انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 593/يا أخت ليلى

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 593/يا أخت ليلى

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 11 - 1944



للأستاذ دريني خشبة

صديقي الأعز الدكتور زكي مبارك:

رحمك الله رحمة واسعة يا أخي، وغفر لك، فلقد كنت فينا مرجوا قبل هذا؟!

عمرك الله ما ذلك الغرام الجديد يا أخي؟. . . وكيف اتسع له قلبك وليلاك المريضة لا تزال تئن وتتوجع، بالعراق وبغير العراق؟. . . ألم أقل لك يا صديقي إنك تياسر مع كل سانح، وتيامن مع كل بارح؟. . . ولكن لا عليك يا أخي، ما دامت ليلاك الجديدة غبية بلهاء، يسهل إقناعها بهذا الأسلوب الذي يحمل في تضاعيفه أدلة الإعياء. . بل أدلة الموت

هل تعبت في اجتذابك إلى الميدان كل هذا التعب، لتفضح نظرية وحدة الوجود على هذا النحو، غير الخليق بك، ولا بجميع الغيد الحسان اللائى وقعن في شراك هواك، وأحابيل حبك، على ضفاف السين مرة، وحفافي دجلة مرة أخرى، وفي مراتع القاهرة تارة، وبين أزقة سنتريس العزيزة الغالية تارات وتارات؟!

أهكذا يا صديقي يضيع تعبي في معالجتك هباء منثورا فتبعثره على هذه الصورة بين الخدود والقدود، والثغور والنحور وتجعله جروحاً لا قصاص لها في جسم محبوبتك الغبية البلهاء التي أنشبت أظافرك في بدنها، وفي عقلها، وفي روحها. . . دون أن تضع ثناياها العذاب الرطاب فوق (علابيك!) - أي عصب عنقك - ولست أفسرها لك - فتعضه عضة تريحنا من زكي مبارك، ومن أبالسة زكي مبارك، ومن وحدة الوجود، ومن المخرفين بوحدة الوجود؟!

لا تجزع من هذا الكلام يا أخي فأنت تكفر بالموت، الذي يؤمن به الأغبياء أمثالنا. . . وحبيبتك الغبية البلهاء لن تصنع شيئاً، مهما أنشبت أظفارها وثناياه العذاب الرطاب في عنقك. حقيقة أنها إن فعلت، فربما سكتت نأمتك، وشالت نعامتك، وأراحت جميع الأغبياء منك. . . ولكن هذا كله، في نظرك، لا يكون موتاً، وإنما يكون تحولاً. وأنت ماذا يهمك من هذا التحول، وإن شئت فسمه التناسخ، ولا سيما إذا انتهى بك إلى أن تكون دجاجة أو هرة، أو ثعباناً. . . أو. . . ببغاء مثلاً؟! ماذا يهمك أن تتحول بعد مليون سنة يا صديقي العزيز إلى ببغاء يهرف بما لا يعرف، ويزعم لجماعة الطير أنه لا موت ولا سكون، ولا فضاء ولا زمان، ولا مكان. . . ثم يتعالم على الماشية ودواب الحمل، فيزعم لها، في وقار الفلاسفة وسمت العلماء، أن كل من في الوجود حي يرزق، فالحديد حي، و (وابور) الزلط حي، والزلط نفسه حي. وكل ما في الدنيا من جماد حي، كما يفسر ذلك الدكتور زكي مبارك - الذي كان يعيش بعقله، وشحمه ولحمه، قبل مليون سنة، في بلاد اسمها مصر، ومدينة اسمها القاهرة، وكما كتبه بيمينه في مجلة اسمها (الرسالة) كانت تصدر في تلك المدينة، رداً على الأغبياء الذين كانوا يلحدون في نظرية وحدة الوجود. ويجادلون فيها بالباطل وهم أبعد الناس عنها، ويدعون وصل ليلى. . . وليلى لا تقر لهم بذاكا؟

أهكذا يا عزيزي الدكتور تعود إلى دائك القديم، أو يعود إليك داؤك القديم، من دعوى وقوع الغيد الأماليد، والأعاريب الرعابيب، في حبك، وشغفهن بك، وقتلهن أنفسهن تهالكاً عليك، وترضيا لك؟

لقد كان الناس يضيقون بتلك النغمة، أو تلك الدعوى، يوم كنت شاباً أزهرياً، غض الإهاب فتياً. . . ثم زاد حنقهم عليك حين لم تقلع عنها وأنت والد كريم ذو. . . وبنين. . . أما وقد صرت جداً. . . وجداً لحفدة. . . فأظن يا أخي أن تلك الدعوى. . . دعوى افتتان الحسان بدمك الخفيف الظريف. . . قد أصبحت شيئاً بائخاً. . . وبائخاً لدرجة لا تطاق. . . فهل أنت مرعوٍ عنها يا صديقي؟

هذه نصيحة. . .

