مجلة الرسالة/العدد 589/صور من حياة أبي العلاء بين بدى ذكراه الألفية
مجلة الرسالة/العدد 589/صور من حياة أبي العلاء بين بدى ذكراه الألفية
أبو العلاء المصلوب!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
(يطالع قارئ ديوان (اللزوميات) لأبي العلاء صوراً شتى من
حياة هذا الرجل، حتى ليختلط على القارئ المتعجل تمييز تلك
الشخصية بميزات وسمات تلازمها ولا تفارقها
غير أن حركة صور تلك الحياة في ذهني تكاد تستقر على مقطع واحد من مقاطع نظري إليه، وهو مقطع صورة لرجل مصلوب!)
كأنما الأقدار قد أطالت صلبه ليترجم عن معاني الألم والتشاؤم والسأم والشك والتبرم، وانتقاد شريعة الاجتماع، والانتفاض على شريعة الحياة نفسها. وكأنه كان رسول هذه المعاني في الأدب العربية، جاء لينذر الناس بنذر من عالم الفناء والتعطيل والظلام والآلام. فهو في آفاق هذا العالم رائد خبير، قطع حياته كلها يجوس بعينيه المطموستين في أمواجه الغامرة لم يبزغ عليه فجر نور يزوده بصور باسمة للحياة يتذكرها ويلهو بذكراها في رحلته القاسية الطويلة، إذ حرمته الأقدار بعض أسباب السلوى والنسيان والتلهي، وضاعف هو حرمان نفسه، إذ رفض بقية ما سلبته الحياة. فكتب على نفسه بيده أسباب نقمته الموصولة، وقد أعانه على إدمان آلامه ذاكرة واعية، وحافظة مصورة، وخيال خلاق مثال، بلغ من قدرته أنه كان يرى في كل لفظ من محصول اللغة التي كان فيها إماما قالبا لمعنى من معانيه، ونواة لفكرة من أفكاره، لا يلبث أن يدور حولها دورة يخرج منها معنى يضم إلى أسرة المعاني العلائية المعروفة
وقد نجح في أداء رسالته، فقبس (أقبساً) داجية من عالم التعطيل والظلام ونقلها إلى عالم الحياة والحركة والافتنان والاستسلام، وأتى من وديانه بصور وتهاويل وأشباح تطالع قارئ ديوانه (اللزوميات) فيقبل عليها في ارتياع ووجل وشوق غامض كما يقبل على عالم الضوء بعرائسه وأشباحه البيضاء الآنسة المأنوسة! فيبصر ذلك الجانب الآخر من حياة قانونها المزاوجة بين المسرات والآلام، وينبه السكارى باللذة إلى ما هنالك من الس بالألم:
وأوقدتِ لي نار الظلام! فلم أجد ... سَناكِ بطرْفي بل سِنانكِ في ضِبْني
وقد أوثقته الأيام على صليبه في محبسه، وسمرت جوارحه بمسامير العجز، وحررت فكره ولسانه وبيانه. والبيان قوة خطرة في مثل هذه الحال، تخلق ما ليس موجوداً، وتبالغ في الموجود حتى تخرجه إلى الإحالة، وتخدع صاحبها قبل غيره، وتضخم تهاويل الحرمان والعجز، حتى تصير كابوساً يأخذ بالأنفاس. . .
