انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 591/على هامش النقد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 591/على هامش النقد

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 10 - 1944



في عالم القصة

شعاب قلب. . . حبيب الزحلاوي

للأستاذ سيد قطب

(شعاب قلب) مجموعة أقاصيص للأستاذ حبيب الزحلاوي، من أفضل المجموعات التي ظهرت باللغة العربية. ففيها طبيعة قصاص، وقلب إنسان، وقسط من الشاعرية في الإحساس بالخلجات النفسية، وبصور الكون والحياة. وهي سمات تكفي لتقرير حقها في الظهور، ثم يبقى بعد ذلك مجال تقويم هذه السمات!

فيها طبيعة قصاص، يعرف كيف يتناول موضوعه، وكيف يدبر فكرته، وكيف يضمن شوق القارئ، ومتابعته للأقصوصة في غير تعمل ولا تكلف، ولا مغالطات براقة وهو قصاص طويل النفس - في الأقصوصة - متعدد المسالك، والبناء الأصلي لأقصوصته. يصلح لأن تقوم عليه قصة مع بعض التعديل والتحوير

وفيها قلب (إنسان) إنسان حي يعيش على هذه الأرض، ينفعل بأحداثها ويستجيب لهذه الانفعالات، ويتابعه القارئ في نبضه الطبيعي: ببطيء ويسرع ويرتفع ويهبط، كما تنبض قلوب الآدميين، فيه هذه الحياة

وفيها قسط من الشاعرية، ينقذ القصة من الواقعية المحدودة الضيقة، ويطلق في جوها بعض الإشعاعات الحارة. دون أن يحيلها إلى جو رومانتيكي مصطنع، ولا إلى أسطورة خيالية. أنه يمنحها الحرارة الإنسانية الطبيعية وكفى!

ولا يحسب أحد - تبعاً لهذا - أن الزحلاوي قد بلغ القمة. كلا. فهذه الصفات التي أعددها هي - في اعتقادي - بعض الشرائط الأولى للأقصوصة. ويبقى المجال بعدها مفتوحاً للسياق والمفاضلة. وعلى الذين تخلو أعمالهم القصصية من روح القصاص ومن حرارة الإنسان، ومن قبس الشاعرية، أن يبحثوا لهم عن عمل آخر في الحياة!

تحتوي هذه المجموعة على تسع قصص. كلها موسومة بهذه السمات التي أسلفت على تفاوت في حظها منها. وكلها موسومة بسمة أُخرى، هي دليل الصدق فيها جميعاً الأستاذ حبيب (الزحلاوي) ليس مصري الأصل - كما هو واضح من نسبته - وللبيئة في بعض جاراتنا الشرقية إشعاعات معينة، قد لا نحسها في البيئة المصرية على هذا النحو من العنف والوضوح. وهذه القصص تحمل - عدا طابعها الإنساني العام - طابع هذه الإشعاعات البيئية الخاصة

بعض هذه الجارات يضيق بسكانه، فهم أبداً يمدون أبصارهم إلى مطالع أُخرى: تارة تكون هذه المطالع نقلة جسم إلى حيث تتوافر وسائل الحياة. وتارة تكون نقلة روح، إلى حيث الغنى والثروة، أو السعة والحرية

وأقول الحرية، لأن التقاليد الدينية والاجتماعية، ولاسيما قبل ربع قرن، ربما كانت من الصلابة والشدة بحيث يفر منها الكثيرون ينشدون الحرية والطلاقة أما بأجسامهم وأما بخيالهم. فهناك أبداً رغبة في الانطلاق، وهناك أبداً شيء من العنف في التفلت من القيود، وفي الإقبال على الحياة

حلم الثروة، وحلم الحرية، هما الحلمان الواضحان في كل قصة من هذه القصص على وجه التقريب، وهما ينبعان من منبع واحد، ويتجهان في اتجاهين ومتضادين، يؤديان في النهاية إلى طابع واحد؟

