انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 595/أمتع قصص الحب في الأدب الفرنسي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 595/أمتع قصص الحب في الأدب الفرنسي

مجلة الرسالة - العدد 595
أمتع قصص الحب في الأدب الفرنسي
ملاحظات: بتاريخ: 27 - 11 - 1944



هيلوئيز الجديدة

للأستاذ صلاح الدين المنجد

كان الحب في القرن السابع عشر يرافق البطولة ويصاحب الشرف. ولقد رأيت أن الأميرة دكليف، خشيت أن تؤذى في الحب. فأفضت إلى زوجها بأنها أحبت، لئلا يمس شرفه وتعر كرامته. فلما أتى القرن الثامن عشر، مالت المرأة إلى دراسة شمائل الرجل وعاداته من خلال الحب. وانقضى ما كان من قبل من حب هائم، يسهر الليل ويذهل اللب، ويضني الفؤاد.

وما لبث الناس أن انطلقوا. . . يلذون، ويفكرون فساقهم هذا الانطلاق البعيد إلى الملل، ودفعهم الملل إلى حب الطبيعة، والرغبة في البساطة، والبعد عن التكلف، مما هيأ النفوس لقبول رواية هيلوئيز الجديدة، والعناية بها.

كان روسو قد أشرف على الخامسة والأربعين من عمره، عندما كتب هذه الرواية وكان قد نشأ ابن ساعاتي في جنيف. ثم ماتت أمه وهو صغير. وفر أبوه من رجال الحكومة وتركه فولج كل باب، ودخل كل مدخل، ثم مضى لاهياً متشرداً لا يحفل أحداً.

واتصل بمدام دفرنس، فكانت خليلته وربيطته من غير أن تحبه. كما كانت جورج ساند ربيطة شوبان من بعده.

ثم تركها وصنع كل صناعة: فكان ناموساً لأرشمندريت، ثم سفيراً، ثم سارقاً، ثم موسيقياً، والى هذا كله، كان فناناً، حالماً، مرهف الحس، رقيق الشعور، يحس جمال الطبيعة، ويعشق اللذائذ الصافية البسيطة، وكان يرنو إلى زرقة السماء، وخضرة الحقول، وجريان المياه. . . ويداعب في نفسه حلما جميلاً.

وقصد باريس، حالماً بالمجد. كان يتمنى نصر الأبطالوخلود العباقرة. ولكن ما هو الثمن الذي ينبغي أن يؤديه؟ لقد اخترع طريقة لترقيم الموسيقى، وكتب غنائية لم ينشرها، ثم أنه يحس أنه قادر على التأليف، فهل يكفي هذا. . .؟ وكان إلى ذلك أيضاً رقيق المشاعر، لكنه متكبر. وكان يعيش في الخيال. ويبتعد عن الواقع، ويقول: (إن الإنسان لا ينعم بما يناله، بل بما يأمله، ولا يحس المرء السعادة إلا عند ارتقاب السعاد). فرجل كهذا، قد يجد في عزلته من النعيم ما لا يجده بين الناس. ولكن هناك المجد. . وكيف يدركه؟

واستطاع أن يتصل بمدام دوبان التي كانت تستقبل عظماء باريس كلها وصادق ابن زوجها (فرانكويل) وكان هذا عاشقاً (مدام ديبيناي ' ثم انضم إلى جانب الفلاسقة. وعندما وضع مجمع ديجون بالمسابقة خطابا حول الفنون والعلوم، كتب دفاعه الشهر ثالباً محاسن المدنية:)

(. . . أيتها الفضيلة، أما نقشت مبادئك في جميع القلوب، أو لا يكفي، لكي نعلم قوانينك، أن ينحني الإنسان على نفسه فيصغي إلى صوت ضميره، عند صمت الأهواء. . .)

وذاع صيت روسو، وعرف بأنه عدو لدود للعواطف المتكلفة، وأنه صديق الطبيعة. هذا أول لقب من ألقاب المجد، فليفتش عن لقب آخر

وفي السنة 1752، مثلت روايته (عراف القرية أمام الملك في فرساي، وأوتيت حظاً كبيراً من النجاح فتطلع الناس كلهم إلى معرفة روسو والتحدث إليه

لكن هذا العالم الذي استقبله ورحب به، لم يكن قد خلق له. ولم تكن أبهاء باريس، وما فيها، لتروقه. (كانوا يلهون، يحاولون الجمع بين الفكر والعقل، ولا يتعمقون في المباحث خوف الملل. ويجنحون إلى الإيجاز، ثم لا تجد واحداً ينقد رأي آخر، أو يؤيده، ويتعصب له. . .)

