انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 597/هوستن ستيوارت شمبرلين

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 597/هوستن ستيوارت شمبرلين

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 12 - 1944



فيلسوف النازية الأول وصاحب دعوة الزعامة الألمانية

للأستاذ زكريا إبراهيم

لعلّ من غريب المصادفات أن يكون الرجل الذي وضع الأصول الأولى للفلسفة النازية، رجلاً إنجليزياً ينتسب إلى أصل إنجليزي صريح. ولعل من غريب المصادفات أيضاً أن يكون الرجل الذي استمد منه فيلسوفنا هذه الأصول، رجلاً فرنسياً لا يمتُّ إلى الأصل الألماني بأدنى سبب. فقد نشر الكاتب الفرنسي (آرثر دي جوبينو) كتابه عن (تفاوت الأجناس البشرية) (من سنة 1853 إلى سنة 1857) وفيه أعلن سيادة العنصر الآري على سائر العناصر؛ فلم يكد القرن التاسع عشر يشارف تمامه، حتى تأسست في ألمانيا نفسها جماعة عرفت باسم (جماعة جوبينو)، أخذت على عاتقها أن تقنع الألمان - وهؤلاء لم يكونوا في حاجة إلى إقناع طويل - بأنهم أرقى الأجناس، وأنهم أنقى سلالة من سلالات الآريين. ولم تكد تمضي على اليوم الذي تأسست فيه هذه الجماعة خمسة أعوام، حتى ظهر كتاب ضخم يُعدّ إنجيل (العنصرية)، وهو كتاب (دعائم القرن التاسع عشر) للكاتب الإنجليزي هوستن ستيوارت شمبرلين

وقد ولد شمبرلين من أب إنجليزي كان ضابطاً كبيراً في الجيش؛ ولكنه تأثر بالمؤثرات الألمانية، فدفعه إعجابه بعظمة الجنس التيوتوني إلى أن يتخلى عن الجنسية الإنجليزية، لكي يتجنس بالجنسية الألمانية. ولم يلبث أن اقترن بابنة ريتشارد فاجنر، فأصبح يعد نفسه منذ ذلك الحين ألمانياً خالصاً ينحدر من أصل ألماني خالص! وحينما نشر شمبرلين كتابه الذي أودع فيه دفاعه الحار عن العنصر الجرماني، لقي هذا الكتاب رواجاً كبيراً، وأثنى عليه كثير من النقاد، حتى لقد قيل إن القيصر نفسه كان يقرأ هذا الكتاب على أبنائه؛ كما كان يقدمه لضباطه ويأمرهم بأن ينشروه خلال ألمانيا كلها. وحسبنا أن نلقي نظرة على كتاب (كفاحي) الذي ألفه هتلر، لكي ندرك إلى أي مدى أثر كتاب شمبرلين في ألمانيا الحاضرة نفسها

والفكرة الأساسية التي يقوم عليها هذا الكتاب الضخم هي أن الحضارة الحديثة وليدة العمل الذي قام به التيوتون، أعني أنها ثمرة للعمل الجرماني الآري. فالعنصر الجرماني قد استطاع أن يمزج بين الحضارات المختلفة (من يونانية ورومانية وغيرها) وعن هذا المزج اجتمعت له مدنية قوية، أقام على دعائمها حضارة القرن التاسع عشر

وكما أن حضارتنا الحديثة ليست إلا ثمرة لذلك الامتزاج الذي تم بين الحضارات القديمة، فكذلك التيوتون هم أيضاً ليسوا إلا ثمرة للامتزاج الذي حدث بين العناصر الجرمانية القديمة، والسلافية، والسلتية. وأنقى مزيج لهذه العناصر الثلاثة هو ذلك الذي نجده في ألمانيا، فلهذا كان الألمان هم الشعب المختار. وليس ثمة أمارات جسمية خاصة تميز الألمان، فليس بلازم أن يكونوا طوال القامة، أو زرق العيون، أو بيض البشرة؛ وإنما هم يتميزون بصفات خاصة لا تمت بأدنى صلة إلى تلك الصفات الجسمية المزعومة: (فالألماني - كما يقول شامبرلين - إنما هو ذلك الذي تدل أفعاله على إنه ألماني، كائناً ما كان الأصل الذي ينتسب إليه)

