انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 595/على هامش النقد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 595/على هامش النقد

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 11 - 1944



خواطر متساوقة

في النقد والأدب والأخلاق

الأستاذ سيد قطب

مما يؤسف له أن يقف الناقد بين فترة وفترة ليرسم طريقه، ويحدد أهدافه، ويعلن عنها للقراء! ولكننا في دور يفوعة أدبية، فلا مفر من الوقوف عند هذه البديهيات. ولعل مما يعزى عن ضياع الوقت والجهد في هذه الوقفات - وإن كان موضع أسف جديد -، أن الناقد في الشرق العربي، لا ينهض لتصحيح مقاييس الفن وحدها، ولكنه ينهض كذلك لتصحيح معايير الأخلاق!

وحينما تصديت لعمل (الناقد) كنت أدرك - كما قلت مرة -: (أنني لن أخرج من بين المؤلفين بكثير من الأصدقاء! فالفنان - بل الإنسان عامة - لا يرى في الغالب إلا الصفحة الجميلة في نفسه، لأن هذا الجانب هو الذي يسره ويلذه، ويملق كبرياءه ويغذي غروره. فإذا ووجه بالصفحتين جميعاً، فوجئ بالصفحة الأُخرى التي يراها لأول مرة، وحسبها تزويراً عليه. وحتى لو اقتنع بأنها صفحة، فإنه لن يستريح لعرضها على نظره وأنظار الناس)!

ومن يومها وأنا أفقد الأصدقاء واحداً إثر واحد، لأكسب عدداً معادلاً من الخصوم! بل عدداً أكبر لأنني أضم إليهم كل يوم خصوما. . . ولكنني أعاهد القراء على أنني سأمضي في الطريق؛ فحسبي أن أعوض ما أفقد من بين القراء المحايدين وهم بحمد الله كثيرون!

ولقد احتملت منذ أشهر فقد صديق عزيز مقابل مقالة نقد، أعطيته حقه فيها من تطفيف!

ولابد أن يحتمل المرء ما يأسف له من الهنات الخلقية في هذا السبيل أيضاً، فلبعض المؤلفين حاشية خاصة، وظيفتها التهليل والتكبير لكل ما يخرجون من أعمال، والدفاع - بكل أنواع الأسلحة - ضد النقد الحر، إذا استطاع ناقد أن ينفذ من هذه الشباك!

ولقد رماني الحظ أخيراً في وقعة من هذا النوع! فلم يكن بد من أن يصيبني رشاش من هذه الهنات، وإذا كنت قد أسفت على شيء، فعلى أنني لم أكن عطوفاً عليها وأنا أفهم بواعث الصغيرة. . . وهل أقل من أن أكون جاهلاً؛ وألا أكون ناقداً لينجو مؤلف من حكم النقد العادل؟ إنها أيسر سبيل لتجريح هذا (الناقد) الذي لا يعرف كيف يتخلى عن وظيفته على الطريقة الساذجة المتبعة في المحاكم من (تجريح) أفضل الشهود للحصول على البراءة عن هذا الطريق!

ما علينا. فمنذ اليوم سنعطف على مثل هذه الهنات!

وحينما تصديت لعمل (الناقد) كانت لي طريقة معينة أؤدي بها هذا العمل، لا أرى بأساً من عرضها هنا لقراء (الرسالة):

إن عملي مع كل مؤلف هو وضع (مفتاحه) في أيدي القراء الذين يقرءون أعماله متفرقة، ولا يدركون القاعدة التي تقوم عليها هذه الأعمال، ولا يتعرفون إلى شخصيته المميزة الكامنة وراء كل عمل

وهذا (المفتاح) ضروري للتعريف بالأديب؛ وإلا كان النقد عملاً جزئياً ليس وراءه كبير طائل بالقياس إلى القراء. ونقد كتاب دون بيان السمات (الشخصية) التي تطبعه إنما هو عمل ناقص لا يؤدي إلى شئ في هذا الباب

لا بل إن هذا (المفتاح) ضروري للمؤلف نفسه لا لقرائه وحدهم. فكثير من المؤلفين لا يعرفون أنفسهم، ولا يلتفتون إلى خصائصهم. وهم يستفيدون من الناقد الذي يضع المرأة أمام وجوههم ليتبينوا فيها ملامحهم الأصيلة

وليس من وظيفة الناقد أن يغير من طيعة المؤلف التي فطر عليها. ولكن وظيفته أن يعرف هذه الطبيعة ويبلورها، ويقيس أعمال المؤلف بها، ويهديه إليها إذا ضل أو أنحرف في فترة من فترات الضعف والضلال!