فماذا يفيد روسو من هذه المحادثات؟

وعزف عن الناس، وانقطع إلى أمام ديبيناي، في أحضان الطبيعة

وهفن نفسه إلى تأليف رواية يدور موضوعها على الحب؛ هذا الحب الذي لم ينعم به في أيام صباه، وقد هاجه ما يحيط به في عزلته هذه، في دار مدام ديبناي. لقد ذاق طعم حياة هادئة فيها راحة وهناءة وسذاجة. وتمتع بمرأى الغابات والحقول، ولذته أناشيد العصافير، وأسكرته عبقات الأزاهير. أنها عزلة حلوة، ولكن، ما كان أكثر جمالها وأشد هناءتها، لو كانت عزلة مخلوقين اثنين عن الناس، عزلة قلبين متحابين يعيشان في دار كهذه، وينعمان بطيب الحياة، وكان الربيع الطلق قد أقبل يضحك ويغني، وفي كل مشهد من الطبيعة نداء للحب. فأغراه ذلك كله على كتابة رواية ما. فبدأ، وأحاط حوادثها بمنظر الطبيعة التي عاش فيها وتمتع بروائها، أيام كان صبياً غض العود، على ضفاف بحيرة جنيف. وسماها هيلوئيز الجديدة لأنها تشابه مغامرة هيلوئيز وآبيلار، المؤدب الذي عشق الفتاة التي عهد إليه أن يؤدبها. وتخيل شاباً لا نسب له ولا مال، اسمه سان برو، يحاكي روسو في خلقه، ويخالفه في تبلده، قد أتى به ليؤدب جوليا ابنة السيد ديتانج الغني السويسري. وكانت قد أوتيت الجمال والشرف والتهذيب. فما أن رآها حتى أحبها. فكتم حبه. فلما ثار الهوى، وضاق به ذرعاً، كتب إلى جوليا رسالة حبه الأولى. وهي رسالة رقيق تفضي إليها بحبه

كان سان برو كروسو، تؤثر فيه العواطف وتهزه الأهواء. وكان، كما قلنا، خيالياً حالماً، فلم يطمع من جوليا بما يصعب نواله ويستحيل إدراكه، بل كان يريد أن يقول لها: (إن ملامحك خلابة بهرت عيني. . .)

(. . . إن أبصارنا تتلاقى، فتفلت من صدورنا بضع آهات في وقت معاً، وتنحدر بضع دمعات. . .

(. . . لقد حاولت اليوم، مائة مرة، أن أرتمي على قدميك فأنديهما بعبراتي، فيفل شجاعتي دائماً رعب قاتل، وترجف ركبتاي ولا تطيقان ثنياً. . .)

وينمو الحب في قلبي العاشقين، ويحاول سان برو أن يفر خوف الفضيحة فيسافر، وتتبعه رسائلها تدعوه فيها، لكن كيف السبيل إلى صون الشرف. كلا العاشقين قد أذلهما الهوى. ويريدان أن يبقيا شريفين طاهرين؛ فكانت تتمنى إلا يجفوها صادقة في حبها إياه، ولم يشأ روسو أن يغريها. . فتألم وبئس، وأذعن، ثم شعر بالملل، وكان يراسلها فانقطع عن مراسلتها.

وعاد روسو إلى روايته يتمها. . .

فتخيل أن جوليا تجبر على زواج رجل روسي نبيل اسمه سان برو، وتتطلب أن يحبها، وأن يصونها ويحترمها

ولكي تتم الرواية، جعل روسو لهذين البطلين وصيفين يكتمان أسرارهما. فاتخذت جوليا ابنة عمها، واتخذ سان برو صديقه ميلورد ادوارد، ويجتمع سان برو بجوليا، وتكون معهما كلير في غيضة شعرية، ويكون مشهد القبلة الشهير

