انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 60/حول كتاب (هتلر)

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 60/حول كتاب (هتلر)

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 08 - 1934



قضية طريفة أمام القضاء الباريسي

نعرف أن للهر أدولف هتلر رئيس الحكومة الألمانية الحالية، وزعيم الحزب الوطني الاشتراكي الألماني، كتاباً كتبه أيام المحنة، وقت أن كان زعيم جماعة صغيرة وحزب ناشئ، وكان وقتئذ معتقلاً في إحدى القلاع يقضي حكماً صدر عليه لاشتراكه في مؤامرة دبرت في ميونيخ لقلب الحكومة. ولم يكن لهذا الكتاب الذي صدر في سنة 1925 بعنوان جهادي أهمية سياسية أو أدبية، وفيه يقص هتلر سيرة حياته، ويعرض برنامج حزبه، وآراءه السياسية في أسلوب عادي لا يمتاز بشيء إلا بما يتخلله من المبادئ، والآراء المتطرفة. فلما تطورت الحوادث، وغدا هتلر زعيم أعظم الأحزاب الألمانية، واستولى على مقاليد الحكم، اتجهت الأنظار إلى كتابه، وتخاطفته الملايين، وطبع مراراً عدة، وترجم إلى عدة لغات، واتخذ أهمية جديدة يسبغها عليه مركز مؤلفه وما انتهى إليه من السلطان والنفوذ.

وقد رأى أحد الناشرين الباريسيين أن يخرج الكتاب باللغة الفرنسية لما للكتاب من خطر في نظر الجمهور الفرنسي بعد أن غدا مؤلفه أعظم خصم لفرنسا، فأرسل إلى شركة فرانز أيهر الألمانية التي فوضت جميع حقوق النشر يستأذنها في الترجمة، فأجابت بالرفض المطلق. والظاهر أن ذلك يرجع إلى أسباب سياسية أكثر مما يرجع إلى أسباب مالية، لأن الهر هتلر لم يشأ أن يطّلع الشعب الفرنسي على ما كتبه، وفيه كثير مما لا يدعو إلى الطمأنينة. ولكن الناشر الباريسي لم يعبأ بهذا الرفض؛ وأخرج لكتاب (جهادي) ترجمة فرنسية بديعة كاملة بقلم ثلاثة من الكتاب المعروفين. فبادرت شركة فرانز أيهر الألمانية إلى رفع الأمر إلى القضاء الفرنسي، واستصدرت أمراً بالحجز على النسخ المطبوعة لدى الناشر الباريسي، ورفعت عليه دعوى تطلب مصادرة النسخ المحجوزة، والحكم عليه بغرامة قدرها ألف فرنك عن كل نسخة، والحكم عليه فوق ذلك بتعويض مالي كبير.

وكانت نظرية الشركة الألمانية أمام المحكمة أن نشر الترجمة دون إذن يعتبر اعتداء واختلاساً، وقانون سنة 1793 الفرنسي الذي يحمي الملكية الأدبية يعتبر ذلك (تزويراً) تترتب عليه جميع حقوق التعويض والمصادرة.

ولكن الناشر الباريسي أجاب على لسان محامييه الأستاذين جاييه وفيليب لامور أن هذه الحالة لا يشملها قانون سنة 1793. ذلك أنه لا يمكن أن نشبه كتاب هتلر بكتاب عادي أو رواية لمؤلف عادي؛ والواقع أن كتاب (جهادي) إنما هو كتاب عمومي لرجل من الرجال العموميين، ورؤساء الحكومات الذين تغدو كتاباتهم ملكاً للجميع على نحو ما يغدو تصريح وزاري أو خطبة عرش؛ فلكل إنسان الحق، بل ومن واجب كل إنسان يهمه الاطلاع على الشئون العامة أن يعرفها وأن يقرأها. هذا إلى أن العقد الذي تزعم الشركة الألمانية أنها حصلت بمقتضاه على حقوق النشر لا يوجد ولم يقدم، وليس لديها غير تصريح شفوي من (الزعيم) هتلر. ورفع الدعوى بهذه الصورة باطل، وكان واجباً على هر هتلر، إذا شاء أن يحمي حقوقه أن يتقدم بنفسه، وعلى أساس الاعتبارات السياسية التي هي جوهر القضية؛ ولكنه لم يكن لديه من الشجاعة أو الصراحة ما يحمله على اتباع هذا الطريق، ولهذا آثر أن يتقدم بواسطة شركة للنشر وعلى أساس الاعتبارات التجارية.

وقد أثارت هذه القضية اهتماماً كبيراً في الدوائر القضائية والأدبية، ولا تزال منظورة أمام محكمة السين التجارية، رهن صدور الحكم فيها. على أنه يرجح منذ الآن أن يأخذ القضاء الفرنسي بنظرية الناشر الباريسي في اعتبار كتابات الرجال العموميين وأقوالهم ملكاً مباحاً يسوغ لكل إنسان أن يحصل عليه وأن يذيعه.