وكلما تناول الناقد أحد المؤلفين مرة، يجب أن يصير هذا المؤلف (معرفة) لدى القراء: لا من حيث الشهرة والبروز، ولكن من حيث تميز الملامح، ووضوح الخصائص. فلقد يكون المؤلف ذائع الشهرة عند آلاف القراء؛ ولكنهم لا يدركون (من هو) على وجه التحقيق؛ ولا يعرفون (مفتاح) طريقته الموحدة في أعماله جميعاً

وأذكر أنني سرت على هذا المنهاج في كل ما كتبته حديثاً من فصول النقد. فلم يكن همي هو التعريف بالكتاب فحسب، بل التعريف بالكاتب أيضاً. وكانت سمات الكاتب العامة وخصائصه الأساسية، هي التي تسترعي نظري، وتنال اهتمامي. وكان المؤلف في نظري إنساناً ذا طبيعة قبل كل شيء، ووظيفتي هي تصوير هذه الطبيعة. يستوي أن يكون المؤلف شاعراً أو باحثاً أو كاتب رواية أو قصة أو أقصوصة. فما يعنيني عنوان عمله بمقدار ما تعنيني طبيعة عمله

وعلى هذا الأساس تحدثت مثلاً عن أعمال تيمور، وأعمال المشتغلين بالرواية والقصة والأقصوصة من الكبار والصغار؛ وعن نزعته بين نزعاتهم، وعن المدرسة التي يمكن أن ينمي إليها بين مدارسهم. فأما الذين فهموا طريقتي، والذين يهمهم جوهر الطبيعة الفنية، فقد وافقوني أو خالفوني فاهمين، وأما الذين كل بضاعتهم مصطلحات وعنوانات، ولا يملكون أن ينفذوا من ورائها إلى جوهر الطبيعة الفنية؛ فقد راحوا يتعالمون ببضاعة من الفهارس والمعجمات!

إن الأديب يكون ذا طبيعة واقعية أو رمزية أو خيالية، ثم يكون شاعراً وكاتب رواية أو قصة أو أقصوصة، أو كاتباً اجتماعياً، أو باحثاً تاريخياً. والناقد المهتم بالطبائع الفنية، قد يتجاوز العنوان الذي يقدم به أعماله، ليبحث مباشرة في طبيعة هذه الأعمال، كما أنها قد يراعي العنوانات الظاهرية مع الطبيعة الداخلية زيادة في التبويب والتقسيم. حينما يقف الآخرون أمام هذه العنوانات لا يتجاوزونها إلى النزعة الكامنة وراءها. لأنهم محرومون من الفطنة إلى طبائع الأشياء!

أحب أن ينتبه قرائي إلى هذا الاتجاه.

وبعد؛ فالنقد ضريبة وتضحية! فما أحسب (الناقد) في الشرق العربي إلا خاسراً لو المسألة بالقياس إلى نفسه:

إنه لا يرضى أحداً إلا القليلين. وأنه لينفق من الجهد ليقول شيئاً ذا قيمة - أكثر مما ينفقه في أي فن آخر من الفنون الأدبية، فكتابة مقال تستأديه على الأقل قراءة كتاب، أو عشرة كتب أو عشرين في بعض الأحيان. لقد صنعتها حينما كتبت في (الرسالة) منذ عام أربعة فصول عن الدكتور طه حسين و (مدرسة الأسلوب التصويري) والأستاذ توفيق الحكيم و (مدرسة التنسيق الفني) والأستاذ المازني و (طريقة الحركة الحيوية) والأستاذ العقاد و (مدرسة المنطق الحيوي) ولقد كلفتني كل مقالة قراءة كل كتاب لهؤلاء الأربعة ومعظم ما كتبوه من مقالات. ولم أكن لأزيد على هذا الجهد شيئاً لو اعتزمت أو أؤلف عنهم كتاباً. وكل ما يعزيني عن هذا الجهد أن هؤلاء الأربعة هم مع آخرين هم عندي اليوم موضوع كتاب!