وألاحظ هذه الأيام أنك تسيغ شيئاً من الكذب، تحسب أنه ينفعك في التهويش على أصدقائك، الذين تزعم أنهم أعداؤك، والذين تزعم أنهم إنما يناوشونك ليصلوا - على قفاك! - إلى شئ من المجد الحرام!

أما هذا القليل من الكذب، فهو زعمك في كلمتك القصيرة أنك كتبت الكلمة الطويلة (بالعدد السابق) لنفسك، ولم تكتبها ردا على أحد. . . لكنك نسيت كل هذا الافتراء القليل وأنت تخبرني - متحدثاً مع شخصي كما يقول المحضرون أنك عندما قرأت مقالي صبيحة الأحد الماضي، فار دمك، وانطلقت إلى مصر الجديدة من فورك، وسهرت ليلك الطويل، تستوحي فتاتك البلهاء الغبية، وتصور نفسك لها بطلاً، ثم تزعم لها أنك أقنعتها فاقتنعت، وتزعم لها أنك لو شئت أفهمت أغبى الأغبياء، وانك تفتخر بكونك أول شارح لنظرية وحدة الوجود في هذا العصر. . . . فما هذا كله يا أخي؟ أنك إذا حمدت الكذب القليل على الناس، فليس يحمد لك الناس هذا الكذب العريض على نفسك!. . . أنا واثق من الآن أنك مستطيع أن تقول أنك لم تقل لي هذا القول، فترميني بدائك وتنسل، كما يقول المثل. . . ولكن اذكر أنك قلته أمام تلاميذك الأذكياء الجدد، وقد نبهتهم إليه ليؤدوا الشهادة إذا أنكرت. . . فأحذر. . .

ومن هذا الكذب القليل الذي تستبيحه هذه الأيام أن تزعم أن الناس هم الذين طالبوك بالرد على فيلسوف العراق. . . وانك لن ترد على فيلسوف العراق. . . وانك قرأت رسائل التعليقات، مع إنك - وأقسم بحبك الجديد - لم تقرأها، لأنك اعترفت لي بهذا، وأنت تعترف لي بأنك كسول جداً هذه الأيام!

أما أن الناس قد طالبوك بالرد على ذلك الفيلسوف. . . فلا. . . لأنك أنت نفسك الذي وعدت بذلك في كلمة مكتوبة نشرتها لك الرسالة. . وهي أولى كلماتك في هذا الموضوع. . . ولكن لما حال كسلك بينك وبين الرد، لأنه حال كذلك بينك وبين قراءة الكتاب. . . فضلت أن تزعم أن أحداً يطالبك بالرد وانك لن ترد. . . إذ يقتضي الذوق في نظرك أن نحسن إلى من أحسن إلينا. . وقد شرفك الرصافي بتأليف كتاب علق به على كتبك. فأقل الذوق ألا نناوشه، وإن كان في عدم مناوشته إيمان بما يؤمن هو به من وحدة هذا الوجود وما يفرع منها من أن محمداً هو مبتدعها، وأنه منشئ القرآن، وأنه لا معنى للدعاء والصلاة والبعث والثواب والعقاب والحساب. . . إلى آخر هذه الكفريات التي هذى بها في كتابه

ولكن لماذا يطالبك الناس بالرد على الرصافي وأنت تؤمن بشر مما يؤمن هو به؟! ألم تصرح بذلك في فلتة من فلتات لسانك؟ وهلا يحسن أن أنتظر كيف ترد على هذا الخبر؟ لنترك ذلك الآن. . .

