انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 593/بين سيد قطب والحقيقة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 593/بين سيد قطب والحقيقة

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 11 - 1944



للأستاذ صلاح ذهني

لم تعد المعركة بيني وبين سيد قطب، فقد خرج الأمر من يدي. . .

المعركة الآن بين سيد قطب وبين الحقيقة الواضحة. أنه أن صلح ناقداً للشعر فلن يصلح ناقداً للقصة. ذلك لأن أبسط ما يستلزمه فهم القصة الحديثة ودراستها وفهم المدارس الأدبية إطلاقاً هو الإلمام بلغة أجنبية. ولو أن سيد قطب قصر كلامه في مقاله عن تيمور على إبداء الإعجاب والسخط، ولو أنه لم يتعالم فيتكلم عن مدارس الأدب ويأخذ في التقسيم والتوزيع. لو أنه قنع بذلك دون أن يقحم نفسه فيما جر عليه الخطأ، إذن لما كان يعنيني أن أرد عليه. لكنه أبى إلا أن يحشر نفسه في مجال لا يفهم فيه، ولا يعيبه ألا يفهم فيه.

وبعد. فلأخاطب القراء فيما بين سيد قطب وبين الحقيقة من خلاف، ولأعرض عليه القضايا التي أثرتها في وجه سيد قطب.

1 - حار سيد قطب في أمر تيمور فقلت له أنه من كتاب القصة القصيرة ومكانته بين ذوي النزعة الواقعية

2 - حشر الصديق يوسف جوهر حشراً في زمرة الناسجين على منوال موباسان. فقلت له: إن هذا خطأ، لأن يوسف جوهر ينحو نحواً غير الذي تنحوه القصة عند موباسان

3 - ذكر الأستاذين توفيق الحكيم والمازني في أصحاب القصة؛ والأول كاتب روائي ومسرحي ورائد فن قائم بذاته، والثاني كاتب مقالة ممتاز مهما يكن القالب الذي يصطنعه

ذلك في مقال الأول، أما في مقاله الثاني، فقد زج بنفسه مرة أخرى فيما ليس له فيه، وزعم أنه كشف عن هنات أربع للأستاذ نجيب محفوظ في روايته كفاح طيبة، ونبه إليها المؤلف في لهجة توهمه أنه إزاء عالم في المصريات. . .

1 - قال: إن نجيب محفوظ مخطئ لأنه قدر حكم الرعاة بمائتي عام. فقلت له: بل مصيب لأن ذلك هو التقدير الصحيح

2 - وقال: إن بلاد النوبة تسمية حديثة. فقلت له: بل هي تسمية قديمة ولصقت بهذا الإقليم من أرض مصر حتى العصور الحديثة

3 - وقال: إن الاسم الصحيح لهذه البلاد هو بلاد بنت فقلت له: إن بلاد بنت ه الصومال الحالية. . .

4 - وقال: إن نجيب محفوظ مخطئ في توهمه اشتقاق اسم أحمس من الحماسة والجرأة، لأن ذلك اشتقاق يجوز في اللغة العربية، فقلت له: بل إن أحمس بمعناها القديم تعني الجرأة والإقدام.

فماذا كان رد سيد قطب الناقد؟

ساق إلي دليلاً على صحة رأيه في حكم الرعاة لمصر تقدير جوستاف لوبون!!

وجوستاف لوبون عالم في الاجتماع لا في التاريخ. ولو سألني عن مؤرخ يؤيده في رأيه لقلت له اسم مانيتون مثلاً الذي قدر مدة حكم الرعاة بأكثر من ستمائة عام! ولقلت له إن جوستاف لوبون اعتمد على مانيتون وإضرابه من المؤرخين القدماء الذين أتوا بعده بقرون، والذين كتبوا قبل أن تتسع المعلومات عن التاريخ المصري القديم. . .

ثم لقلت له ما دام مغرماً بالأسماء الإفرنجية إرضاء لمركب النقص الخبيث. أمامك عشرات العلماء في التاريخ من المحدثين عد إليهم، عد إلى هنري برستد (في تاريخ مصر القديمة) الفصل الحادي عشر والثاني عشر، في أكثر من موضع من هذين الفصلين يتكرر تقدير مدة حكم الرعاة بأقل من مائتي عام وفي الخمسة أسطر الأولى بالذات من الفصل رقم 12 تجده يذكر ذلك. وغير برستد تجد فلندرز بتري وغيره.

أما التصويب الثاني بشأن تسمية بلاد النوبة، فقد صمت عنه صمتاً جميلاَ!

وأما التصويب الثالث، فقد أقره واعترف بخطئه، ثم رماني بالتبجح العريض لأنني صححت خطأ ناقد ممتاز. . .

وأما عن كلمة أحمس القديمة، فلم يسلم بتصويبي ولا أكد رأيه وإنما قال أنه ينتظر الإثبات!!