ولكن؛ ما هي أظهر الصفات التي يتميز بها الطابع الألماني؟ إنها ليست إلا الإيمان الراسخ بمبدأ الزعامة المقدسة؛ أعني الخضوع للزعيم خضوعاً مطلقاً، وطاعة أوامره طاعة عمياء. فلو وجدنا هذه الخصلة لدى الإيطاليين أو الفرنسيين، فانه يكون علينا أن نعتبر هؤلاء أيضاً ضمن التيوتون، مهما كانت مواطنهم الأصلية التي ولدوا فيها. وعلى ذلك فإن الجنس هو خلق، وليس دماً أو وراثة. وإذا غيّر أحد نفسيته العنصرية فإنه بذلك يكون قد غيّر أيضاً جنسه أو عنصره. (وليس أيسر على الإنسان من أن يصبح يهودياً. . . فإن حسبه في هذا أن يديم الاتصال بجماعة من اليهود، وان يقرأ الصحف اليهودية)

بيد أن شمبرلين يعود فيقول: (إن الرجل الذي ينتسب إلى جنس نقي خالص، لا يمكن أن يفقد شعوره بالعنصر الذي ينتسب إليه مطلقاً. والسبب في ذلك أن ثمة ملاكا أو حارساً يذكره دائماً بعنصره، ويرافقه دائما في تنقله؛ ويحذره حينما يتهدده خطر الضلال، ويجبره على الطاعة، ويضطره إلى القيام بكثير من الأعمال الجليلة التي ما كان يجرؤ على القيام بها. . . فالجنس (أو العنصر) يعلو بالإنسان على نفسه، ويمده بقوى غير عادية، بل بقوى خارقة للطبيعة. وإنها لحقيقة تظهرنا عليها التجربة المباشرة أن لنوع الجنس أهمية كبيرة، وقيمة حيوية عظيمة).

وإذا تأملنا في هذه الأقوال المختلفة، فإن من السهل علينا أن نرى كيف أن شمبرلين قد وقع في كثير من المتناقضات. فهو أولاً قد قال إن الجرمان هم أرقى البشر، لأنهم ثمرة لخير امتزاج تم بين (الأجناس النبيلة) ولكنه قال إن جلائل الأعمال إنما هي وقف على أهل (الأجناس النقية الخالصة). ثم عاد بعد ذلك فقال إن من الممكن أن يتغير الجنس، لا عن طريق امتزاج الدماء فحسب، بل أيضاً عن طريق الاتصال الاجتماعي بشعوب ذات (عقلية بدائية)!

ولكن شمبرلين لم يحفل بهذه المتناقضات، فإن ما كان يعنيه هو أن يجد أسطورة يستلهمها مبدأ العنصرية الذي يدعو إليه، أما التوافق المنطقي، فهذا ما لم يكن يعنيه في كثير أو قليل

والأجناس البشرية - في نظر شمبرلين - مختلفة أشد الاختلاف، إن في الخلق والصفات، أو في القوى والملكات.

وقد ترتب على هذا الاختلاف أن أصبح هناك جنس راق يتميز بصفات (فطرية) سامية، وجنس منحط يتميز بصفات (فطرية) وضيعة. ومن بين الأجناس المنحطة التي تنتسب إلى النوع الأخير (فيما يرى شمبرلين) الجنس (اليهودي)

فاليهود هم الشعب الذي لم يستطع يوماً أن يعيش على وفاق مع أي شعب آخر، ومن أجل ذلك فقد ظلوا دائماً أبداً (شعباً غريباً أجنبياً بين كل الشعوب). ولقد استجاب الأوربيون لداعي المحبة والصداقة، ففتحوا الأبواب أمام اليهود؛ وعندئذ لم يلبث اليهود أن اندفعوا كما يندفع العدو المنتصر، فاكتسحوا كل المناصب، واستلبوا جميع المراكز، ثم رفعوا من بعد أعلامهم التي هي غريبة عنا كل الغرابة. . . وأينما تركت القوة لليهود، فانهم لابد أن يسيئوا استعمالها. . . أليس اليهود هم ذلك الشعب الذي جعلت منه طبيعته جنساً ميالا إلى الربا والطمع، في حين أن شريعة موسى تحرم الربا تحريماً قاطعاً؟. . . (إن اليهودي لهو من الكراهية إلى الرجل الأوربي، بحيث أن الأطفال الصغار الذين لم تؤثر الحضارة بعد في نفوسهم ليقدرون أن يشموا رائحة اليهودي عن بُعد!)