أما أكبر الأدلة على أنك لم تقرا رسائل التعليقات إلى الآن فهو قولك إني أصر على أن أقحم الإسلام في وحدة الوجود. . . وأنا - وحق صداقتك يا أخي، لم أصر على شئ قط، وإنما الذي أصر على ذلك هو صاحبك الذي علق بكتابه على كتابك لأنه لم يقحم وحدة الوجود في الإسلام فحسب، بل جعلها من اختراع رسول الله - أو رسول الإسلام - كما تقول أنت. وما صنعت أنا شيئاً إلا ما دفعت به ذلك الإفك الذي يفتريه الرصافي على رسول الله. فلو أنك تنازلت - أيها الكسول الكبير - فقرأت كتاب صاحبك الذي علق به على كتابيك، لما وقعت في هذا الخطأ الذي تكرر منك غير مرة، من اتهامك لي أنني آبى إلا أن أقحم الدين في الفلسفة. وأذكر أنني قبلت مبدأ إبعاد الدين عن وحدة الوجود حينما طلبت إلي أن تساجلني فيها. فرأيتك تهلع لقبولي هذا، ثم تصور لنفسك أنني أستدرجك، فتطلق للريح ساقيك فراراً غير كرار، زاعماً للناس أنني فيما يظهر، لا أنتوي إبعاد الدين والإسلام عن وحدة الوجود! ولكي تستر هذا الفرار، تخرج على الناس بآرائك الفلسفية المدهشة عن الموت والفضاء والسكون والزمان والمكان فتقع في أخطاء فتاكة، ليتك سترت نفسك فلم توقعها فيها، إبقاء على ماضيك العلمي المجيد، وسمعة كتبك القيمة التي لم تبال أن تتنكر لها مجاملة ذميمة لرجل حاول مجترئاً أن ينسخ عقائدنا وأن يعكس علينا ديننا

فوصيتي لك إذن ألا تستبيح ذلك اللون من الكذب الخفيف يا أخي لأنه غير خليق بك

وتلك نصيحة ثانية. . .

ووصية ثالثة أجترئ فأقدمها لك عسى أن تعمل بها. ذلك أنك تتعرض في مقالاتك لما لم تحسنه، بل لما لم تطلع عليه من كثير من العلوم. وكل الذين قرءوا كلمتك الغَزِلة السالفة عجبوا لك كيف لا تعرف الطريقة التي يتم بها تحجر الحيوان والنبات. فأنت تحسب أن مادتها تتحول إلى حجر. وهذا خطأ يحسن أن ترجع لتصحيحه إلى بعض مصادر هذا العلم الجميل، فإن تكاسلت، فاسأل أحداً في مصلحة الطبيعيات يشرحه لك

وبالمرة. . . يحسن لمن يدعي أنه بطل نظرية وحدة الوجود في هذا العصر والعصور التوالي أن يقرأ كتاباً واحداً على الأقل في كل من علم الفلك وعلم طبقات الأرض وعلم الحيوان وعلم النبات، ثم كتاباً واحداً في علم التطور أو النشوء والارتقاء، لتعلم أشياء كثيرة عن أسرار الحياة والموت وخلق العالم وتكون السدم وانفصال الكواكب وتكون القشرة الخارجية لأرضنا العزيزة، وما تتركب منه تلك القشرة وكيف غبرت عليها عصور جيولوجية متنوعة انتهت إلى العصر الذي أنجب لنا الصديق الأعز ومن سبق الصديق الأعز ممن يقولون مثله بأن الوجود إنما وجد هكذا مرة واحدة. . . بعجره وبجره!

لله ما اظرف دعاباتك يا دكتور زكي ما بعدت تلك الدعابات عن ليلى وأخت ليلى، وما لم يوقعها سوء الطالع بين علمك القديم، وعلمك الحديث؟!

ترى ماذا أنت صانع لو أن الشاعر العراقي صدقك، فشد رحله إلى سنتريس يطالبك بالبيت الذي وعدت، وما يحتاج البيت من زوجة وخدم وضيعة إلى آخر الحكاية التي تعرفها جيداً؟

أتهرب منه على النحو الذي هربت به من الأسئلة التي وجهناها إليك لتدلي فيها برأيك عما يعتقده الرصافي من قدم العالم وألهيته واختراع محمد (ص) لخرافة وحدة الوجود وتأليفه للقرآن وإنكار البعث والحساب والعقاب والثواب وتساوي المتضادات أمام (الوجود المطلق الكلي؟)

اثبت على حال يا صديقي. اثبت على حال واحدة، رحمك الله رحمة واسعة، وغفر لك، فلقد كنت فينا مرجوا قبل هذا. . .!

دريني خشبة