ومن عجيب أمر الحياة مع المعري أن أطالت عمره مصلوباً وحيداً إلا من صحبة نفسه التي لقي منها البرح البارح، ولقيت من فكرة الحيران العذاب المضاعف
وقارئ (اللزوميات) يخيل إليه أنه أمام آهات موصولة من ذلك (الفكر) المصلوب الذي أكلت من رأسه وتخطفته طيور الشك والألم والحيرة وإرهاف الحس وعدم الصبر على الفتنة بالناس، وعلى السير معهم على سطح الوجود بدون تعمق وطلب لما لا ينبغي أن يطلب. وكأن ذلك القارئ أمام مريض مزمن يتقلب على فراش شائك. ولم تكن حالات التسليم والهدوء والرجوع إلى معاني سطح الحياة تعتري المعري إلا كما تهدأ الحمى عن مريض برهة مخطوفة، ثم لا تلبث أن تعود في إلحاح ولجاج وإنهاك
وقد قلت في مقال سابق: إن السكر بالألم سكر خطر، أشد خطورة من السكر باللذة؛ لأن في الثاني إقبالاً على الحياة واعترافاً بها، وحب تذوق لفرصتها ألعابرة، وخواطر مسرة ورضا عنها وعن أفانين الإبداع فيها. أما السكر بالألم فيحمل على هذيان فيه رفض للحياة جملة، وتعطيل لحركتها في النفس، وخواطر سخط على صانعها، وانتقاد لنظمه فيها، وانتقاض وثورة وإباق وفرار وحقد دفين وغيط معلن وفضول وتدخل من كائن صغير ضئيل في السياسة العليا للحياة
سكارى اللذة قد يسخرون بشريعة الاجتماع ويحطمونها من فرط وفور القوة وَتَوَفزِ الحس والشعور بما فيها من متاع عبقري تستجيب له نفوسهم، ولا يقفون في استجابتهم له عند الحدود التي دلت تجارب الأحياء الذين كان لهم مثل هذه الاستجابة النهمة على أنها حدود يلزم الوقوف عندها واحتجاز النفس دونها إبقاء على تلك الاستجابة ذاتها، وإدامة لتجددها وطلبا للمزيد منها. ومن السهل رجوع سكارى اللذة إلى أحضان شريعة الاجتماع باستخدام منطق التجارب في إقناعهم. فكل عيبهم أنهم أطفال جياع شرهون امتدت طفولتهم فاستمروا على حب الحلوى والزينة والمتاع بهما في إسراف، وسخطوا على (صمامات) الأمان و (فرامل) النجاة التي تتمثل في شريعة الاجتماع التي لا يدركون فيها مصالحهم الذاتية قبل مصالح غيرهم
أما سكارى الألم فيحملهم هذيانهم على تحطيم (شريعة الحياة) ذاتها، ولا يعترفون بها، ويقفون من صانعها وجها لوجه وقفة الند للند ثائرين صاخبين ساخطين!
والآن لننتقل بخيالنا لننظر ذلك الشيخ الأعمى المسمر على صليبه يحملق في وجه الظلام السرمدي بعينيه المطموستين، وأمام شفتيه كأس من الحنظل يرشف منها رشفات، ويئن من توقد جمرات الإحساس بالحياة. فينشد معلناً معاني نفسه ويطرحها قضية جريئة ثائرة. . .
فكونُك في هذه الحياة مصيبةٌ
أرى جُرَع الحياة أمَرَّ شئً ... فشاهِد صِدْق ذلك إذ تُقاءُ
شربت قهوة هَمٍ كأسها خَلَدي ... وفي المفارق مما اطلعتْ زَبَدُ
أرى جزء شهدٍ بين أجزاء علقم
أكُلتها جمرةً حرارتُها ... صدت أخا الحرص عن تنعمها
أف لها! جُلُّ ما يفيد بها ... من فاز فيها الطعامُ والباءُ
من لي بترك الطعام اجمعَ ... إن الأكل ساق الورى إلى الغبن
إلى الأنين استراح خِدنُ ضَنّى ... كما استراح السقاةُ بالرجز
ثم تذهب خواطره إلى نوع من ثورة العاجزين الذين يملكون الأفكار الثائرة ولا يملكون الأعمال المحررة التي تحررهم من إسار الحياة العنيف الكريه فينشد:
هذه الحبالة قد ضمت جماعتنا ... فهل ينوصُ فتى منها وينفلت
خلصيني من ضنك ما أنا فيه ... واطرحيني لمنكر ونكيرِ
إلام اجر قيود الحياة ... ولابد من فك هذا الإسار
آه لضعفي! كيف لي هابطاً ... في الوأد أو مرتقياً في العقاب
وما فتئت وأيامي تجدد لي ... حتى مللت ولم يظهر بها ملل
ربِّ متى أرحل عن هذه الدنيا ... فقد أطلت فيها المقامْ وقد تحمله سكرته على حالة يكون فيها مستغرق الفكر في ذهول الحالم
فيالك من يقظةٍ ... كأني بها حالم
والمرء في حال التيقظ هاجع ... يرنو إلى الدنيا بمقلة حالم
وقد تحمله يقظته المرهفة على حالة يكاد فيها يعد أنفاسه سأما وحساسية ببطء مرور الزمن كبطء مرور مبهور الأنفاس أو مرور نمالِ صغارٍ على كثيب من رمال.