هذه هي الأفكار الرئيسية في مذهب شمبرلين، ولسنا في حاجة إلى أن نبين للقارئ ما فيها من أخطاء علمية، وأغلاط تاريخية؛ وإنما الذي نريد أن نلفت نظر القارئ إليه، هو أن قوة الفكرة لا ترجع إلى صدقها أو مطابقتها للواقع، وإنما ترجع إلى ما فيها من قدرة على التأثير. وكثيراً ما تكون الفكرة الخاطئة نفسها، قوة كبيرة توجه شعوباً بأكملها فتنقاد لسحرها في حماسة وقوة، دون أن تدرك ما فيها من خطأ، وما يشوبها من العناصر الأسطورية. بعضها يتفق مع ما ذهب إليه نيتشه اتفاقاً كبيراً حتى إنه ليصعب علينا أن نتصور أن يكون نيتشه لم يطلع على ما جاء فيها. ومما يتفق فيه الفيلسوفان:

أولاً: القول بأن (الحياة هي الكل) بمعنى إنه ليس في وسعنا أن نتصور شيئاً ما على إنه موجود حقيقة إلا إذا كان هذا الشيء حياً.

وثانياً: القول بأن الأخلاق التي تنادي بفكرة الواجب والأمر المطلق، أخلاق فاسدة يجب القضاء عليها، لأن الإلزام أو التكليف يرجع إلى الحياة نفسها، إذ الحياة هي التي توفر للفرد الشعور بالقدرة على العمل، وليس هناك قوة سحرية غريبة (كالأمر المطلق) المزعوم

وثالثاً: القول بأن التشاؤم يدعو إلى الانحلال والفناء، في حين أن التفاؤل يكسب الحياة خصباً وامتلاء، فكل من جويو ونيتشه يعتبر التشاؤم مظهراً للانحلال والهبوط والفناء. . .

رابعاً: القول بأن الفن هو المعنى الباطن للحياة بمعنى أنه ليس مجرد متعة أو أُلهية، بل هو أمر جدي له قيمته في الشعور بالحياة الحافلة الخصبة المليئة. فكل من جويو ونيتشه ينظر إلى الفن نظرة حيوية، ولا يعده عديم الغاية بل يذهب إلى أن الفن للحياة وبالحياة. ومعنى هذا أن الفن عندهما ليس للفن - كما يقال عادة - بل هو غائي، وغايته ليست تقويم الأخلاق أو إصلاح الناس، بل تقوية الشعور بالحياة

وأما النواحي التي يختلف فيها جويو مع نيتشه فهي تلك التي تمس مشكلة (الفردية)؛ وذلك لأن جويو يعتقد أن الرجل القوي ليس هو الرجل المتوحد (كما يزعم نيتشه) بل هو الرجل الذي تجمعه بغيره من الناس، وشائج العقل والقلب. فعلى الرغم من أن جويو يتفق مع نيتشه في القول بالحياة الخصبة المليئة، إلا إنه يتصور هذه الحياة على أنها أولاً وبالذات، حياة اجتماعية تنعدم فيها الأنانية، لأن الأنانية سلب للحياة نفسها، وإنكار لكل خصب أو امتلاء. . ولعل خير ما يوضح لنا الفارق بين نيتشه وجويو، هو أن الأول يدعونا إلى اتباع الطبيعة (كما دعا إلى ذلك الأقدمون)، في حين أن الثاني يدعونا إلى تعميق الطبيعة. فنيتشه يقول: (اتبع الطبيعة) وأما جويو فإنه يقول: (عمق الطبيعة) ومهما يكن من شيء، فإن جويو هو بلا ريب واحد من أولئك الرواد الذين سبقوا نيتشه في الطريق الذي سلكه.

وقد رأينا أن هؤلاء الرواد كثيرون؛ فهل علينا من حرج بعد هذا إذا قلنا إن السبيل الذي سلكه نيتشه سبيل مطروق؟

(السويس)

زكريا إبراهيم

مدرس بمدرسة السويس الثانوية