هما ينبعان من الضيق بالواقع: الواقع المادي، والواقع المعنوي، الضيق بالمجال المحدود الذي لا يتسع لأهله من السكان. والضيق بالقيود والتقاليد، التي تقف دون أشواق الإنسان

وهما يتجهان في اتجاهين متضادين: أحدهما الرغبة في الغنى والحرص على جمع الثروة، (وقد تقود الرغبة والحرص إلى الجور على المتعة بالحياة، والانطلاق مع الأشواق) وثانيهما الرغبة في الانطلاق من القيود، والاندفاع للمتاع (وقد تقود الرغبة والاندفاع إلى التضحية بالغنى، والاستهتار بالمال)!

وهما يؤديان - في تناقضهما - إلى طابع واحد: طابع التقلقل والاضطراب، والحيرة بين هذا وذاك

وينشأ من هذا كله إشعاعات نفسية خاصة، هي التي تجمع في النفس الواحدة بين يقظة التاجر وحلم الشاعر؛ وبين عنف الثائر وترفق المهاجر، وبين استغراق البوهيمي، وروحانية الصوفي. .

وكل هذه الإشعاعات تبدو في هذه القصص على السواء. تبدو وتبدو معها صفحات في وصفها وعرضها وتحليلها، هي التي تجعلني أقول: إن هذه المجموعة من أفضل المجموعات التي ظهرت باللغة العربية

من عيوب هذه المجموعة أن يحفل بعضها بالتوجيهات الفكرية، والنظريات الفلسفية والاجتماعية، بحيث يطغى هذا على صور الانفعالات النفسية، والحوادث الواقعية. والفن فن. وهما يكن للعلم والفلسفة من مكانة. فيجب ألا يجتازا عتبة الفن إلا بمقدار، ومقدار لا يبرز بل يبقى وراء الستار

وقصة (إشاعة طلاق) مثال بارز لهذا العيب في المجموعة، فهي قصة رجل فنان تزوج، وسارت حياته الزوجية في المبدأ كما يبتغيها فنان، ثم نظر. فإذا المرأة قد صارت أماً وربة بيت لا عروساً جميلة، ولا زوجاً أنيسة. فضاق بها وهجرها، وانطلقت في محيطهما (إشاعة طلاق) وفي النهاية يرسل إليها رسالة طويلة، يشرح لها فيها ما دعاه إلى العزلة، ويبين لها وظيفة المرأة الكاملة، مع رجلها الفنان

في هذه الرسالة (توجيهات) أطول مما تحتمل الأقصوصة، وأبرز مما يحتمل العمل الفني. وهذه التوجيهات لها قيمتها في ذاتها، وهي تحليل صحيح لنفسية الفنان، ولوظيفة المرأة ولواجب الزوجة. ولكن قيمتها هذه لا تبرر حشرها - بهذا الطول - في أقصوصة وكان خيراً أن تبدو في حركات ولفتات، لا في عبارات وكلمات

ومن عيوبها كذلك بعض أخطاء السياق كما في قصة (تربص القدر) حيث يلتقي القصاص بزميل له لم يره منذ ست سنوات. كان هذا الزميل من الدعاة ضد الزواج. فإذا لقيه اليوم بغتة، اندفع يقص عليه أنه تزوج وأنه أسعد مخلوق بهذا الزواج. ثم يقص عليه كيف تزوج في نوبة حماسة إنسانية وكيف وجد الحياة الزوجية التي كان يخشاها حياة جميلة حافلة بما لم يخطر له على بال. . . وبعد هذا كله يفاجئه بأن زوجته قد ماتت منذ أيام، وأن حياته الآن لا تطاق، وأنه خرج ذاهلا يتمشى في الطرقات!

