرف حقائق الأمور ويفصل بين الحسنات والسيئات وعليه يقوم النجاح ويكون الفلاح. قال عليه السلام (العقل نور في القلب يفرق به بين الحق والباطل) وقال (أفلح من رزق لباً) أي عقلا.

قدري حافظ طوقان