وأنفقت بالأيام عمري مجزءا ... بها اليوم ثم الشهر يتبعه الشهر
يسيراً يسيراً مثل ما أخذ المدَى ... على الناس ماشٍ في جوانحه بُهرُ
كذرٍ علا ظهر الكثيب فلم يزل ... به السير حتى صار من خلفه الظهر
وهو شديد الشعور بجزئيات الزمن يتلقاها برهة برهة وتشد عليه سلاسلها، وهو واقف في إسارها جامد لا يتحرك
بتُّ أسيراً في يَديْ برهة ... تسير بي وقتَي إذ لا أسير
وهو يرصد دورات حياته المحدودة المكررة فلا يجد فيها مذاقاً جديداً للحياة:
أُقضِّي الدهر من فطر وصوم ... وآخذُ بُلغةً يوماً بيوم
أعيش بإفطار وصوم ويقظة ... ونوم فلا صوماً حمدت ولا فطرا
تداولني صبح ومُسى وحِندسٌ ... ومر على اليومُ والغد والأمس
غدا رمضاني ليس عني بمنقض ... وكل زماني ليلتي آخر الشهر
وهي حالة يبلغ من إلحاحها على صاحبها أنه يتعجل دورة الفلك ويتطلع إلى الغد قبل مرور اليوم:
أصبحت في يومي أسائل عن غدي ... متخبراً عن حاله مُتندَّسا
متى يتقضى الوقت والله قادر ... فنسكن في هذا التراب ونهدأ
ويزيد ن وطأة الشعور بهذه الحالة التعسة أن يرى صاحبها خلاص قرنائه ولذاته ومصارع الأقوام حوله، وبقاءه هو فريداً مردوداً إلى أرذل العمر
يمر الحلول بعد الحول عني ... وتلك مصارع الأقوام حولي
ثم يفر إلى تخيل يومه هو عندما يحين حينه فيرتاح
كأني بالأُلى حفروا لجاري ... وقد أخذوا المحافر وانْتَحوْا لي ثم يصيبه الإعياء والكلال من كثرة إرساله خواطر الثورة والحيرة والنفرة من الحياة والتشكيك فيها والسخط عليها ومضغ ألفاظ الألم والشؤم والكذب على الحياة، والإيغال في تخيل تلك الصورة الكئيبة التي يرددها دائماً على نفسه ويملأ بها حياته، فيعود إلى الصمت والأخذ عن الزمن الناطق الواعظ الخبير المصر على كلماته الأزلية:
قام للأيام في أذني ... واعظ من شأنه الخرسُ
أوجز الدهر بالمقال إلى أن ... جعل الصمت غاية الإيجاز
منطقاً ليس بالنثير ولا الشعر ولا في طرائق الرجاز ولقد تبلغ به في بعض الأحيان زلزلة الشك في صدق ما يقول من تلك الخطرات التي يظهر أن كثيرا منها كان وحي اللفظ أو القافية أو الخضوع لحب الأغراب، أن يشعر بصوت الزمن الصامت البليغ يرد عليه دعاويه ويفندها ويبكته
كادت سِنِيَّ إذا نطقت تقيم لي ... شخصاً يعارض بالعظات مُبَكِّتا
ويقول:
من بعث اللسان بغير ما ... أرضي فحقٌّ أن يُهان ويسكتا
دنياك لو حادثتك ناطقةً ... خاطبت منها بليغة لَسِنَهْ
تلك هي الصورة الأصيلة لأبي العلاء، لا يخطر ذكره بالبال، إلا وتتراءى لعارفيه أوضح ما تكون خطوطاً وقسمات. وهي صورة تتصل بمزاجه وشخصيته أكثر مما تتصل بفكره وفلسفته، وهي هالة اسمه وطابع شخصه. وله صور أخرى تتصل بآرائه وثقافته ومذهبه الكلامي
عبد المنعم خلاف