وأني لأترك للقراء أن يبحثوا في قواميسهم عن وصف يليق بناقد يخطئ كلاماً لا يملك له إثباتاً ولا نفياً. . .

وأما قصة العجلات الحربية التي أدخلها الهكسوس في مصر، فهي أوضح من أن تحتاج لتملله من الرد عليها، فهو يستنكر جملة وردت على لسان الملك المصري الذي شهد الحرب على الهكسوس لإخراجهم من مصر وهو (سكنن رع) يظهر بها استنكاره لكثرة عدد العجلات الحربية لدى الرعاة، مع أنهم حديثو عهد بها، وقد أخذوها عن سكان فلسطين، كما أخذها المصريون بدورهم عن الرعاة، هذه مسألة واضحة، من الجائز، بل من المنطقي، أن يطمع ملك مصر العليا في أن يصنع عماله عدداً أكثر مما يصنعه عمال ملك الرعاة. . .

وبقيت بعد ذلك قصة المدارس الأدبية، وهي التي جرت عليه أخطاءه في مقاله الأول عن تيمور، لقد كان رده ترك الحديث فيها لأنها لا تستحق الحديث

ومرة أخرى أصحح للناقد الفاضل. إنه مصيب في ترك هذا الموضوع، لا لأنه لا يستحق الحديث، وإنما لأن موضوع المدارس الأدبية هو موضوع الأدب الأوربي أولاً وقبل كل شئ، ولا غنى لمن يتكلم عنها من الاطلاع على هذا الأدب، ولا أحب مناقشة سيد قطب في موضوع الأدب الأوربي لأنه - ولن يعيبه ذلك - لا يعرف لغة أوربية معرفة تسوغ له الكلام فيه، ولقد أخطئ أو أصيب، ولكنه سيخطئ حتما إن تعرض له شأن من يقحم نفسه فيما لا يعلم.

وأرجو بهذه المناسبة أن يقلل سيد قطب من ذكر الأسماء الإفرنجية وترديد أسماء الكتاب الأوربيين بلهجة توهم القراء أنه من أهل الاطلاع الواسع في هذا الأدب. إنه لا يفعل أكثر من الخطأ المضحك كلما ذكر اسماً من الأسماء الأوربية، وأذكر أنني قرأت له منذ عام مقالاً جاء فيه ما نصه:

(وإن بعضهم ليحتج بمثل اعترافات روسو، وقصص بودلير، وقصائد لورنس. . . وقصص بودلير تحمل فناً وهي مع ذلك ليست خير الآداب ولا أرفعها، وقصائد لورنس تحمل فكرة يعالجها من هذا الطريق. . .)

والذين يعلمون أبسط العلم يعرفون أن بودلير لم يكن قصاصاً وإنما كان شاعراً وإن كتب قصتين، وأن لورنس لم يكن شاعراً وإنما كان قصاصاً، وأن الأوصاف التي وصف بها سيد قطب لا تنطبق إلا على شعر الأول وقصص الثاني!!

هذه الأخطاء منشؤها الولوع بترديد الأسماء الأوربية في غير داع إلا الإبهام والتغرير، ولا ضير على سيد قطب لو لزم حدود ثقافته. . .

ولقد أشار في ختام مقاله إلى الدوافع التي أثارتني لمهاجمته.

فأما تشجيعه أو هجومه فما أحسب أن ساذجا يعني برأي ناقد في موضوعات مبلغ علمه بها ما قدمت.

إنما الذي أثارني أن سيد قطب له عادة غير عاداته التي قصها على قراء الرسالة في العدد الماضي وهي أن لا يقرأ كتاباً ولا يكتب عن كتاب إلا إذا استهداه. ولقد جاءني يوما يطلب أن استهدي له تيمور مؤلفاته لأنه يريد دراستها ففعلت، وكان أبسط واجب للياقة أن أصحح للناقد أخطاءه في دراسة صديقي تيمور، وليلحظ أني أقول صديقي. فإني حريص على أن يفهم أن الصلة بين الكتاب قد تكون صداقة أحياناً، ولا تكون دائماً صلة الأصل بالظل والتابع بالمتبوع.

وما أنكر أني أفدت من قراءة تيمور كما أفدت من قراءة غيره من الكتاب. لكن الذي أنكره دائماً أن يكون كل الكتاب ظلالاً. . . ذلك ما أنكره ولا احبه. ولا أملك مثلا غير سيد قطب نفسه أضعه أمام القراء ليروا فيه نموذجا للظلال. فقد قضى عشرين عاما لم يعد خلالها أن يكون ظلاً في ساعة الظهيرة للكاتب الكبير عباس محمود العقاد. . . وما كان في ذلك ضير لو أنه كان ظلا مستقيما. . .

وليحكم القراء أخيراً بين من يترفق بالجاهل فيصفه بعدم العلم ويدعوه في رفق إلى التثبت والتبصر، وبين من يخطئ ويعترف ويتهم من يصوب خطأه بالتبجح العريض!!

صلاح ذهني