(فلما دخلتها، دهشت لرؤية ابنة عمك تقترب مني وتسألني قبلة بدلال واستعطاف فقبلت هذه الصديقة الفاتنة غير مدرك من السر شيئاً، ولكن رباه! ماذا أصابني بعد لحظة، حينما أدركت. . . لقد رعشت يدي، وأحسست قشعريرة لطيفة تدب في جسمي، وشعرت بفمك الوردي، فم جوليا، يلتم فوق فمي، وبذراعيك تضمان جسمي. أواه! كلا ليست نار السماء بأكثر تأججاً، ولا أشد سرعة من النار التي سرت تلك اللحظة في جسمي. لقد كانت النار تندلع من آهاتنا، وتتأجج في لاهبات شفاهنا، وكاد قلبي يموت تحت عبء اللذة، ثم رأيتك، وقد شحب وجهك، تغمضين عينيك الحلوتين، وتتكئين على ابنة عمك، ثم تسقطين على الأرض من الإغماء. عندئذ أطفأ الرعب سرورنا، فلم يكن نعيمي غير سنا خاطف كالبرق. . .

(إن اثر الإحساس العميق الذي أحسسته لن يزول أبداً. احفظي قبلاتك يا جوليا. . فأنا لا أستطيع احتمالها. . إنهن شديدات الأثر، يخزن ويحرقن حتى اللب)

ويتأجج الحب ويفور وتقسم جوليا ألا تتزوج أحداً غير سان برو

ويحاول سان برو أن يهدئ من فوران حبه ويخفف ثوران هواه فلم ير بداً من السفر. فغاب وفي إيان غيبته، أعلم السيد ديتانج، ابنته جوليا، أن زواجها رجلاً غير ذي نسب ونبالة مستحيل

فلما عاد سان برو، هزها الشوق، وعطفها إليه الحنين، فتقربت منه، وأزلها الشيطان، فأضحت خليلته، وعندئذ شعرت بوخز الضمير

(ليعزب هذا البربري إلى الأبد عن وجهي، ليمض فلا يضاعف بحضوره آلام روحي، ليكف عن التلذذ الوحشي بتأمل دموعي، ماذا أقول؟ وا أسفي على نفسي! أنه ليس مجرماً. أنا المجرمة وحدي. إن مصائبي لمن صنع يدي، وليس لي أن ألوم غيري)

ويسعى ميلورد ادوارد في إرجاع الأب عما عزم عليه ولكن سعيه كان فشلا. واضطر سان برو إلى مغادرة سويسرا فقصد باريس.

وتكشف السيدة ديتانج بعد سفر، رسائل العاشقين.

(ضاع كل شيء، وانكشف كل شيء. لم أجد الرسائل في المكان الذي خبأتها فيه، مع أنها كانت فيه أمس مساء، لابد أنها لم ترفع من مكانها إلا اليوم، وقد تكون أمي وحدها استطاعت أن تراها، ولئن رآها أبي، فليكونن هذا آخر عهدي بالحياة!)

ويقف روسو، برسائله وروايته عند هذا الحد، وكان يحمل هذه الرسائل في حقيبته، ويقرأهن على النساء، فيبكين رقة وأسى، وكان يعتقد أن روايته قد نمت، وإن الحبيبين افترقا إلى الأبد، فلا لفاه، لكن حادثاً يقع، فيكون نتيجة لتلك القصة الخيالية. وهذا مثال واضح يفسر الصلة بين الرواية والحياة وبين الخيال والحقيقة

عرف روسو، في هذه الحقبة، مدام دوتو. وكانت هذه، شأن كثيرات من نساء القرن الثامن عشر، قد فركت زوجها وأحبت سان لامبير، القائد الشاعر، عاشق مدام دشاتليه

وصادف أن لجأت إليه - وهو في عزلته عند مدام ديبيناي - وحلة قد بللها المطر. ثم زارته زورته ثانية ممتطية حصاناً، وقد تزيت بزي الرجال.

يقول روسو: (. . . ورغم أني لا أحب شبيهات هذه السخريات، فقد بهرت بشكلها، وأحببتها. . .)

لم تكن مدام دوتو، جميلة. ولكنها ذات سحر وجاذبية. وسرعان ما اشتد حبه وانتقل فجأة من العالم الذي كان يتخيله على الورق، إلى عالم فيه ما يلاقيه الهائمون من الوله والحنين والشكوى. وكانت، تياهة، طياشة ذات دل ورقة، وكانت لا تأبى على روسو النزهات في ضوء القمر، أو القبلات على حفافي النهر. لكن قلبها كان شارداً. أسره رجل غير روسو، وغير زوجها. رجل قائد خيل إليه أنه شاعر، وأوهمته أنها صادقة في حبها إياه. ولم يشأ روسو أن يغريها. . فتألم ويئس وأذعن. ثم شعر بالملل، وكان يراسلها فانقطع عن مراسلتها

وعاد روسو إلى روايته يتمها. . .