إن أنساناً منكوباً، خرج ذاهلا يتمشى وحده في الظلام حين يلقى صديقه لا يكون من التماسك بحيث يبدو سعيداً، وبحيث يقص أولاً قصة سعادته. إن الطبيعي في هذه الحالة أن يبادر صديقه بقصة نكبته التي تسيطر هذه اللحظة على نفسه، وتتراءى مجسمة في خاطره، ثم يتدرج منها إلى استعراض سعادته الضائعة

ولقد يبدو - من وجهة الفن القصصي - أن الطريقة التي سلكها المؤلف هي الأولى. لأنها تضمن شوق القارئ ومفاجأته مرتين: عندما يعلم بزواج هذا الذي كان داعية ضد الزواج، وبسعادته فيما كان يفر منه ويخشاه. ومرة عندما يعلم بالكارثة التي كان يتربص بها القدر، لينزلها به وهو في أوج سعادته

ولكن الصدق في عرض هذا الإنسان - وهو في حالة الذهول بالنكبة - أولى من كل حيلة فنية. وعلى قواعد العرض الفني أن تتحور وتحتال لتحقق الصدق - وليس على الصدق أن يتحور ويحتال! وقد كان هذا ممكناً لو أن المؤلف حكى عن زميله ولم يدعه يعرض حكايته بنفسه. أو لو أنه سلك آية طريقة أُخرى من طرق العرض الفني الكثيرة

إلا أنني احب هنا أن أنبه إلى أن هذه القصة لا تقوم على الحادثة وحدها. إنما تقوم - كمعظم قصص المجموعة - على استعراض المفارقات النفسية، والخلجات الشعورية والالتفاتات الذهنية، وهذا ما يجعل لها قيمة، وما يجعلنا نناقش عيوبها - كما نراها -

ومن عيوبها أن تغلب قوة المفاجأة على بساطة الطبيعة في قصة واحدة هي (عين زكية). فقد التقي القاص في ليلة زفافه والكاهن يربط بينه وبين زوجته برباط الأبدية. التقى بعيني فتاة استطارتا نفسه، فتمنى لو لقيها قبل هذا الرباط الذي ضاقت به نفسه منذ هذه اللحظة. ثم تسير القصة وقد علم فيما بعد أن هذه الفتاة صديقة زوجه. فكان هذا وسيلة إلى اجتماعهما وارتباطهما عشر سنوات. يستمتع فيها بالفاكهة المحرمة من بعيد، وتأبى هذه الفاكهة أن تستجيب لمن يطلب يدها، لأنها تؤثر حياتها في هذا الثالوث العجيب! ويستعرض المؤلف هنا مشاعره وخوالجه في كل موقف استعراضاً جميلا

وفجأة تعلم في النهاية أنها صنعت ذلك كله، لأنها تهيم بزميلتها!

لا نكران في أنها مفاجأة تامة لا يوجد في القصة أي إشعار سابق بها فلها في النفس هزتها. ولا نكران أن فيها سخرية بكل أحلامه وهواجسه، فقد كان يحسب ذلك كله لأجله! ولا نكران أن هذا الشذوذ هو حالة مرضية يعترف بها علم النفس الحديث!

ولكن هذا كله لا يساوي أن تسير الحياة على طبيعتها، وإن تكون هذه العقدة بسبب أي حادث آخر غير هيامها بزميلتها، وأن تختم القصة خاتمة أُخرى هنالك أقصوصة سلمت من كل عيب في هذه المجموعة، وفازت بكل ميزة من ميزاتها. هي قصة (هواجس) توازنت فيها الانفعالات النفسية والبحوث الفلسفية. وسار السياق مشوقاً حتى نهايته. واتسمت حبكتها بسمة الطبيعة الصادقة. واختلطت فيها الشاعرية المرفوفة، بالواقعية الصحيحة. وتوافرت لها كل عناصر الأقصوصة الجيدة

وهناك خمس أقاصيص أُخرى تتراوح بين الأقاصيص الثلاث السابقة وبين هذه الأقصوصة الجيدة؛ فتأخذ من هذه وتأخذ من تلك، وتبقى وسطاً بينها جميعاً

سيد قطب