انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 6/العلوم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 6/العلوم

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 04 - 1933



مركز الكون

للأستاذ عبد الحميد سماحه. مفتش مرصد حلوان

في يوم 22 يونيه سنة 1633 وقف العالم الإيطالي الكبير جاليليو جاليلي أمام المحكمة المؤلفة بأمر من قداسة البابا وقتئذ، لسماع الحكم عليه بشأن عقيدته العلمية. وصدر الحكم المشهور فكان لطمة جريئة على وجه الحقيقة العلمية، ليس لها مثيل في التاريخ.

ثبت لدى المحكمة أن جاليليو اعتقد اعتقاداً فاسداً ومنافياً للتعاليم السماوية، بأن الشمس هي مركز الكون وأنها لا تتحرك من الشرق إلى الغرب، وإنما الأرض هي التي تتحرك، وأنها ليست مركز الكون، فحكمت عليه بأن يرتد عن عقيدته هذه وأن يعلن لعنته عليها، واحتقاره لها. ثم بالغت المحكمة في قسوتها، فقضت على جاليليو بالسجن؛ لولا أن تداركته العناية الإلهية، فقد أشفق البابا على الشيخ العظيم، وألغى في اليوم التالي الجزء الأخير من الحكم، ولكنه قضى عليه بأن يلزم عقر داره في الريف، وألا يتصل بأحد الا بأذن خاص.

هكذا جرحت كرامة العلم في شخص واحد من أعز أبنائه. ولم يكن جاليليو في الحقيقة هو صاحب هذه النظرية، فقد زعم بدوران الأرض والقمر والكواكب السيّارة، حول نار مركزية فيلالاوس حوالي القرن الخامس قبل الميلاد. ومن بعده ارستاركس العظيم أحد علماء مدرسة الإسكندرية في أوائل القرن الثالث قبل الميلاد؛ فقد قال بأن الشمس والنجوم كلها ثابتة لا تتحرك، وأن الأولى هي مركز الكون؛ وأن الأرض تتحرك حول محورها مرة كل أربع وعشرين ساعة، وحول الشمس مرة كل سنة، فيتسبب عن حركتها الأولى ظاهرة الليل والنهار، وعن حركتها الثانية ظاهرة الفصول. ولكن أرسطو اعترض على ذلك اعتراضا عظيما فقال: لو أن الأرض تدور حول الشمس لتسبب عن ذلك تغيير ظاهري في مواقع النجوم؛ ولما كانت الأرصاد الفلكية لا تحقق هذه النتيجة، زعم أرسطو بأن الأرض ثابتة لا تتحرك، وأنها مركز الكون. وعلى هذا الأساس وضع علماء الفلك التفسيرات المختلفة لحركة الكواكب السيارة في السماء. ومع أن الأرصاد لم تؤيد تفسيراتهم المعقدة لم يجرؤ واحد منهم على الأنداد عن تعاليم أرسطو الفيلسوف العظيم دهراً طويلا؛ حتى كان منتصف القرن السادس عشر، وفيه نشر كتاب للعالم البولندي كبرنكس وفيه يفسر المؤلف حركة الكواكب السيارة على أساس نظرية أرستاركس القديمة تفسيراً سهلا، تتحقق بواسطة الأرصاد. فيقول بأن الأرض وجميع الكواكب السيارة تدور حول الشمس. ولكن ما كاد ينشر الكتاب حتى قامت قيامة الكنيسة والجامعات على السواء، وأوصدوا أبوابهم من دون نظرية كبرنكس الجديدة، ووضعوا أصابعهم في آذانهم إذ لم يرق في نظرهم أن يكون مهد الإنسانية ومهبط روح الله عيسى عليه السلام على مثل ما يدعيه كبرنكس في نظريته.

ثم كانت حرب طاحنة بين الحقيقة والوهم، كان النصر فيه حليف الحقيقة؛ لأن جاليليو كان قد أبى بالبراهين العملية على صحة نظرية كبرنكس؛ فرأى بمنظاره الجديد كيف أن الزهرة تتشكل بأشكال مثل أشكال القمر. وبرهن على أن ذلك لا يكون إلا نتيجة لدورانها حول الشمس. ثم جاءت البراهين تلو البراهين على صحة نظرية كبرنكس حتى ثبتت وأصبحت مما لا يقبل الشك. وتعتبر هذه الحقيقة الحجر الأساسي في علم الفلك الحديث، بل ربما كانت هي أهم الحقائق العلمية على وجه الإطلاق.

بعد ذلك تقدمت الأبحاث العلمية في هذا الاتجاه فوجد أن الشمس بدورها ليست الا واحدة من مجموعة شموس، أو نجوم مثلها يقدر عددها بمائة ألف مليون وهذه المجموعة تسمى المجموعة المجرية، وهي المحدودة في السماء بذلك السديم العظيم المعروف (بسكة التبانة) وهي تشبه في شكلها عجلة السيارة، وتدور حول محور عمودي على سطحها مار بالمركز، وان الشمس مع ذلك ليست هي مركز المجموعة، بل ولا قريبة منه، ولذلك تدور حول المركز بمعدل مائتي ميل في الثانية.

ولما تقدمت وسائل الرصد، خطت الأبحاث العلمية خطوة كبيرة أخرى في هذا الاتجاه، فوجد أن ملايين عديدة من المجموعات كالمجموعة المجرية، وهي المعروفة بالسدائم الخارجة عن المجرة. فالسديم (م 31) من المرآة المسلسلة مثلا يبلغ قطره ربع قطر المجموعة المجرية، ووزنه يعادل وزن خمسة آلاف مليون شمس؛ وانه كالمجموعة المجرية يدور في الفضاء حول محور عمودي على مستوى سطحه.

وتبدو هذه المجموعات في المنظار مختلفة الأشكال نظراً لتباين أوضاعها بالنسبة إلينا. أما الأبحاث العلمية الحديثة فنسبتها كلها إلى أصل واحد وإلى سلسلة واحدة من التطورات، فالكروي التام منها مثل (3379 يصبح كرويا ناقصاً مثل السديم (4621 ومع مضي الزمن يصبح كالعدسة المتعصرة من الجانبين مثل السديم (4594 ثم يصير كالقرص أو عجلة السيارة مثل السديم (4565 أو السديم المجري نفسه. وفي منتصف هذه السلسلة من التطورات يبدأ تكون النجوم.

ترى إذن كيف أن مركز الأرض في الكون ضئيل إلى أقصى حد؛ فهي أحد أفراد المجموعة الشمسية تدور حول الشمس (التي هي مركز المجموعة) مرة كل سنة. أما الشمس فهي واحدة من مجموعة عظيمة من نجوم أو شموس تعد بآلاف الملايين؛ وهي الأخرى تدور حول مركز المجموعة. ومثل هذه المجموعة مجموعات كثيرة تعد بالملايين متشابهة في تكونها ومنشئها وتطوراتها.

هذا هو مركز الأرض بالنسبة إلى الأجرام السماوية الأخرى فكيف لو نقيس عليه آمالنا ومطامعنا ومتاعبنا في هذه الحياة؟