فتخيل أن جوليا تجبر على زواج رجل روسي نبيل اسمه ولما قد أوتى بسطة من البلادة، وإن سان برو، يذعن، وقد يئس. ثم يجعلها في حل مما كانت عاهدته عليه، فلا تتزوج غيره. وتذعن جوليا إطاعة لأبيها، وشفقة على حبيبها ويضطرب سان برو، فسافر ليطوف في البلاد، مسكينة جوليا أنها لم تذق من هواها غير القلق والخوف واليأس. . . ولم تلق في طريقها غير حبيب أحبته، فأبعد منها، وزوج لم ترض عنه قرب إليها.

فلما طوف كثيراً، عاد فنزل عند ولمار نفسه زوج جوليا. وحادث جوليا أول محادثة، وكانت خجلى، وحاولت أن تبدي عذرها في زواجها، ولكن زوجها فاجأهما. . .

يقول روسو (. . . ولم تعبأ، وظلت تتكلم بحضوره كأنه لم يكن. وعندما سكتت قال لي: هذا مثال من الصراحة التي تسود هنا. وإذا شئت أن تكون فاضلاً حقاً، فاتبع هذه السبيل. هذا هو الرجاء الوحيد والأمثولة الطيبة اللذان أقدمهما لك. أن أول خطوة نحو العار أن تخفي الأعمال العلانية. إن حكمة واحدة يمكن أن تحل محل الحكم كلها. وهي: لا تعمل ولا تقل ما لا تريد أن تنظره من الناس أو تسمعه منهم. . .)

لقد حاولت جوليا إدراك سلام القلب مع زوجها، رغماً عن هواها القديم الذي يثور في فؤادها. وهكذا انقلبت الرواية إلى درس أو منهج للأخلاق

لقد أراد أن يثبت أن الإخلاص بين الزوجين هو أهم واجبات الزوج شأناً، وأن الهوى العنيف عندما تكون الفتاة عذراء، إذا دام بعد زواجها من لا تحب يصبح جريمة. وأن المرأة تستطيع أن تنشئ حياة سعيدة على أنقاض حب عظيم

وتقضي جوليا العيش مع زوجها، في الحقول، يراقبان الخدم، ويوجهان الزارعين، ويعنيان بالكروم

ويعجب سان برو، بحكمة دلمار وجوليا ورجاحة عقليهما. ويصف الخدم والحديقة، وصفاً ممتعاً، ولكنه لم يستطع أن يطفئ لهب هواه، أو ينسى حبه القديم فقد كان كل شئ يذكره ويذكرها بنعيم مضى. . . وعندما اتخذت جوليا قارباً تتنزه فيه، فكرا معاً في ذلك الماضي الجميل (. . . كان صوت المجاديف المتزن، يثيرني لأحلم، وكانت صدحات دجاج الحقول المرحة تذكرني بنعميات عمر مضى فتحزنني بدلاً من أن تفرحني. وشعرت، رويداً رويداً، بازدياد الغم الذي كنت به مثقلاً. فلا صفاء السماء، ولا طراوة الهواء، ولا شعاعات القمر اللطيفة، ولا رعشات الماء الفضية حولنا، حتى، ولا وجود هذه المخلوقة العزيزة، لم يستطع أن يطرد عن قلبي ألف فكرة مؤلمة. . .)

وينهى روسو روايته بموت جوليا. بعد أن أوصت سان برو بزواج كلير ابنة عمها، ولكنه أبي. وعاش مع كلير ينشئان أولادها، وفاء لها

تلك خلاصة موجزة عن هيلوئيز الجديدة. ولقد أوتيت من الانتشار ما لم يقدر لغيرها.

وقرأها النساء والشبان والشيخان، بحماسة ولذة وظلت طوال القرن الثامن عشر، رواية الجمهور. لقد علم روسو بها الحب نابليون، وأخذ عنه غوته وستاندال أيضاً. وعلم بها الناس الفضيلة، فكان قائداً أخلاقياً، ثم علمهم حب الطبيعة فأحبوها، وكان أباً وأستاذاً للابتادعيين الذين أتوا بعده.

صلاح الدين المنجد