ولقد كنت آخذ - في وقت ما - على بعض كتاب الصحف الأول عندنا انهم لا يخصصون جزءاً من وقتهم للنقد وتوجيه الحركة الأدبية. فالآن بدأت أفهم أنهم معذورون. فالنقد عمل يستنفد الوقت والجهد، بلا تعويض مناسب. وخير لهم أن يؤلفوا كتباً موضوعية من أن يتتبعوا أعمال المؤلفين بالنقد. وقد لا يكون بين كل عشرة كتب يقرءونها كتاب واحد يستحق ما أنفق من الوقت في قراءته!

النقد ضريبة يؤديها الناقد من وقته وجهده! - وأنا أؤديها قدر ما أستطيع - وإنني لأرغب في التخلي عن أدائها لأنشئ أعمالاً أدبية أُخرى. فلولا إجازة أعطيتها لنفسي في صيف هذا العام ما استطعت أن أؤلف (كتاباً). وأشهد أنني لم أتعب فيه أكثر من تعبي في إعداد مقال من مقالات النقد الصغيرة!

ولكنني أصرح - وليقل من شاء ما يشاء - بأنه ليس هناك الآن (ناقد) يؤدي هذه الضريبة. كان هناك رجلان يستطيعان أداءها - على اختلاف في النوع والطاقة - هما العقاد والمازني: فانصرفا - وحق لهما ذلك - إلى الخلق والإنشاء

ثم تصدى لها الدكتور مندور. والدكتور مندور من خيرة الشبان المثقفين ومن القلة النادرة بين (الجامعيين) في مصر الذين لديهم ما يقولونه، وما يزيدون به شيئاً غير الفهارس والعنوانات. ولا يمنعني ما شجر بيني وبينه في وقت من الأوقات من الاعتراف له بهذه الخصائص

ولكنه - مع هذا كله وعلى الرغم من كتاب الميزان الجديد - لا يصلح ناقداً. أنها ناقل ثقافة وشارح آداب. أما النقد فلا. إن الحاسة الأولى للناقد تنقصه: حاسة التفرقة لأول وهلة بين الأصالة والزيف، وبين النضج والفجاجة

فالناقد الذي يخلط بين طبيعة المتنبي وطبيعة الأستاذ محمود حسن إسماعيل، فيرى أن هناك خيطاً - ولو ضئيلاً - يصل بين هاتين الطبيعتين، إنما تنقصه الحاسة التي تفرق بين الأصالة والزيف. ولو تشابهت المظاهر في بعض الأحايين والناقد الذي يعجبه (تيمور) حين لا يعجبه (توفيق الحكيم) إنما تنقصه الحاسة التي تفرق بين النضج والفجاجة، أيا كانت النزعة التي ينزع إليها هذا أو ذاك، وأيا كانت الطريقة التي يسلكها. فالعمل الفني الناضج ينال مكانة، مهما تكن عيوب النزعة التي أملته والطريقة التي يسلكها، والعمل الفني الفج لا ينال هذا التقدير مهما تكن نزعته واتجاهه.

ليست المسألة أن هذا اللون يعجبك أو ذاك. ولكنها في الصميم، أن هذا أصيل أم زائف، وناضج أم مبتسر. وتلك مسألة لا تخفى معالمها على الناقد الأصيل

ويكون الإنسان قارئاً ومثقفاً، ولكن هذه الحاسة هبة تنميها الثقافة، وتعجز عن خلقها في النفوس

والدكتور مندور يبدع ويعجب ما ظل يتحدث عن المبادئ العامة، ولكن الزمام يفلت من يده عند التطبيق، فتختلط عليه الأصالة بالزيف والنضج بالفجاجة. وتستهويه بعض النزعات الأدبية دون بعضها، فيضله هذا الاستهواء كما حدث في نماذجه عن (الشعر المهموس) وفي حديثه عن (تيمور)

وهذه لا ينقص من قدر الدكتور مندور؛ فنحن في مرحلة بعد نقلة الثقافة فيها هم رواد الجيل.

سيد قطب